أمسيات بغداد تسكن في القلب و تزدهر في الأطراف

العاصمة العراقية قسمت نفسها إلى «كانتونات» تحاول الاكتفاء ذاتيا من كل السلع

TT

يقول العراقيون انهم يعرفون كيف يعيشون، كيف يمارسون حياتهم، رغم اقسى واصعب الظروف، فهم يواصلون انشطتهم المختلفة تحت شواء حر الصيف، وفي زمهرير الشتاء ووحوله.. يعيشون ويتعايشون مع الحياة. حتى في ظل حكم صدام حسين او في ظل الاحتلال، وعيونهم واخيلتهم تترقب الحرية والديمقراطية والرفاهية وكل ما يستحقونه بجدارة جراء صبرهم الطويل.

هناكمن يتساءل: كيف يعيش شعب اشهراً بدون حكومة او كيان لدولة وبدون جيش او شرطة، وبدون كهرباء وماء ـ الا نادرا ـ وبدون اتصالات هاتفية في عصر الانترنيت، وبدون وسائط نقل مناسبة في عصر الصواريخ الفضائية، وبدون.. الخ.. كيف..؟.

الجواب سهل جدا، حسب رأي بائع الخضر والفواكه الجوال في بغداد فراس محسن، وهو ان الشعب الذي تحمل صدام حسين طوال 35 سنة يستطيع تحمل اي شيء.. من كتبت له الحياة حتى سقوط صدام فذلك مكسب كبير لانه يعيش لحد الان ويستطيع ان يعيش.

المدن العراقية، حتى «الفوضوية» منها، مستقرة بشكل افضل من بغداد.. هذا ما يقره الجميع، لان بغداد كبيرة وواسعة وتضم حوالي ربع سكان العراق كله.. ومع ذلك، ومع فقدان السيطرة على الامن.. فان هناك امنا اجتماعيا يفرض على كل منطقة حماية نفسها وعلى كل حي او شارع حماية نفسه مع تكافل قل مثيله.

يقول طالب جبار، 35 سنة، و هو صاحب محل لبيع المواد المنزلية في منطقة البياع ، ويحمل شهادة بكالوريوس في الاقتصاد:

بغداد مقسمة الان الى كانتونات اقتصادية.. نحن هنا، وبسبب الحرارة وانقطاع الكهرباء نضطر الى عرض البضائع على الارصفة. في النهار نبيع لوافدين من مختلف المناطق ولكن عند العصر او المساء يقتصر البيع على ابناء المنطقة او المحلة فقط، فلا احد من خارج المنطقة يأتي الى اسواق البياع بعد الساعة السابعة، لان اصحاب سيارات الاجرة لا يعملون خارج مناطقهم في اوقات المساء والليل.. ولذلك يقتصر البيع والشراء على ابناء المنطقة، او المحلة.

في نفس المنطقة، قال لنا احد المتسوقين عبد الله حسن سالم، 40 سنة:

في بغداد.. هناك اسواق النهار واسواق المساء.. كل منطقة تحاول الاكتفاء ذاتيا، فمن يبتغي حاجة يشتريها من منطقته، اما الحاجات (الثقيلة) او (التخصصية) غير الموجودة في المناطق المركزية فينبغي الذهاب لشرائها في النهار من اسواق الشورجة التي تقفل في الساعة الرابعة او الخامسة عصرا، او اسواق المنصور والكرادة والاعظمية وبعض الاسواق الاخرى. وحتى في النهار لا يجد سكان الاطراف من يوصلهم الى مراكز المدينة ـ الا بصعوبة ـ بسبب اغلاق بعض الشوارع، والازدحام وشحة الوقود وحرارة الجو، وعوامل الامن والامان.. واذا ما ذهبوا.. سيواجهون مشكلة اصعب في العودة.

* هذا في النهار. فكيف الامر في الليل...؟

ـ مسائيات بغداد تزدهر في الاطراف بينما يغلف السكون قلب المدينة.. في المناطق كافة حركة نشيطة في التنزه والتسوق، وعودة المودة المحلية التي افتقدها المواطنون في سنوات الكبت واللهاث وراء لقمة العيش.. الحركة التجارية منتعشة، ولكن لا تخرج ابعد من حدود منطقتك.

التقينا بائع الكماليات مسعود رضا، 42 سنة، قال: ان لديه محلا في السوق العربي قرب الشورجة.. ولما كانت المحال تغلق ابوابها مبكرا هناك، فقد فكر في نقل جزء من بضاعته ليبيعها على الرصيف في منطقة «السيدية».

و يبدو الشارع الرئيسي للسيدية، (في الطرف الجنوبي من بغداد) وكأنه من احدث الاسواق العصرية، ولكن البيع فيه في الغالب على الارصفة.. وحتى في عمق الشارع، هناك محلات وبسطيات تبيع كل شيء ومن الاجهزة الكهربائية واجهزة الاتصالات حتى وجبات الاكل السريعة.

اللافت للنظر هنا وفي المناطق الاخرى كثافة وجود الشرطة المحلية ومن قوة الدفاع المدني التي عينتها الدوائر البلدية، وهي منتشرة عند المفترقات وفي الازقة وقرب المحال التجارية.. ومعظم هؤلاء ممن كانوا يمارسون اعمال الحراسة تطوعا وبشكل مجاني حتى تم تعيينهم.. كانوا يقومون حتى بتنظيم المرور.

يقول مسعود رضا:

ـ اجمل ما في هذا الشارع كثرة وجود الفتيات..! وذلك بالطبع ليس من باب الغزل، وانما لان تجارة الكماليات تزدهر كلما ازدهر الشارع بالجنس اللطيف.

* ولكن القدرة الشرائية ضعيفة..؟

ـ نعم.. ولكنها افضل مما كانت عليه في عهد صدام بأضعاف مضاعفة وخاصة بالنسبة للموظفين الذين كانوا محرومين من ابسط المستلزمات، وهم يشكلون غالبية السكان، اما المترفون، في العهد السابق وحاليا، فلهم اسواق معينة يتبضعون منها.

* ما هي المشاكل التي تواجهونها هنا..؟

ـ قلقنا على البضاعة التي نتركها في «سوق الشورجة».. فلعلنا لا نجدها عندما تفتح اسواق النهار ابوابها.

* هذا يعني انكم تفضلون اسواق المساء..؟

ـ في سوق الشورجة او السوق العربي نستقبل الكثير من الزبائن والمبيعات اكثر.. اما في اسواق المساء فيقتصر البيع على المنطقة.. وهنا نقطة يجب عدم اغفالها، وهي ان من نبيع لهم، او يبيعون بالقرب منا، معظمهم من المعارف والاصدقاء.. ومن هنا فان عملية البيع والشراء تأخذ طابع الثقة.

والى جوار البائع مسعود كان جاره في السكن محمود احمد السيد يعرض مختلف انواع الالبسة الرجالية والنسائية.. انها نفس البضاعة التي تعرض في محلات المناطق الراقية، مع فارق في السعر، يصل احيانا الى 50 في المائة.

يقول محمود: نحن لا ندفع بدلات ايجار لأماكن البيع ومعظم زبائننا من ابناء وبنات المنطقة.. نكتفي بالربح القليل وهم يثقون ببضاعتنا واسعارنا.. وهناك مسألة اخرى مهمة تتعلق بالوقت.. بعضنا يستمر بالبيع حتى حلول ساعة منع التجوال.

في منطقة «الدورة» تستمر المقاهي مفتوحة حتى منتصف الليل، بعد منع التجوال بساعة او اكثر. ويحدثنا طالب سعيد (موظف) قائلا:

ـ كنا سابقا نخشى الجلوس في المقهى، فهناك من يكتبون التقارير الى الجهات الامنية عن فلان الذي التقى مع فلان، او الذي قال كذا وكذا، مع التأويلات.. اما الان فقد اخذت الحياة الاجتماعية التي الفها البغداديون في الماضي تعود بالتدريج.. في الظرف الصعب يزداد تكاتف المواطنين، وفي المقهى نجد الحلول للكثير من المشاكل.. اصبحنا نتفقد بعضنا البعض.. ومع عودة الحياة الاجتماعية عادت الصداقات وعلاقات المودة والتكاتف، لقد اصبح الجار يعرف جاره.. وهذا لم يكن موجودا في عهد صدام فالعلاقة مع الجيران تعني وجود تنظيم، ومن ينتسب الى تنظيم غير البعث يحكم عليه بالاعدام ـ حسب القانون آنذاك.

* حسنا.. وماذا عن الانفلات الامني..؟

ـ في منطقتنا يعرف واحدنا الاخر ويتنبه الشباب في المنطقة الى دخول غرباء.. ومع عودة الحياة الاجتماعية الطبيعية بالتدريج تختفي الظواهر الشاذة.

* كيف تتعاملون مع الاميركيين..؟ وكيف يتعاملون معكم..؟

ـ لا علاقة لهم بنا ولا علاقة لنا بهم، وهم لايعترضون عندما يجدون المقاهي مفتوحة بعد موعد منع التجوال.. خاصة ان هذا المنع لا يسري على المحلات والشوارع الفرعية، حيث يسهر الشبان بالقرب من مولدات الكهرباء الخاصة التي تبيع الطاقة الى البيوت والمحال.. وعندما يحدث عطل في المولد يهرع الجميع للمساعدة.. مولدات الكهرباء الخاصة تقرب بين سكان الشارع والمحلة.. وتعيدنا الى ذكريات ما قبل عهد صدام.

ابتعدنا في هذا الموضوع الذي اردناه اقتصاديا، ويتناول محاولات المناطق الاكتفاء ذاتيا في البضائع، وازدهار اسواق المساء.. فالجانب الاجتماعي يجب ان ينساق وراء الجانب الاقتصادي.. والعكس صحيح ايضا.

عندما تحين ساعات منع التجوال يعود البائعون في الشوارع الرئيسية الى بيوتهم لأن الزبائن يحسبون حسابا لهذا الوقت.. ولكن ظاهرة انتشرت في بغداد بكثرة هذه الايام، وهي محلات الشوارع الفرعية والازقة، وخاصة المحال التي تنبثق من البيوت وتبيع مختلف المستلزمات المنزلية.. هذه المحال لا علاقة لها بمنع التجوال، وحتى لو اغلقت فهي تابعة للبيت الذي هي فيه.. ويمكن الشراء منها في اي وقت.. كثرة هذه المحال مؤشر تحسن اقتصادي ولكنها ايضا تؤشر الى تحسب امني بالنسبة لمن لا يريدون الابتعاد من اجل شراء حاجة ما.

يقول نزار سيف العزاوي انه افتتح محلا، كان احدى غرف البيت الخارجية، وسرعان ما تطور المحل ليأخذ عدة غرف اخرى، ثم تكاثرت المحال.. بل اصبح في الزقاق فرن للصمون.

ويستدرك نزار قائلاً: اعتقد اننا نعود الى الماضي.. وربما نعود لكي نبدأ من جديد.