العراقيون يأتون على مدار الساعة للحديث مع الأميركيين على أبواب القصر الجمهوري ورفع الشكاوى وطلب الوظائف والاحتجاج على نقص الكهرباء

TT

منذ اكثر من اسبوعين والبوابة المؤدية الى استعلامات القصر الجمهوري في بغداد لم تشهد مظاهرات صاخبة، بعد ان اطلق الجنود الاميركيون النار على عسكريين سابقين كانوا يحتجون على حل الجيش العراقي.

هذا ما يبدو في الظاهر، الا ان الحركة المطلبية ما زالت مستمرة على الرغم من مزرعة الاسلاك الشائكة التي تحيط بالبوابة من جهتين وبالشارع القريب منها. وبالرغم من صراخ الجنود الاميركيين، وطلبهم عدم الاقتراب، فان المتجمهرين يحملون مطالب شتى الى هذا المكان، بدءا من السعي للحصول على عمل ووصولا الى المطالبة باعادة توصيل الكهرباء. «التصوير ممنوع» في هذا المكان، كما قال احد الحراس، وعندما اكتشف ان الكاميرا تلتقط صورا لـ«المشتكين»، هدد بسحقها بحذائه، ومع ذلك تم تسجيل ما امكن تسجيله، عن قرب تارة، وعن بعد تارة اخرى. ويبدو ان الطقس التموزي اللاهب يثير الاعصاب في هذا المكان، وتخلى الوافدون عن اسلوب التظاهر، ليأتوا فرادى، او على شكل مجاميع صغيرة.

من بين المجموعة التي شاهدناها، انفرد طارق سلمان على حدة، وخلفه كومة من الاسلاك، بينما تتدلى مسبحة من «الكهرب» من يده. ما الذي يفعله طارق، 50 سنة، في هذا المكان.. وهو لا يبدو من الباحثين عن عمل او المطالبين بالكهرباء؟

يقول طارق: جئت لأشكر الاميركيين، ولكنهم طلبوا مني الابتعاد.

* تشكرهم على ماذا؟

ـ لأنهم خلصونا من صدام حسين ونظام حكمه.

* لكن ذلك كان قبل ثلاثة اشهر؟

ـ ما الفرق..؟

وعبثا حاولنا الحصول على تفسير لقوله (ما الفرق؟)، لانه لا يحبذ التفسيرات، كما يقول. بين جمهرة المتجمعين، كان هناك عبد الستار محمد حسن، من المحمودية، يستفسر عن اسباب شح مادة «الكازولين»، وفقدانها في محطات التعبئة. ويقول عبد الستار: «ان الكهرباء هي اهم شيء بالنسبة لنا، وعندما انقطعت الكهرباء الحكومية اخذنا نعتمد على المولدات للاستخدامات المنزلية، والاهم منها لتشغيل «ماطورات» المياه في المزارع. ان توقفت المولدات يعني موت الزرع، اضافة الى معاناتنا نحن وعوائلنا جراء شدة الحرة. قالوا في مدينتنا ان الموجودين في القصر يستمعون الى شكاوى الناس، وقد طلب مني المترجم كتابة الشكوى، وكتبتها، وقدمتها اليهم، ولكن يبدو ان لا جدوى من ذلك».

* لماذا تعتقد بعدم جدوى المطالبة؟

ـ هنا يفهمون الحرية ان الشخص يستطيع التكلم، ويستطيع ان يرفع صوته. ويمكن ايجاز هذه الحرية بـ«قل ما شئت، ونفعل ما نشاء».

اما الحاجة «ام حسن»، فقد اتت باوراق ثبوتية قالت انها لا تريد ان تسلمها الى موظف الاستعلامات، بل الى بول بريمر الحاكم المدني الاميركي مباشرة. وهي تقول انها تأتي الى هنا للمرة الرابعة، من دون جدوى. وتقول «كانت لدي قطعة ارض مجاورة لأرض اخرى لأحد اقرباء الرئيس السابق (صدام) فاستولى ذلك القريب على القطعتين معا، ليشيد عليها قصره». وحسب الوثائق الموجودة لدى ام حسن، فان نصف ذلك القصر مبني على أرض لها، وقالت انهم استغلوا ارضها طوال خمس عشرة سنة.

* وما الذي يمكن ان يفعله لك بريمر؟

ـ لقد خلصونا من صدام، فلماذا يتركون اعوانه واقاربه يعيثون فسادا؟ لماذا يتركونهم كسارقين مغتصبين؟ أليس من الواجب محاكمتهم؟

ولم تفت الحاجة ام حسن روح الدعابة. فاقترحت علينا ان نعطيها نصف المبلغ الذي تعطينا اياه الصحيفة عند ظهور صورتها وتصريحاتها فيها.

عمر جاسم (خريج كلية الآداب، فرع اللغة الانجليزية) يقول انه تقدم بطلب للعمل كمترجم ولم تظهر نتائج القبول لحد الآن، على الرغم من انه اجتاز الاختبار بنجاح منذ اسبوعين. وهو ينتظر عند البوابة، وتكاد نظارتاه تنطقان بالتساؤل كلما ظهر مترجم، او احد الموظفين. وكذلك جاسم راضي (خريج كلية التربية) الذي يقول انه يعمل حمالا في الشورجة منذ اربع سنوات، طرق كل الابواب بحثا عن عمل لائق، وهو يطرق الآن باب الاميركيين، لعله يجد حلا.

اما محمد صبحي، وصبيح الزبيدي، فهما يبحثان عن حل لمشكلة الكهرباء التي حرمت العوائل العراقية النوم والعمل. وفي الحقيقة، يكاد يجمع كل من التقيناهم على ان الكهرباء يمكن ان تحل الكثير من مشاكلهم، لأن توفرها يعني توفر العمل والامان.

ولكن المحامي بدري الدباغ له قضية اخرى. فهو الوحيد الذي التقيناه وهو يراجع بشأن قضية سياسية، فقد اعتقل ولده اسامة قبل اربعين يوما بتهمة عقد اجتماع لخلية بعثية في كلية الشرطة.

يقول الدباغ: «جئت على امل مقابلة المسؤول الاميركي عن وزارة العدل، حيث وعدوني بهذا اللقاء، جئت لاسأله هل يجوز في القانون الاميركي ان يتم توقيف شخص لمدة اربعين يوما من دون توجيه تهمة محددة له؟ ان ولدي اسامة لم يكن في سلك الشرطة اساسا، بل هو اعلامي، تم تنسيبه الى كلية الشرطة كمدرس لمادة الاعلام، وقبل بذلك لكي لا يذهب الى «قادسية صدام».. واصبح مترجما لدى قوات التحالف في الايام الاولى بعد سقوط صدام، ثم استدعي ـ مع كادر الكلية ـ للالتحاق بعمله، وتم اعتقالهم. هل من المعقول ان يعقد اساتذة كلية الشرطة اجتماعا في الكلية التي يتخذ منها الاميركيون مقرا لهم؟».

ويضيف: «ان مكيدة دبرت قبيل اجراء انتخابات مجلس الكلية، لكي يفوز من هم دون المستوى المطلوب. ويذهب اصحاب الكفاءات الى المعتقل».

في غضون ذلك، علا صوت محمد جواد علي (ميكانيكي) الذي جاء مرتديا (تي شيرت) وقبعة.. منعه الجنود الاميركيون من الاقتراب، ولكنه ظل يصرخ بأعلى صوته: «ما الذي يريدونه مني هؤلاء الاميركيون. انهم يراقبونني ليل نهار، اراهم تحت نافذة بيتي، وفي الليل يوجهون اضواء طائرات الهليكوبتر الى السطح. انا لست ضدهم. لو كنت ضدهم لم لا يعتقلونني. لماذا يراقبونني هكذا؟ جئت لأقول لهم اذهبوا وراقبوا غيري فانا لست مجرما، لو كنت مذنبا فليعاقبوني انا، ولكن ما ذنب عائلتي واطفالي، لكي يقطعوا عنهم الكهرباء والماء؟».

كان منفعلا جدا، وقال: «اكتبوا هذا في الجريدة. فليكف الاميركيون عن ملاحقتي». ربما كان ذلك الصراخ نوعا من الرهاب النفسي، وانعكاسا لتاثيرات الحرب، او الحر.

ولكن لما كانت الكهرباء، والكهرباء، والكهرباء، والخدمات هي هاجس الجميع، فقد كان لنا لقاء سريع مع الملازم الاول م. أ. جونسون المسؤول عن قطاع الرشيد، ويشمل مناطق الدورة والسيدية والبياع. فقال انه غير مخول بالتصريح في امور لا تعنيه، ولكنه ـ حيث تقع منطقة الدورة ضمن مسؤولياته ـ يمكن ان يرتب لنا زيارة الى مصافي الدورة، والى محطة كهرباء الدورة حيث تعمل شركة سيمنس الالمانية ليل نهار لاعادة تأهيل هذه المحطة الرئيسية في بغداد.