محمد باقر الحكيم... لغة السياسة ولعبة الموت

استعصى على القتل في عهد صدام وسقط أخيرا في عهد الفوضى

TT

عندما ينظر المرء إلى نوعية الزعامات الدينية التي أفرزها شيعة العراق قبل ثلاثة عقود، لا بد أن يلاحظ على الفور الدور المتواضع نسبياً الذي لعبته هذه الزعامات حتى وقت متأخر في الحياة السياسية العراقية بالمقارنة مع الجارة إيران التي كان منحى التشيع المسيس فيها يتصاعد على نحو ملموس.

كان لابد لهذه المعادلة أن تنتهي يوماً، إذ بدأ الشباب المتحمس من العلماء أمثال آية الله محمد باقر الصدر وأبناء آية الله محسن الحكيم بتبني مشاريع سياسية أكثر فأكثر معتمدين، بالدرجة الأساس، على هيبة آبائهم ومكانة عائلاتهم العلمية، من دون أن يتورط جيل الآباء فعلاً فيها.

ولئن استطاع حزب الدعوة الإسلامية الاستفادة من انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979 في توسيع قاعدته الشعبية، فقد انبثقت منظمات أخرى نافسته على التفرد بالساحة الشيعية العراقية من بينها منظمة المجاهدين ومنظمة العمل الإسلامي والحركة الإسلامية في العراق، وأخيراً المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي أنشأه آية الله محمد باقر الحكيم في طهران في عام 1982 ليلعب دوراً محورياً في محاولة جمع التنظيمات الشيعية هذه تحت مظلة واحدة.

يتحرك «السيد»، كما يحلو لأتباعه تسميته، بهدوء وبشيء من الجلال، يتكلم بتهذيب، يتقن لغة اللاهوت في السياسة ويجيد توظيف لعبة الرموز، فلا يترك مناسبة تفوته من دون أن يشير إلى التراث الشيعي. يشرح السيد مواقفه بمنهجية صارمة، فهو رجل الكلمة المؤمن بقوة الإقناع. وليس من المبالغة في شيء القول إن الجانب الديني في شخصيته كان مدخلاً لدوره السياسي، لا العكس، وربما تصح هنا إشارة العديد من المطلعين على الملف الشيعي العراقي في أن «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» تنظيم مسجل باسم شخص أكثر مما هو حركة تطمح إلى تحقيق أهداف سياسية محددة.

ولد محمد باقر الحكيم في عام 1939 في مدينة النجف لأب شغل لما يزيد عن عقدين موقع المرجعية العليا للشيعة، وهو يأتي الخامس في التسلسل بين أخوته التسعة. وفي مراحل نشأته الأولى، تلقى الحكيم معارفه الأولية على يد «كتاتيب» النجف، بالرغم من وجود نظام تربوي حكومي عصري، ولكنه سرعان ما التحق بالمدارس الحكومية ولكنه هجر مقاعدها مبكراً وهو لم يزل في الصف الرابع الابتدائي، ليلتحق بـ«الحوزة العلمية»، فأظهر مقدرة لافتة للنظر في استيعاب مناهج علوم اللغة والفقه اللإسلامي.

في عام 1964، انخرط الحكيم في تدريس علوم الشريعة الإسلامية بكلية أصول الدين في بغداد، الموقع الذي ظل يشغله من دون انقطاع حتى عام .1975 ولأسباب تتعلق بتوجهات السلطة في وضع اليد على المؤسسات التعليمية الأهلية، ومنها كلية أصول الدين، غادر الحكيم كرسي التدريس ليتفرغ على ما يبدو للعمل الفكري في بيئته الأصلية: النجف.

ولكن نادراً ما كانت تغيب المفاجآت عن السياق الشيعي. ففي فبراير (شباط) 1977، شهد الجسم الشيعي تحركات عبرت عن نفسها في مظاهرات غاضبة ضد أجهزة السلطة البعثية التي ضربت طوقاً أمنياً وعسكرياً لمحاصرة حشود كانت تتجه من النجف إلى كربلاء، فاعتقلت الآلاف، من بينهم محمد باقر الحكيم الذي اتهم بإثارة الاضطرابات وواجه حكماً بالسجن المؤبد، ولكن سرعان ما أطلق سراحه في عفو عام عن السجناء السياسيين بمناسبة الذكرى العاشرة لانقلاب 17 يوليو (تموز) .1968 في ذلك الوقت بالذات، كان منحى التشيع المسيس يتصاعد بين صفوف العلماء الشيعة على نحو ملحوظ، وبدأ نفوذ «جماعة علماء النجف» يتزايد من خلال كتابات الحكيم وغيره في مجلة «الأضواء الإسلامية»، وانتقلت هذه الكتابات تدريجاً إلى الدعوة الصريحة إلى إقامة نظام حكم إسلامي في العراق.

كان لا بد أن يدفع انتصار الثورة في إيران عجلة هذا التيار في العراق إلى الأمام، طبعاً لم تر السلطة البعثية في هذا التيار تحدياً شيعياً عراقي المنشأ فحسب، بل اعتبرته مجرد امتداد لـ«الأطماع الفارسية» التقليدية أيضاً، فسارعت إلى مواجهته بمزيد من الشدة والعنف، فاعتقلت الآلاف وأعدمت الكثيرين من بينهم آية الله محمد باقر الصدر، وهجرت الألوف بذريعة أنهم من ذوي الأصول الايرانية.

هذه الأحداث المتتالية سرعت في اتخاذ محمد باقر الحكيم قراراً بمغادرة العراق على عجل. وبالفعل، ففي مطلع يوليو (تموز) 1980 استطاع الإفلات من قبضة السلطات والهروب إلى خارج البلاد. وبعد محطات مؤقتة عدة، وصل إلى طهران في أوائل أكتوبر (تشرين الأول) من العام ذاته، ولم يكد يمضي على اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية سوى بضعة أيام.

في العاصمة الإيرانية، حاول الحكيم أن يضع نفسه فوق الخلافات التي كانت تعصف بقادة التيارات الشيعية العراقية الأخرى، وهم الذين جعلوا من أنفسهم أسرى الخيارات الإيرانية، وأن يحافظ، ولو جزئياً، على مسافة ما عن سياسات القادة في طهران، فتولى مهمة تأسيس تنظيم سياسي جديد أطلق عليه اسم «جماعة العلماء المجاهدين في العراق»، لكنه سرعان ما اكتشف أن هذا الإطار كان ضيقاً على رجل في مثل طموحه فأقام على أنقاضه تنظيم «مكتب الثورة الإسلامية في العراق» في أواخر عام .1982 في هذه الأثناء، دأب محمد باقر الحكيم جاهداً على نفي أي انطباع قد يستشف منه أن تنظيمه هذا يدور في فلك سياسات طهران، وأراد له أن يكون تنظيماً سياسياً عراقياً بحتاً، وليس «ذيلاً» لتوجهات الساسة الايرانيين، لكن التغير الذي طرأ فجأة على ميزان القوى العسكري في الحرب ودخول القوات الايرانية بعض المناطق في الجنوب العراقي، عزز الاعتقاد لدى قطاع واسع من العراقيين في أن النزعة التوسعية الإيرانية التقليدية تجاه العراق ما زالت حية، وأن «المجلس الأعلى» ليس سوى أحد أدوات هذه النزعة. ويبدو أن تركيبة «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» ساعدت بدورها، وإن بصورة غير مباشرة، في تعزيز هذا الانطباع; فغالبية أعضاء المجلس هم من العراقيين الذين فروا أو هجروا إلى إيران قبل وخلال حرب الخليج الأولى، ومن بينهم جناح عسكري للمجلس عرف باسم «فيلق بدر» الذي كان له دور مهم في الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في العراق في مارس (آذار) 1991، وساهم في تصفية العديد من القيادات المحلية البعثية في المدن والقرى التي سيطر المنتفضون عليها.

ومهما يكن من أمر، فقد نجح «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» في نسج تحالفات مرنة مع أقطاب المعارضة العراقية الأخرى، وكان ممثله شقيق الحكيم الأصغر عبد العزيز حاضراً في اجتماعات واشنطن وصلاح الدين ولندن، وهو اليوم عضو أصيل في مجلس الحكم الانتقالي في العراق.

وفرت الإطاحة بنظام صدام حسين فرصة ذهبية للحكيم في العودة إلى بلاده من جديد. ففي مايو (أيار) الماضي، اجتاز الحدود وتوجه في موكب احتفالي انطلاقاً من البصرة باتجاه الشمال نحو النجف للإسهام في صوغ معادلة عراقية جديدة للسلطة في العراق.

وبعيداً عن المواقف السياسية التي لا تسمح كثيراً الإمساك بركائز فكر محمد باقر الحكيم السياسي ولا كتاباته التي بلغت اليوم نحو 30 دراسة وكتاباً كلها تبحث في مواضيع إسلامية، فإن ما يمكن رصده هو تمحور فكره السياسي على مرتكزات ثلاثة: الخصوصية الشيعية في العراق، صيغة خمينية في إدارة الحكم ولكن بطبعة عراقية مستنيرة، ونظام برلماني قائم على الحريات في العراق يضمن حرية المعتقد. لقد نجا من محاولات عدة لاغتياله، لكنه كان عصياً على الموت، إلا أن الجرة لا تسلم كل مرة، ذلك أنه كان ضحية فقدان العنصر الأمني الذي طالما ناشد القوات الحليفة بإعادته سريعاً إلى أيدي العراقيين.

* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا