سفير السودان لدى مصر: المفاوضات الحالية أكبر فرصة تتاح للسلام وحركة قرنق تجهل قوانين التفاوض

أحمد عبد الحليم لـ«الشرق الأوسط»: هناك قوى مشاكسة في «إيقاد» تعرقل السلام

TT

الدكتور أحمد عبد الحليم سفير السودان في القاهرة، أحد ابرز المتابعين والمفاوضين في ملف المفاوضات السودانية منذ عدة عقود، بحكم مناصبه السياسية والاكاديمية المتعددة، في البلاد.

وخلال تلك العقود تقلد عدة مناصب وزارية من بينها حقيبة الاعلام والناطق باسم الحكومة في عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري، وهو الآن ايضا أحد مهندسي عملية السلام الجارية في كينيا من خلال عمله الدبلوماسي في القاهرة. وتحدث عبد الحليم في لقاء مع «الشرق الأوسط» عن تجربته، وعن خفايا المفاوضات الحالية، مؤكدا بحكم قربه من هذا الملف ان الفرصة الحالية تعد اكبر فرصة للسلام، لم تتح للسودانيين منذ سنوات. ورغم اشارته الى وجود عناصر في الحكومة والحركة الشعبية بقيادة جون قرنق والمعارضة متمثلة في «التجمع الوطني الديمقراطي» لا تريد السلام والديمقراطية الا انه اشارالى ان الغالبية العظمى مع السلام وان تياره القوي سيجرف كل من يقف في طريقه. واشار ايضا الى وجود «مشاكسين» في «ايقاد» يعرقلون السلام مقابل «مساعدين» يريدون للعملية السلمية ان تتقدم الى الامام. واتهم عبد الحليم الحركة الشعبية بجهل قواعد التفاوض من خلال تمسكها بـ«وثيقة ناكورو» المرفوضة، وسعيها لجعلها مرجعا رغم علمها انها غير مقبولة من الطرف الآخر، قائلا انها تناست ان قواعد التفاوض وفنونه تقتضي بالضرورة موافقة جميع الاطراف على أي وثيقة كي تكون وثيقة اطارية او مرجعية كما حدث لبروتوكول ماشاكوس الموقع في صيف العام الماضي.

* تعثرت المفاوضات السودانية كثيرا، ولكن المعلومات لم تكن كافية لمعرفة حقيقة ما يجري بسبب التعتيم الاعلامي.. هل تبين لنا حقيقة ما يجري؟

ـ أولا التعتيم سببه ان الاطراف جميعا بمن فيهم الوسطاء والشركاء والسكرتارية اتفقوا على ضرورة ان تجري المفاوضات في جو من السرية حرصا على تقدمها واستمرارها بدون أي مؤثرات خارجية. ورأوا ان خوض وسائل الاعلام في مجريات الجولة لا يعين المفاوضين في التوصل الى حلول بل يعرقل جهودهم. وأنا أرى ان وفد الحكومة كان اكثر التزاما بهذا الموضوع من وفد الحركة الشعبية.. وقلما تجد للوفد الحكومي تصريحات في الصحف ووسائل الاعلام بعكس مفاوضي الحركة الشعبية.. حيث انتشرت تصريحات ياسر عرمان (الناطق باسم الحركة) في كل مكان، وكان عبارة عن اذاعة متحركة.. وكذلك الدكتور قرنق، الذي أدلى باحاديث كثيرة حول مجرى التفاوض وآخرها مع «الشرق الأوسط» ومجلة «المصور» المصرية، في حين لا تجد أحاديث مثلا مع الدكتور غازي صلاح الدين وبقية اعضاء الوفد الحكومي.

* لكن من تجربتنا ان الجانب الحكومي هو الذي لا يرغب في التحدث الى الصحافة ووسائل الاعلام منذ وقت طويل؟

ـ كما قلت لك هذا يعود الى التزامهم باتفاقات مع سكرتارية «الايقاد»بعدم الادلاء بتصريحات.. وللعلم اقول لك أنا كسفير لا استطيع الحصول على وثائق من وفد التفاوض الحكومي، وقد رفض الدكتور غازي صلاح الدين مدّي بها رغم انه صديق، معتذرا بأن هناك اتفاقا مع «الايقاد» بعدم نشر الوثائق. ولكن هذا لا يمنع انكم في الاجهزة الاعلامية لكم طرقكم الخاصة في الحصول على المعلومات والوثائق.

* نعود الى سؤالنا الأول، ما هي المشاكل الاساسية التي تواجه المفاوضات؟

ـ المشكلة الاساسية التي تواجه المفاوضات والتي يتناولها كثير من الناس خارج سياقها الصحيح هو ما يقال عن «رفض الحكومة لاتفاقية ناكورو واصرار الحركة عليها». وجه الخطأ في هذا الامر هو انه وفق قوانين وفنون التفاوض لا يمكن لأي وثيقة ان تصبح مرجعية الا اذا اتفق عليها اطراف النزاع. وبالنسبة لوثيقة ناكورو فان الجانب الحكومي رفض الوثيقة باعتبار انها غير متوازنة وغير عادلة وتكرس الانفصال.. وبالتالي لا يجب ان تكون مرجعية او اطارا للمفاوضات حسب الاصول المتبعة. ولكن الحركة اصرت عليها.. الشيء الذي يفسر على انه «تعنت من الحركة» او «جهلها بقواعد وفنون المفاوضات».. وليس صحيحا اذن ان الجانب الحكومي هو المتعنت بل الحركة، لأنها تريد فرض وثيقة لم يوقع عليها الطرفان كمرجعية. واذا اخذنا بروتوكول ماشاكوس الذي وقع بين الجانبين في يوليو (تموز) العام الماضي على سبيل المثال فان هذا البروتوكول لم يسم وثيقة الا بعد ان تم الاتفاق على جميع بنوده من الطرفين. واذا كانت الحركة تتمسك بالوثيقة الحالية فهذا موقفها ولا أحد يجبرها على التخلي عنه.. ولكن لا يمكنها فرضها كمرجعية على المفاوضات وفق اصول وقواعد المفاوضات المعروفة دوليا.

* تحدث كثيرون عن خوفهم من انهيار المفاوضات الاخيرة، بعد تعثرها.. كيف تراها أنت؟ هل يمكن ان تصل الى بر الأمان؟

ـ أنا متابع لأمر السلام في السودان منذ عقود. من قراءاتي للأوضاع في السودان والتوجهات الاقليمية، وجانب كبير من التوجهات الدولية، فان كل ذلك يدفع في اتجاه السلام. ولكن المسألة الاساسية في كل هذا الامر هي موقف السودانيين انفسهم، فأنا اعتقد ان السودانيين قد سئموا الحرب، وما من وطني مخلص في السودان الا يود لو ان كانت نهاية الحرب بالأمس قبل اليوم او غد، وهنالك اذن فهناك مزاج شعبي عام يسود حاليا يحرص على تحقيق السلام. وهذا هو الامر الاساسي. كما ان الهيئات الدولية والاقليمية والايقاد وشركائها والوسطاء والاصدقاء بات لهم دور مساعد في العملية السودانية، ولكن دور البعض منهم ايضا قد يكون «مشاكسا»، وطالما ان السودانيين نشأت بينهم ارادة صادقة لتحقيق السلام فان السلام سيتحقق. وهناك ارهاصات كثيرة تسند وتعكس هذا المزاج العام مثل الدعوات المتكررة للوفاق والاجماع الوطني والاجتماعات التي تحدث والجهود التي تقوم قوى سياسية من بينها المؤتمر الوطني ومطالبة البعض بأن تكون هذه الدعوات عبر رئيس الجمهورية وتبني الرئيس لمسألة الوفاق الوطني، الذي شاركت فيه جميع القوى السودانية بلا استثناء، كل هذه التحركات للتوجه الايجابي تصب في اتجاه تحقيق السلام، واصبحت هذه القوى السياسية منفتحة على بعضها البعض في سعي لتحقيق السلام والوفاق. هذا التوجه السوداني الايجابي نحو انهاء الحرب وعودة السلام والديمقراطية والمشاركة يصب في اتجاه سليم ومعافى.

* قلت ان البعض في «ايقاد» «مشاكس» ويعرقل السلام ماذا تقصد؟

ـ اضرب لك مثلا: قال البعض منهم ان وثيقة ناكورو وجدت الدعم من جميع دول ايقاد، مما يعني «لوم الخرطوم بشكل غير مباشر بعرقلتها للمفاوضات من خلال رفضها للوثيقة».. وهذا الكلام غير صحيح وغير دقيق لأن الوثيقة المذكورة لم تجد القبول من السودان وهو عضو في الايقاد، ولم توافق عليها اثيوبيا وجيبوتي وهما ايضا من دول ايقاد، ونسأل ايضا عن الذي يتحدث باسم الصومال المشغول بنفسه هذه الايام عن السلام في السودان. كما ان كينيا الراعية للسلام اعلنت تجاوز الوثيقة على لسان وزير خارجيتها في القاهرة. فمن تبقى من دول الايقاد غير أوغندا واريتريا؟ أليس هذا كذبا وتلفيقا لا يليق بوسيط في عملية السلام؟ لكن اقول ايضا ان المشاكسين الذين اقصدهم في ايقاد موجودون ايضا في عدة جهات بينهم سودانيون، وفي ايقاد وشركائها واصدقائها الأوروبيين والأميركيين.

* يشار في كثير من الاحيان الى وجود «البعض» في الحكومة والنظام ضد توجه السلام خوفا على مصالح شخصية ضيقة او ما يسمونه بالخوف على تفكيك النظام.. ما هي الحقيقة؟

ـ هذا سؤال متحيز.. أنا كتبت مقالا في السابق قلت فيه ان من الاسئلة ما يكون متحيزا.. وليس فقط من الاجوبة كما يقولون... لأن «البعض» هؤلاء الذين تقول عنهم موجودون في الحكومة.. وفي النظام وفي الحركة وفي المعارضة وتجمعها الديمقراطي.. وكان يجب ان تسأل عن كل هؤلاء وليس في الحكومة وحدها.. وأنا اقول ان هؤلاء «البعض» هم فئة صغيرة.. موجودة بقوة في «التجمع» تعمل على عرقلة السلام وهم ضد الديمقراطية نفسها لأنه عندما تجيء الديمقراطية والانتخابات «ستقول لهم قولا بليغا». لكن اعتقد ان كثيرا من هذه الدعاوى والاتهامات من مخلفات الفجور في الخصومة. وكثير منها لا يقوم على اساس. ولكن بهذا الزخم الوطني والمساندة الاقليمية والمساندة الدولية فان مثل هذه الاصوات «ان وجدت» وأيا كان موقعها فانها تغرد خارج السرب، وتسبح ضد التيار.

* دعني ادافع عن سؤالي.. فأنا خصصت «الحكومة» باعتبارك ممثلا لها وعلى اعتبار ما يكتب في الصحف في الداخل عن فئة تعمل ضد السلام؟

ـ أنا قارئ جيد ايضا لهذه الصحف.. ولكن اقول لك وللانصاف ان «الانحياز» هو «متبادل».. فأنت تقرأ احيانا عبارات مثل «وهذا يدل على عدم جدية الحكومة».. وهناك من الداخل تقرأ «وهذا يدل على عدم جدية الحركة»، فهذا انحياز واضح. فكثير مما يكتب فيه انحياز.. ولكن الجانبين موجودان.. وكلاهما يريدان تحقيق السلام في السودان.. فأنا سفير.. وأنت صحافي.. هل يستطيع ان ينتقص أي منا من وطنية الآخر؟.. فهناك اذن اتهامات متبادلة بوجود عناصر في الحكومة لا تريد ان تفقد مواقعها. كما ان هناك بعض القوى المعارضة تعرف ان اوزانها الحقيقية تتجلى في صناديق الاقتراع، لذلك فهي تعمل على عرقلة السلام. ولكن اعود واقول ان هذه الفئات وان وجدت فلن تستطيع ان تسبح ضد التيار، لأن تيار السلام اقوى.

* سمعنا اخيرا تصريحات قوية من وزيري خارجية مصر وكينيا في القاهرة ضد الحركة الشعبية وتحميلها مسؤولية التعنت في المفاوضات.. هل هي من «انجازاتكم الدبلوماسية»؟ وما سر هذا التحول؟

ـ أنت تعرف.. و الكل يعرف ان مصر هي من اقرب الدول الى السودان، وبينهما من الوشائج والمصالح الحالية والآنية والمصيرية ما يجعل مصر دائمة الاهتمام بما يجري في السودان وما يدبر له. وبحكم هذه العلاقة والصلة فان مصر تعد الأحرص من غيرها من الدول على مصلحة السودان والأعرف بما يدور حوله.. ولهذا ظلت حريصة على كل علاقاتها مع كل القوى السياسية السودانية بما فيها الحركة الشعبية، ولا سيما ان آخر زيارة لقرنق كانت لمصر.

اما كينيا فهي رئيسة «الايقاد»، والمعنية بالسلام في السودان والمشرفة على المفاوضات، ولا توجد دولة تستطيع ان تدعي بمعرفة دقائق هذه المفاوضات اكثر منها. ولقد شهدت هاتان الدولتان على لسان وزيري خارجيتهما لموقف الحكومة بالمرونة والرغبة الحقيقية في السلام. وبتعنت الحركة الشعبية في الجولة الاخيرة فانهما وبحكم هذه المعرفة والقرب أدلتا في تقديري برأي موضوعي، وما اظن ان مصر لو كانت قد لمست تعنتا من جانب الحكومة تتردد في الافصاح عن رأيها.. ولكن الحقيقة ان مصر وكينيا لاحظتا هذا التعنت في موقف وفد الحركة، وبالتالي ينبغي لكل المهتمين بالسلام في السودان، اضافة الى المشاركين في عمليته، ان يأخذوا ما قالته مصر وكينيا مأخذ الجد، وان يسعوا لدى الحركة لتعديل موقفها. وما اظن مصر الا مواصلة لاتصالاتها مع الحركة الشعبية، تشاورا ومناصحة بقصد دفعها الى اتخاذ مواقف تدفع عملية السلام للوصول الى حل عادل ومنصف لكل القوى السودانية وبخاصة الإخوة في الجنوب. ولعل هذا يعين على تحقيق السلام وفي جعل الوحدة جاذبة للجنوبيين، على اساس ان الحل لا يمكن ان يكون عادلا ومرضيا الا بموافقة الحركة عليه. وينبغي بعد بلوغ هذا الاتفاق ان تثابر كل الاطراف على الوفاء بالتزاماتها، والعمل المخلص والجاد على ترجمته في ارض الواقع، وهذا عندي ما يجعل الوحدة جاذبة.