رحلة إلى البصرة.. مشاهدات بين الناس والأمكنة (4) ـ النساء يدفعن الثمن مضاعفا.. في عهد صدام وفي عهد الاحتلال

TT

* عندما كنت اتجول في سوق البصرة القديم، كنت ادرك وأنا اشاهد البصريات وهن يحملن الاكياس المليئة بالخبز والخضار، وعلى رؤوسهن صفائح المياه التي ينوء بحملها الرجال، انهن، مثل كل النساء العربيات، من اضعف قطاعات المجتمع، وأكثرها تعرضا للمظالم.

* وعندما كنت في طريقي للقاء السيدة انعام حامد، عضو «تجمع النساء والحرية» الذي انشئ في البصرة اخيرا، كجمعية نسائية للدفاع عن حقوق نساء البصرة الاساسية، لم اكن متأكدا من ان عضوات هذه الجمعية المختصة بالدفاع عن المرأة، يقلدن الجماعات النسوية الغربية، في تحميلها الرجل (كجنس) مسؤولية القهر الواقع على المرأة، ام يعرفن ان تحرير المرأة يرتبط ارتباطا وثيقا بتحرير المجتمع، رجالا ونساء، من الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. الحق انني لم اخف سعادتي، وانا استمع للسيدة انعام حامد، وهي تضع يدها على الجرح:

ـ اول مشاكل المرأة في البصرة هي مشكلة الخدمات، فالنساء هنا يدفعن الثمن الحقيقي لانهيار الخدمات في البصرة.. المرأة هي التي تحمل صفيحة المياه، لمسافات طويلة على رأسها، كي تروي عطش اسرتها.. وهي التي تتعرض للعقاب، ان لم تجد نارا، لتطبخ الطعام لاسرتها.. هي التي تدفع الثمن الحقيقي، وخصوصا انها أعجز من ان تدافع عن نفسها، اذ ان 80% من نساء البصرة يعانين من الامية، وبالتالي من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. ايضا هي التي تعاني اولا من عدم توفر فرص العمل، فاذا كانت البطالة بين الرجال تقترب من 30%، فانها تتجاوز 60% بين نساء البصرة الاميات والمتعلمات على السواء.

وقالت ايضا:

ـ اذا كان المجتمع كله قد افتقد حرية ابداء الرأي في الماضي، مثل حرية الانضمام للاحزاب، او التظاهر، او تشكيل الجمعيات الاهلية، فان المرأة بحكم عوامل اجتماعية عديدة، اخطرها التقاليد العشائرية، التي تتخذ اشكالا دينية وقبلية.. اهم ما تحتاجه المرأة في البصرة هو حريتها في المشاركة في الحياة العامة..

قلت لها:

* لكن جهاز الدولة انهار بعد الاحتلال، وليس هناك ما يمنع المرأة من المشاركة في الحياة العامة؟! قالت: المشكلة ان الاصوليين المتطرفين نشطوا اخيرا للتقليل من شأن المرأة وقيمتها.. المرأة عندنا تضرب في البيت، وتهان، وخصوصا في الريف، واطراف المدن.

واضافت: نأمل عند صياغة الدستور العراقي الجديد، ان يتم تعديل قانون الاحوال الشخصية لتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات للرجل والمرأة، فليس للمرأة العراقية حاليا الحق في طلب الطلاق، كما ان حقها في حضانة ابنائها ينتهي عند بلوغهم سن السابعة، ونحن نطالب بأن يمتد حق الحضانة حتى يبلغوا 15 عاما. كما قالت: هناك ضرورة لإلغاء «زواج الوكالة»، حيث تباع المرأة وتُشترى، ضد رغبتها. يجب ان تقوم مؤسسة الزواج على اساس الحب والتفاهم والانسجام، اي على حرية الاختيار، وهذا مبدأ اسلامي اصيل، يتجاهله كثير من الاصوليين.

* لكن هذا النمط من الزواج لا يشيع بين ابناء المدن؟! ـ بل موجود، وخصوصا في الطبقات الشعبية والريف، فالجهل مرتبط بالفقر والتخلف.. المرأة من الطبقات الشعبية تتعرض للضرب والاهانة من زوجها وأهلها، وللأسف القانون لا يحميها، وتتعرض ايضا على نطاق واسع للاضطهاد والابتزاز من رب العمل. والوقت مناسب تماما للمطالبة بحقوق المرأة الاساسية، وخصوصا نحن في مرحلة صياغة الدستور.

* لكن نظام صدام حسين الذي حكم اكثر من 30 عاما كان نظاما علمانيا، وكان يتحدث دائما عن حقوق المرأة..

قاطعتني قائلة: صدام لم يقدم شيئا للمرأة العراقية، بل هي التي دفعت الثمن الاكبر في عهده..

* وماذا عن المثقفات اللاتي كن نجوما في الحياة السياسية والثقافية والادارية في عهده؟! ـ كن مجرد مستفيدات من النظام، ومجرد قشرة براقة وزائفة.. لقد كانت للمرأة العراقية قيمة اكبر، ولديها حرية اوسع قبل صدام، وانا شخصيا عانيت بشدة، ودفعت ثمنا غاليا لمجرد انني لم اكن بعثية، وهذا الوضع سبب لنا، كنساء، نوعا عميقا من الاحباط.. لقد اخرت دولة صدام البوليسية المرأة العراقية، واعادتها للوراء مئات السنين. لا تنس ان صدام لم يكن ابن مدينة..

وقالت ايضا: اهم طموح لنا هو الحصول على الحرية.. حرية الترشيح في الانتخابات العامة، وحرية الصحافة، والمساواة في الحقوق والواجبات، والقضاء على بقايا التقاليد الاقطاعية التي تحكم المجتمع مثل القتل لغسل العار.. صدام حسين عمق العلاقات والتقاليد العشائرية المتخلفة. ومشكلتنا الحقيقية تكمن في الريف العراقي الذي تعاني فيه النساء من الفقر والجهل والقهر.

رغم ان رؤية السيدة انعام حامد، وهي تعمل معاونا قضائيا في محكمة البصرة، اتسمت بالشمول، لانها وضعت يدها على العلاقة بين تحرير المرأة وتحرير المجتمع، الا ان شابة محجبة، اسمها ايمان التميمي، تعمل في مكتب المعلومات بمجلس مدينة البصرة، لم تتجاوز العشرين بعد، لفتت نظري، الى الاساس الاقتصادي لما تعانيه المرأة في البصرة.

قالت: كبار ضباط الجيش ورجال الدولة السابقون حصلوا على رواتبهم، كانوا «مستريحين» اقتصاديا في الماضي.. والآن هم مستريحون اقتصاديا ايضا، بينما الارامل وأسر الشهداء وأسر الاسرى لدى ايران او دول التحالف، لم يحصلوا على شيء، وخصوصا اسر الجنود الذين دفعوا الثمن الحقيقي.. للأسف الفقراء والضعفاء هم الذين دفعوا الثمن ايام صدام، ويدفعون الثمن الآن ايام الاحتلال.. واغلب افراد هذه الاسر من الارامل والنساء، وهؤلاء يعيشون حياة بائسة، لان لا صوت لهن، ولا احد يريد ان يلتفت اليهن..

عندما تجاذبت اطراف الحديث مع صفوت عبد الحسين، الموظف بمجلس مدينة البصرة، ويعمل حاليا مترجما لدى القوات البريطانية، سألته عن مدى اهتمام الاحزاب السياسية العراقية في البصرة، بمشكلة المرأة، وبالتحديد مشاكل الطبقات الشعبية، التي تدفع النساء ثمنها، فقال:

ـ لدينا اكثر من 50 حزبا.. مثل حزب الدعوة، والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية، والمؤتمر الوطني، وحركة الوفاق الوطني، ولم نسمع منها شيئا عن المرأة..

* وماذا عن احوال السوق، أليس هو اهم ما يؤلم نساء الطبقات الشعبية؟! ـ الانتاج المحلي من الطحين (دقيق القمح) متوفر، وتوجد مواد مستوردة من الحصة التموينية، لكنها قليلة ونادرة مثل الحليب والبقوليات.. اما اللحوم فهي غالية السعر، مثلا يبلغ ثمن كيلوغرام لحم العجل دولارين، ولحم الغنم 3 دولارات، واللحوم يتم تهريبها حية ومذبوحة الى الدول المجاورة.

* موظفة محجبة اخرى باحدى الادارات العراقية قالت لي:

ـ اسمع، انا اعمل طوال النهار لإعالة ابنائي، فزوجي مات في حرب الكويت، ولا احصل على اي شيء من الحكومة، وأكسب يوميا حوالي 3 دولارات ولدي 4 أطفال في المدارس.. والاسعار نار، يعني لو اشتريت كيلوغرام من اللحم بثلاثة دولارات لأطبخ المرق، كيف ادفع ثمن الخبز، او الغاز او الكهرباء او ايجار البيت؟! ومن اين اشتري ملابس بناتي، وهن طالبات في المدارس؟!