رحلة العمليات الانتحارية من فلسطين إلى السعودية: من أجاز للمحاصرين في عملية مسجد الصوير قتل أنفسهم؟

جدل بين الفقهاء: القرضاوي وآخرون في الأردن والأزهر أباحوا العمليات الانتحارية الفلسطينية ومفتي السعودية وابن عثيمين وقفوا ضدها * فتوى الشيخ الراحل محمد بن إبراهيم بجواز قتل الأسير الجزائري نفسه استغلتها الجماعات الإرهابية

TT

لماذا فجر المتحصنون في مسجد الصوير أنفسهم؟ هذا مؤشر خطير يعلمنا بمدى التحولات التي تحدث الان لدى جماعات العنف الاصولية، والى أي نقطة وصلت قاطرة فكرهم وعملهم.. فالمراقب لوتيرة العمليات الإرهابية التي تمت في السعودية اخيرا، يلحظ تطورا نوعيا في أساليب التنفيذ، مقارنة بتفجيرات العليا في الرياض عام 1995 والتي نفذت بسيارة مفخخة. ولكن الاكثر غرابة اذا كان تفجير النفس بهدف تنفيذ عملية انتحارية في وسط صفوف (العدو) مفهوما، من ناحية المنطق العسكري، وليس مقبولا من ناحية المنطق الاخلاقي، فان مالا يفهم هو كيف يفجر الانسان نفسه وهو موقن انه لن يوقع خسائر في خصمه جراء هذا العمل الانتحاري، مما يجعله نوعا من العبث وقتل النفس الخالص.

وتزداد الغرابة حينما يكون هذا العمل صادرا من أشخاص يقولون انهم يتبنون الإسلام ويدافعون عنه في حين ان الدين الاسلامي الذي ينهى بشدة عن قتل النفس، كما روى البخاري ومسلم في التحذير من الانتحار، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار».

في عمليات 12 مايو (ايار) الارهابية في الرياض قام مهاجمون انتحاريون بتفجير أنفسهم داخل مجمعات سكنية، واسقطوا معهم عشرات الضحايا المدنيين من قتلى وجرحى. وأما في عملية مسجد الصوير في شمال السعودية الخميس الماضي، فان الذي حدث طبقا لبيان وزارة الداخلية السعودية، هو أن أربعة من المحاصرين، على رأسهم المطلوب الأول تركي الدندني، فجروا أنفسهم حينما داهمتهم القوة الأمنية. ويبدو أن الهدف من تفجير أنفسهم لم يكن ايقاع قتلى في صفوف القوات السعودية، بقدر ماهو التخلص من خطر الاعتقال. وهنا يكمن الفرق بين تفجيرات الرياض وما حدث في الصوير.

وسواء كان هذا العمل يصنف في خانة العمليات الانتحارية، كما حدث في الرياض، او في خانة الانتحار خوفا من افشاء الاسرار، كما يبدو انه حدث في الصوير، فان هناك ادبيات تؤصل لمثل هذه الاساليب في ما يسمى بالعمل الجهادي. فالعلميات الانتحارية او الاستشهادية لم تكن محل اتفاق بين فقهاء المسلمين المعاصرين، فقد وافق عليها فريق وعارضها فريق اخر. وكان كل ذلك ضمن سياق الحديث عن المقاومة في فلسطين.

فهناك فتوى لمجموعة من العلماء في الأردن بمشروعية العمليات الانتحارية (الاستشهادية) وفتوى جبهة علماء الأزهر في نفس الاتجاه. يقول الدكتور يوسف القرضاوي في مشروعية هذه العمليات «إن هذه العمليات تعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله، وهي من الإرهاب المشروع الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) الأنفال.60: ويبين د. القرضاوي أن تسمية العمليات بـ«الانتحارية» تسمية خاطئة ومضللة، فهي عمليات فدائية بطولية استشهادية».

في نفس السياق يؤكد د. محمد سعيد رمضان البوطي، من علماء سورية، مشروعية تلك العمليات بالقول «هذه العمليات مشروعة مائة بالمائة إذا كان قصد القائم بها النكاية بالأعداء وليس إزهاق روحه». وكان لشيخ الازهر مواقف مختلفة في هذا الخصوص، فقد ابدى تحفظا شرعيا على هذه العلميات، ثم عاد وايدها في رده على طلب رجال الدين اليهود تدخله لمنع العمليات الانتحارية التي ينفذها الفلسطينيون.

اما في السعودية فقد ذهب بعض الفقهاء الكبار الى عدم مشروعية العمليات الانتحارية. قال الشيخ محمد بن عثيمين، احد ابرز الفقهاء السعوديين، والمتوفى قبلَ أحداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001، في إجابة له على سؤال حولَ رأيه في العمليات الانتحارية «رأيي في هذا أنه قاتل لنفسه، وأنه سيعذب في جهنم بما قتل به نفسه، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الجاهل الذي لا يدري وفعله على أنه فعل حسن مرضي عند الله أرجو الله سبحانه وتعالى أن يعفو عنه لكونه فعل هذا اجتهادا، وإن كنت أرى أنه لاعذر له في الوقت الحاضر لأن هذا النوع من قتل النفس اشتهر وانتشر بين الناس، وكان على الانسان أن يسأل عنه أهل العلم، حتى يتبين له الرشد من الغي. ومن العجب أن هؤلاء يقتلون أنفسهم مع أن الله نهى عن ذلك وقال (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما). وكثير منهم لا يريدون إلا الانتقام من العدو على أي وجه سواء كان حلالا أو حراما، فهو يريد ان يشفي غليله فقط، أو يروي غليله، ونسأل الله أن يرزقنا البصيرة في دينه والعمل بما يرضيه إنه على كل شيء قدير». (مجلة الدعوة: العدد ـ 1598 ـ 28 صفر 1418 هـ).

ودعما لنفس الرأي يرى القاضي والمفتي السعودي عبد المحسن العبيكان، في حديث لـ«الشرق الاوسط» عدم جواز العمليات الانتحارية، الذي قال عن العمليات في فلسطين «منذ زمن وأنا أفتي بتحريم العمليات الانتحارية وليست الاستشهادية كما يسميها البعض فهي تسمية خاطئة، وثار حينها الكثيرون، ولكنني ما زلت متمسكاً برأيي بأن مثل هذه العمليات محرمة، ولا توجد أدلة تؤيدها لا من كتاب ولا من سنة. فهذه النفس يملكها من خلقها فكيف يُقدم المرء على قتل نفسه برغم الآيات الواضحة (ولا تـقتـلوا أنفسكم). وقوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة). علماً بأن الجهاد من العبادات، والعبادات توقيفية، الأصل فيها الحظر والمنع إلا مادلّ دليل صريح على مشروعيته، ولم يكن هناك دليل على تلك المشروعية وإنما الأدلة التي ذكرناها تمنعه. وقد أفتى بتحريم هذه العمليات جماعة من العلماء كالشيخ ابن باز، ابن عثيمين، الألباني، رحمهم الله، وكذلك مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وجمع كثير».

واما المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ فقال معلقا على طريقة قتل النفس بين الأعداء أو ما يوصف بالطرق الانتحارية «لا أعلم لها وجها شرعيا ولا أنها من الجهاد في سبيل الله وأخشى أن تكون من قتل النفس». وأضاف مفتي السعودية في حوار نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» أن «إثخان العدو وقتاله مطلوب، بل ربما يكون متعينا، لكن بالطرق التي لا تخالف الشرع».

وكان المفتي العام للسعودية يرد على سؤال مفاده أن «بعض الدول الإسلامية تتعرض لحرب أو احتلال من دول أخرى، فيعمد بعض أفرادها إلى مهاجمة أفراد البلد المعتدي بالطرق الانتحارية فيقتل نفسه ويقتل غيره من الأعداء، ويرون أن هذا لون من ألوان الجهاد في سبيل الله، وأن المنتحر شهيد».

وفي السؤال الاخير الموجه لمفتي السعودية يكمن سر الموضوع، فقد كان بعض الفقهاء يتوجسون خيفة، كما يبدو، من انتقال هذا النمط من العمليات العسكرية الى بلدان اسلامية اخرى تحت ذرائع مختلفة، فيخرج الامر عن الحالة الفلسطينية الخاصة الى سلوك شائع لدى الجماعات العنفية الاسلامية تطبقه في كل من تراه عدوا للاسلام. وهذا ماحصل حيث خرج الامر عن خصوصيته الفلسطينية الى توظيف هذا السلاح في المواجهات الشرسة التي تخوضها الجماعات العنفية ضد الدول الاسلامية، بنفس الذارئع والمسوغات الفقهية التي قيلت لتسويغ العمليات الانتحارية في فلسطين، وبات المتغير الوحيد ان الدول العربية والاسلامية حلت محل اسرائيل.

وعودة الى ما حدث في السعودية، فقد اصدر احد من قبضت عليهم السلطات الامنية مؤخرا بتهمة التحريض على العنف فتوى تجيز العمل الانتحاري، على العموم. حيث قال «العمليات الاستشهادية من الجهاد، بل هي اليوم من أفضل الجهاد في سبيل الله، ويدل على ذلك أدلة منها قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد)». ولكن يبقى الاحتمال الآخر، وهو ان يكون تفجير النفس بهدف عدم تمكين السلطات الامنية من القبض عليهم وبالتالي إفشاء أسرار التنظيم، والحقيقة ان هناك أدبيات كثيرة في اجازة هذا العمل من الناحية الفقهية لدى هذه الجماعات.

وتتكرر هنا نفس المشكلة، فهناك فتاوى لبعض الفقهاء المسلمين في اجازة هذا العمل في حالات خاصة، وفي اثناء المواجهات مع اعداء المسلمين الأصليين، او ما يعرفون في اللغة الفقهية بالكافر الاصلي، ولكن تأتي الجماعات الاسلامية العنفية وتنقل هذه الفتاوى من سياقاتها الخاصة وتوظفها في معاركها ضد خصومها السياسيين والفكريين.

فمثلا هناك فتوى بجواز قتل الأسير نفسه لعدم إفشاء الأسرار تحت التعذيب للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي السعودية السابق ورئيس القضاة فيها، توفي عام 1969، وكانت جوابا على سؤال من بعض المجاهدين الجزائريين إبان حرب التحرير ضد فرنسا عن مسألة قتل الأسير لنفسه لمنع إفشاء الأسرار للأعداء. فأجاب «الفرنساويون في هذه السنين تصلبوا في الحرب ويستعملون (الشرنقات) إذا استولوا على واحد من الجزائريين، ليعلمهم بالذخائر والمكامن، ومن يأسرونه قد يكون من الأكابر، فيخبرهم أن في المكان الفلاني كذا وكذا، وهذه الإبرة تسكره إسكاراً مقيداً، ثم هو مع هذا كلامه ما يختلط، فهو يختص بما يبينه بما كان حقيقة وصدقاً».

ويتابع المفتي السعودي ابن ابراهيم حيثياته «جاءنا جزائريون ينتسبون إلى الإسلام يقولون هل يجوز للإنسان أن ينتحر مخافة أن يضربوه بالشرنقة، ويقول أموت أنا وأنا شهيد، مع أنهم يعذبونه بأنواع العذاب؟ فقلنا لهم إذا كان كما تذكرون فيجوز، ومن دليله (آمنا برب الغلام). وقول بعض أهل العلم (إن السفينة ... الخ)». الا ان ابن ابراهيم ومع كل ماذكره من اعتبارات خاصة يبقي شيئا من التحفظ على هذا العمل فيقول «إلا أن فيه التوقف، من جهة قتل الإنسان نفسه، ومفسدة ذلك أعظم من مفسدة هذا فالقاعدة محكمة، وهو مقتول لا محالة». (فتاوي ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف ال الشيخ، الطبعة الأولى 1399هـ، جمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم / فتوى رقم 1479، صفحة 208).

وعلى نفس الطريقة وظف بعض المنظرين للتيارات الإسلامية العنفية هذه الفتاوى مضافة إليها استدلالات منزوعة من سياقها لإصدار فتوى بالانتحار خوفا من إفشاء الأسرار. واعتبار هذا الانتحار نوعا من الشهادة في سبيل الله، ففي كتاب (المختار في حكم الانتحار خوف إفشاء الأسرار) الذي ألفه احد السعوديين، خير مثال على ذلك، يقول فيه مفسرا تصنيفه لهذا الكتاب ومن يعني بأعداء الإسلام «حرصاً على النهوض بأمتنا الإسلامية من سفح الجبل الهابط إلى ذروته السامقة، وكف تلك الأيدي العابثة بمصير الأمة من يهود ونصارى، وأذنابهم ممن يدعي الإسلام من العرب أو العجم، وتتمثل هذه الأذناب في تلك الأنظمة الغادرة الخائنة العميلة».

ويبدو أن مؤلف الكتاب لم يجد صورة مطابقة في كتب الفقهاء تعطيه حكما في من يقتل نفسه خشية الوقوع في اسر السلطان فقال «وفي هذا الموضع أقول ليس لنا أن نطالب علماء السلف بتصور جميع المسائل التي قد تحدث أو تجد، سواء في عصرهم أو بعد عصرهم، لكي يضعوا لها أحكاماً شرعية مستنبطة من الكتاب والسنة».

لكنه يواصل ويفصل في أحوال المأسورين ويبين ان الذي يحمل سرا من المأسورين على نوعين فإما أن يكون سرا لا قيمة له ولا يضر بالعمل ولا تستباح بسببه (بيضة) الإسلام فهذا يتحمل ويجوز ان يقع في الاسر كما لا يجوز له قتل نفسه وأما الذي يحمل سرا مهما، كقادة التنظيم، فلا يجوز له تسليم نفسه إذا غلب عليه الظن انه سيفشي هذا السر، بل ينتحر ويعتبر شهيدا عند الله، حسب شرحه. ولكي يعزز موقفه الفقهي استدل مؤلف الكتاب الذي نشره على شبكة الانترنت في موقع (منبر الجهاد والفتوى) بفتوى المفتي السعودي الراحل محمد ابن ابراهيم التي قالها تعليقا على حرب تحرير الجزائر، والذي كان متحفظا فيها كما سلف. يعلق مؤلف كتاب (المختار في حكم الانتحار خوف افشاء الاسرار) قائلا «في نظري القاصر أن هذه الفتوى من الشيخ قاصمة الظهر لمن يسأل ويقول من سبقك إلى هذا القول، لذا وبعد أن عثرت على هذه الفتوى مؤخراً فإنني لا أرى غضاضة في أن أقول قد يتوجه وجوب قتل النفس على من وقع في مثل ذلك، صيانة لدماء المسلمين وأعراضهم».

كما استدل بفتوى للاخواني المصري حسن أيوب في كتابه (الجهاد والفدائية في الإسلام. ص 247 ـ 248) من جواز هذا الفعل، حيث قالها فيما يبدو قاصدا الحالة الفلسطينية التي زادت على نصف قرن من الزمان. والتي تقول «الانتحار إذا كان له مبرر أصيل وقوي، يتصل بأمر يخص المسلمين وينفعهم، وبدونه يحصل الضرر للمسلمين فإنه حينئذ يكون جائزاً. وذلك كأن يعذب إنسان من أجل الإفضاء بأسرار تتعلق بمواقع الفدائيين أو أسمائهم». ثم يخلص صاحب البحث الى ان الانتحار يجوز خوف إفشاء الأسرار، بشرط النية الخالصة وأن يكون السر مهما ً يترتب على كشفه ضرر كبير يلحق بالمسلمين، من هزيمة أو قتل أحدهم، أو هتك أعراضهم، أو الزج بهم في غياهب السجون وتعذيبهم مدداً طويلة لا يعلم أمدها إلا الله.

وعن ذلك يقول عادل بن زيد الطريفي، كاتب الشؤون السياسية السعودي «ان من يقومون بالعمليات الانتحارية يتعرضون لتوليفة غريبة من الاراء الفقهية الموظفة توظيفا رهيبا من اجل خلق حالة من الانقطاع التام عن المجتمع والدولة، كفكرة، وكحاجة مصيرية للإنسان، والقضاء على أي تردد نفسي أو ديني يخطر في وجدان من سيقوم بهذه الأعمال المذهلة».

ويضيف الطريفي «نستطيع ان نقرأ حالات الانتحار الفردية، بوصفها تعبيرا عن انتحار الايديولوجيا الاصولية التي تفرز هؤلاء الاشخاص والافكار. باختصار نحن امام ثنائية الموت ـ الانتحار في ازاء الحياة ـ المواطنة». خاتما بالقول «إن هذه المأساة الفكرية تجسد المسافة الهائلة التي تفصل بين الحقيقة الغائبة، والعقول المغيبة.