«الشرق الأوسط» تنشر أحدث إصدارات الجماعة الإسلامية المصرية «نهر الذكريات» (الحلقة الأخيرة)

أحداث 11 سبتمبر صدمتنا كما صدمت الأميركيين... ولدينا برجان عاليان انهارا في أفغانستان هما «طالبان» و«القاعدة»

TT

في الحلقة الأخيرة من أحدث كتب الجماعة الاسلامية في مصر عن المراجعات الفقهية الفكرية «نهر الذكريات» يعلن القادة التاريخيون للجماعة رفضهم لنظرية المؤامرة التي سيطرت على أذهان الكثيرين بأن هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 لم يقم بها تنظيم «القاعدة» وانما قام بها جهاز الموساد الاسرائيلي، وينتقدون سياسة الملا عمر في قيادة حركة طالبان، ورغم اعلان احترامهم له كفقيه، الا انهم لا يعتبرونه رجل دولة، ويستندون في ذلك الى موقف الدول من حكم طالبان حيث لم يكن لها علاقات دبلوماسية سوى بثلاثة دول فقط. ويصف المؤلفون أحداث 11 سبتمبر في اميركا بأنها علامة فارقة في التاريخ المعاصر، وكانت بمثابة ميلاد جديد لعالم متغير جاء من رحم الأحداث «لقد بدا هذا الحادث الجلل وكأن كائنات فضائية هي التي ارتطمت ـ ليس ببرجي مركز التجارة العالمي ـ بل بكوكب الأرض كله فزلزلته وهزته هزا عنيفا، لقد بدأ الحادث وكأنه خارج سياق التاريخ الا انه في الواقع حادث فارق في التاريخ».

وحادث الحادي عشر من سبتمبر لم يكتسب هذا الوصف لبشاعته أو لكثرة عدد ضحاياه، ففي غروزني وحدها قتل الجيش الروسي عشرين ألف شيشاني مسلم، كما قتل سبعة آلاف وفقد خمسة آلاف من المسلمين في سربرينتشا على يد ميلوسوفيتش، والحوادث كثيرة وضخمة في عدد ضحاياها وبشاعتها، ولكن يبقى تميز حادث الحادي عشر من سبتمبر انه أصاب القوة العظمى الأولى والوحيدة في العالم، وأكبر قوة عسكرية في التاريخ وانه أصابها ليس في أبراجها، ولكن أصابها في كبريائها وكرامتها وكأن هذا الحادث قد أطلق قذيفة على عقال هذه القوة العظمى فأفلت هذا الثور الهائج يمينا ويسارا.

لم يصدم هذا الحادث الأميركيين وحدهم بل صدمنا نحن أيضا وانهار برجان عاليان عندنا في أفغانستان هما «طالبان» و«القاعدة»، واللذان ظن البعض انهما بعيدا المنال.

لقد دهمنا الحادث أكثر من ذلك بتداعيات خطيرة حيث وضع العالم العربي والاسلامي في مأزق المواجهة وجها لوجه مع المارد الأميركي بجبروته وسلاحه، لقد وجدت الدول الاسلامية والعربية نفسها ـ وكذلك الحركات الاسلامية ـ في ساحة معركة لم ترد دخولها ولم تحسب لها ولم تستعد، بل هي أضعف من ان تفكر في الدخول فيها.

لم يكن عام 2001 عاما عاديا ـ لا عربيا ولا اسلاميا ولا عالميا ـ وما ذلك الا بسبب تلك اللحظات «الفارقة» صبيحة يوم الحادي عشر من سبتمبر من ذلك العام والتي قسمت تاريخ الولايات المتحدة والنظام الدولي بأسره الى عالم «ما قبل» وعالم «ما بعد» تلك الدقائق الفاصلة التي ميزت بين مرحلة ذهبت الى حالها ومرحلة جديدة من مراحل المواجهة التاريخية في طور جديد ومختلف بما أثارته تلك الدقائق من اشكاليات فكرية وسياسية وتاريخية ودينية وحضارية وثقافية على نحو واسع.

فالتغيير الذي أصاب النظام الدولي بعد الحادث عشر من سبتمبر أصاب في العمق نظام التفاعلات الدولي وكذلك قائمة الأولويات الدولية. ولعل أبرز ما يعنينا في هذه الأولويات هو تدني مرتبة «القضية الفلسطينية» والأمر الثابت من تأمل مجريات الأحداث عقب الحادي عشر من سبتمبر ان العالم الاسلامي والعربي أضحى هو الهدف الأول والأكبر، بل هو الهدف الوحيد للسياسة الاميركية الجديدة والمدعومة بالشرعية الدولية «القسرية».

واستعرض المؤلفون في كتاب «نهر الذكريات» ارهاصات الحادث، وتطرقوا الى اعلان تأسيس الجبهة الاسلامية العالمية لقتال الاميركيين واليهود عام 1998، وقالوا: فوجئنا ـ نحن مجلس شورى الجماعة بالداخل ـ ان «الجماعة» هي احدى الفصائل المؤسسة لهذه الجبهة العالمية بتوقيعها على «وثيقة» اعلان الجبهة، تعجبنا وتحيرنا.

ولم نلبث قليلا حتى تبين لنا ان الشيخ رفاعي احمد طه ـ تسلمته مصر فيما بعد عن طريق سورية ـ قد بادر «من تلقاء نفسه ومن دون الرجوع الى مجلس شورى الجماعة سواء بالداخل أو الخارج أو حتى استشارة ذوي الخبرة والنهي من قيادات أو أفراد الجماعة» بادر باعلان موافقته «باسم الجماعة» على الانضمام للجبهة فكان هذا قرارا فرديا بحتا يخالف ـ جملة وتفصيلا ـ أبجديات اتخاذ القرارات داخل الجماعة.

وبمجرد علمنا بذلك أرسلنا الى الشيخ رفاعي بموقفنا الواضح بالرفض التام للانضمام الى «الجبهة العالمية» وتداركا منا لقراره الفردي الغريب أرسلنا اليه بضرورة اعلان «انسحاب» الجماعة الاسلامية من الجبهة العالمية فورا والا سيتم ابعاده تماما عن الجماعة.

وقد كان، فقد أعلن الشيخ رفاعي انسحاب الجماعة من الجبهة وعدم وجود أي رابطة تنظيمية بها بالمرة وكان ذلك قبل حادث تفجير سفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي ببضعة أيام.

فكان هذا القرار توفيقا من الله تعالى واستشرافا واعيا للمستقبل برهنت على صحته الأيام والأحداث التالية له.

وهنا قد يتساءل البعض.. لماذا حرصت الجماعة ـ وبقوة ـ على عدم الانضمام الى «الجبهة الاسلامية العالمية لقتال الاميركيين واليهود»، وهذا ما سنجيب عليه في الصفحات التالية بعنوان «هل تعتبر جنسية المرء مسوغا لقتله» و«حكم قتل المدنيين».

* قتل المدنيين

* يتعرض القادة التاريخيون للجماعة الاسلامية في خلفية اعتراضهم على تلك الأحداث لمبدأ فقهي في «حكم قتل المدنيين». «فالاسلام يحرم قتل المدنيين، والسيوف الاسلامية لها اخلاق والجيوش الاسلامية لها قيم والدستور الاسلامي في القتال ليس فيه ظلم ولا طغيان، وتاريخ الاسلام حافل بالفتوحات العظيمة في مشارق الارض ومغاربها، فما سمعنا يوما ان جيشا قتل شعبا، فالجيوش الاسلامية ـ وفق دستورها الحنيف ـ لا تقاتل الا من ينتصب لقتالها ويشهر السيف في وجهها.

فالاسلام دين الرحمة، والقتل محرم أصلا في ديننا الحنيف، وانما أبيح لمصلحة كبرى هي الدفاع عن هذا الدين ورد العدوان وكذلك فما ان يتحقق النصر حتى تغمد السيوف وتبدأ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

ولعل أبرز قيم دستور الاسلام في القتال هو: «تحريم قتل النساء والأطفال والشيوخ والفلاحين والتجار والرهبان والعميان وسائر من لم ينتصب لقتال المسلمين».

ويضيف الكتاب: نقول بايجاز، ان هذا الحرص انما ينبع من اعتراضنا «الشرعي» على ذلك « الهدف» الغامض الذي يعكسه بوضوح اسم: «الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والأميركيين» والذي تتناوله «وثيقة» اعلان الجبهة وتحديدا «استهداف الاميركي» لمجرد كونه يحمل هذه الجنسية بغض النظر عن كونه رجلا أو امرأة، مدنيا أو عسكريا، مسالما أو محاربا وأما عن التكييف «الشرعي» لهذه الرؤية ـ وفق تحليل الوثيقة ـ فيعتمد على الآتي:

ـ بما ان الولايات المتحدة «تحتل» أراضي المسلمين «المقصود بذلك هو الوجود العسكري المكثف منذ عاصفة الصحراء».

ـ وبما ان كل «أميركي» ـ من خلال عمله بمؤسسات دولته وكذلك سداده للضرائب لحكومته ـ يدعم هذا الاحتلال اذن: فهو «محارب» للاسلام والمسلمين يجوز قتله وقتاله في كل زمان ومكان.

ونحن نختلف مع أصحاب هذه الرؤية لأننا نؤمن بأنه لا يجوز قتل المدنيين ولا النساء ولا الأطفال، ولا التجار ولا الفلاحين ولا حتى الرهبان المنقطعين في أديرتهم حتى مع اعتقادنا بكفرهم، فالاسلام يحرم قتل الكفار الا اذا انتصبوا لقتالنا. وفي هذا المعنى هناك العديد من النقول الصحيحة سنوردها في موضعها لاحقا ان شاء الله تعالى. وفي ضوء هذه الرؤية وهذا الضابط الشرعي الجلي كان حرصنا على عدم الانضمام لهذه الجبهة.

أضف الى ذلك ان طبيعة العلاقات الدولية وآليات الصراع في المجتمع الدولي المعاصر تفرض وجوب دراسة متعمقة متأنية لكافة أبعاد ومعطيات الموقف وحساب دقيق ومحكم لكافة تداعيات وآثار كل خطوة من هذا القبيل قبل الشروع فيها، ولهذا كان الانسحاب ضرورة شرعية وواقعية.

* بيان الجماعة حول الأحداث

* وبعد تأمل عميق للحدث واستشراف أعمق للمستقبل بادرت الجماعة ـ في غضون بضعة أيام فقط ـ الى اصدار بيان دقيق محدد يتناول موقف الجماعة من الحدث في ضوء النقاط الهامة التالية:

1ـ عدم مسؤولية الجماعة عن الأحداث لا من قريب ولا من بعيد «وتلك حقيقة كان لا بد من ابرازها».

2ـ تقييمنا للحدث من زاوية عدم مشروعية قتل المدنيين «سواء من العاملين بمركز التجارة العالمي أو ركاب الطائرات»، بالاضافة الى مخاوفنا ـ والتي تحققت فيما بعد ـ من آثار وتداعيات الأحداث على الاسلام والمسلمين وحكوماتهم ودولهم وثرواتهم ومقدراتهم ولقد كان هذا البيان الواضح في هذا الوقت الحرج استشرافا واعيا من الجماعة لمستقبل الأمور، ولعل من أهم ثماره أنه جنب الجماعة ووقاها من غضبة خصم غشوم لا يرعى للمسلمين حرمة ولا يرقب فيهم ذمة.

وبعد استعراض تاريخي لحركة «طالبان» الافغانية وموقف القوى القائمة منها فند المؤلفون ما أطلقوا عليه نظرية المؤامرة في تفسير الأحداث.

* نظرية المؤامرة.. تحليل ونقد

* تضاربت الآراء حول من قام بالحدث؟ أهو اسامة بن لادن أم غيره؟ وتوالت النظريات التي تفسر الحادث ودواعيه وفاعليه، وكان أظهرها نظرية «المؤامرة»، ووفق هذه النظرية وأصحابها فان أحداث الحادي عشر من سبتمبر دبرها الاميركيون أنفسهم واتخذوا منها ذريعة للدخول الى افغانستان واحتلالها.

أو ان الأحداث دبرها ونفذها الموساد لكي يورط العرب والمسلمين في حرب غير متكافئة مع اميركا والغرب، ويستدل أصحاب هذه النظرية باستدلالات واهية لا يقبلها كل ذي عقل سديد، فيستدلون بأشياء قدرية وقعت يوم الحادث ويغفلون عن آلاف الأدلة والقرائن الأخرى التي تدل على ان تنظيم «القاعدة» هو الذي خطط ونفذ هذه العملية ولعل أبرزها ما صرح به قادة وشيوخ هذا التنظيم صراحة.

ومن أشهر من تبنى «نظرية المؤامرة» تلك: الكاتب الفرنسي «ميسان» في كتابيه: «الخديعة» و«بنتاجيت»، حيث ادعى ان الاميركيين أنفسهم هم الذين صنعوا الحدث وان كان هذا الكاتب «الغربي» لا يهمنا في شيء.

ولكن ما يحزن حقا هو ان كثيرا من العرب والمسلمين ممن كتبوا عن الحادث أخذوا بنظرية المؤامرة بشكل أو بآخر في تفسير الحدث، فبعضهم نسب الحدث الى المتطرفين الاميركيين ـ كما حدث في تفجيرات أوكلاهوما ـ وبعضهم قال فعلته المخابرات الاميركية وبعضهم قال فعله الموساد، الى آخر هذه التفسيرات السقيمة.

وللأسف فان أكثر المقتنعين بنظرية المؤامرة تجدهم في الوطن العربي والاسلامي، ومما يدعو للدهشة ان بعض المفكرين الاسلاميين والعرب يعتنقون هذه الفكرة ويجعلونها محورا دائما لتفسير الأحداث التي تمر بنا، بل ويعلمونها للناشئة الصغار ويربونهم عليها وهذا هو الأدهى والأمر.

ان نظرية المؤامرة هي أسوأ نظرية تعوق العقل العربي والاسلامي عن الانطلاق، وتحد من قدرته على حل المشكلات لأنها لن تجعله يحلل المشكلات تحليلا سليما، وبالتالي فلن يعرف حدودها وأسبابها بدقة.

فمثلا: اجتياح العراق للكويت عام 1990 مؤامرة اميركية دبرتها اميركا للعراق، مع ان الجميع يعلم غير ذلك، وقتل الشيخ الذهبي على يد جماعة التكفير مؤامرة دبرتها الحكومة ونفذتها للتخلص منهما معا، مع ان القاصي والداني يعلم غير ذلك، وحرب اكتوبر «تمثيلية» بين السادات واسرائيل واميركا لتحريك الموقف، مع ان كل ذي عقل سديد يعلم انها من أعظم حروب المسلمين في العصر الحديث والتي رفعت رأس العرب والمسلمين عاليا.

وكذا أحداث الحادي عشر من سبتمبر دبرها الموساد لكي يسلط اميركا على العالم الاسلامي، والحقيقة طبعا غير ذلك، وقتل السادات بتدبير المخابرات الاميركية وبمؤامرة اميركية، وهذا أيضا مخالف لأبسط الحقائق في هذا الحادث.

وما دام بعض العرب والاسلاميين يتبنون «نظرية المؤامرة» واننا مبرأون من كل خطأ وان كل ما يدور حولنا هو نتيجة مؤامرة امبريالية صهيونية غربية وما دمنا كذلك فلن نتقدم أبدا.

ان المعنى الحقيقي لـ«نظرية المؤامرة» هو إلغاء ارادتنا وارادة كل أحد سوى أعداء الاسلام، وتعليق كل أخطائنا وسلبياتنا على شماعة المؤامرة الاميركية الصهيونية، وكأننا لا دور لنا في أي حدث يحدث في العالم.

وأنصار نظرية المؤامرة يرون في العلاقات الدولية مجرد تآمر وليس تلاق وتعارض مصالح تتطلب التخطيط لتحقيقها، ويعولون على العامل الخارجي «الاميركي» في تفسير كل مآسينا، وتجاهل أخطائنا الاستراتيجية.

ومن أبرز وأسوأ الكتب التي شكلت العقل العربي المهيأ أساسا لنظرية المؤامرة وجعله يتقبل ويعجب بهذه النظرية هو كتاب انتشر بين شباب الحركة الاسلامية في الستينات والسبعينات وهو كتاب «أحجار على رقعة الشطرنج»، وقد أتى هذا الكتاب بسلبيات كثيرة شوهت العقل العربي والاسلامي وشوشت فكره وكانت سلبياته أكثر من ايجابياته.

ذلك كله فضلا عن اشعار المسلمين انهم لا ارادة لهم ولا فائدة من ان تكون لهم ارادة للتغيير الايجابي.

* الملا عمر.. ثقافته وخبرته

* ليس تحقيراً من شأنه ولا انتقاصا من قدره، نقول انه ـ رحمه الله حياً وميتاً ـ تخصص منذ وعيه وادراكه في تلقي الفقه الاسلامي الشرعي من أمهات كتب السلف وعلى يد معلميه الشرعيين، ولم تتح له فرصة دراسة أو معايشة الواقع لا الاقليمي ولا الدولي، ولم يدرس ذلك لا أكاديميا ولا عمليا ولا حتى وراثيا.

وحتى تلك الفترة العصيبة التي عاشها في افغانستان ابان الاحتلال السوفياتي لها كان آنذاك في مقتبل عمره وكان هناك في مدارس ومعاهد العلم الشرعي في باكستان بمنأى عن معترك السياسة وخضم القيادة.

وقد أهلته ملكته العلمية وفصاحته الخطابية ـ فضلا عن صدق نيته واخلاصه ـ لأن يتبوأ موقع الصدارة بين رفقائه من طلاب العلم الشرعي فأصبح أميرا على جماعته، وفارق كبير جدا بين امارة جماعة ورئاسة دولة.

وقيض الله لحركة طالبان أن تسيطر على 95 في المائة من أرض أفغانستان، ويبدو ان مكانة الملا عمر الروحية بين افراد حركته جعلت له موقع الصدارة كذلك في أجهزة الدولة الناشئة، الا أن التجربة العملية والسنوات القلائل التي تولت فيها طالبان رئاسة البلاد وعلى سدة حكمها الملا عمر برهنت انه ـ رحمه الله ـ فقيه لا قائد.

ستظل افعانستان ـ ربما لحقب طويلة ـ تمثل المعادل المكافئ لكلمة «المأساة»، فلقد تحولت افغانستان من حلم جميل يراود ملايين المسلمين، ومن مشروع جهادي نضالي عظيم الى أعظم مأساة في تاريخ المسلمين، الحديث والمعاصر، وربما لا نبالغ اذ نقول: انها من كبريات النكبات التي دهمتنا بعد سقوط الخلافة وضياع فلسطين.

لقد صنعت مأساة افغانستان وتشكلت على يد أبنائها وبسبب رواسب ثقافية وعرقية عتيدة ومصالح شخصية ونزعات حزبية لم تستطع السنوات الطوال محوها، وطالما أبكانا المشهد الافغاني بتداعياته المختلفة، بكينا ونحن نشاهد جموع المجاهدين وهي تدخل كابول وظننا وقتها ان الحلم قد تحقق وقد آن للشعب الافغاني ان يتنسم عبير الحرية ويضمد جراحه ويكفكف دموعه، ولكننا كنا واهمين، فما ثم قليل الا ودوي المدافع يبدد الأحلام ويقضي على الآمال، ووقف مجاهدو الأمس يتصارعون ويتقاتلون والشعب الافغاني لم تندمل جراحه بعد، فدفع الثمن من دمه وماله، وبدا المشهد قاتما بل سوداويا.

ولاحت بوارق الأمل من ظلمة المحنة عام 1997 وطلاب المدارس الشرعية المعروفون باسم «طالبان» يتدخلون بقوة لحسم الأمر وفض النزاع واعادة الأمور الى جادة الصواب، وتحقق لهم ما يصبون اليه وسيطروا على ما يقرب من 90 في المائة من اراضي افغانستان، والحق يقال فقد بدا المشهد الافغاني أكثر صفاء ونقاء، فقد تحقق الأمن للشعب الافغاني بعد غياب سنوات طويلة، واختفى قطاع الطريق ونقاط تحصيل الاتاوات ودمرت مزارع الخشخاش وحوصرت تجارة الأفيون وظل المشهد الافغاني يبدو ظاهريا كأفضل ما يكون، الا من بعض المنغصات من جانب تحالف الشمال ورئيسه شاه مسعود.

وحاولنا ـ للأسف الشديد ـ ان نغض الطرف عن بعض ممارسات طالبان طيلة السنوات الماضية قانعين أنفسنا ان الأمر قد يكون مغاليا فيه، أو غير صحيح بالمرة، ولكن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما استتبعها من أحداث لتنازعنا عن موقف المشاهد المتفرج وتضعنا في موقف المحلل المدقق استنهاضا لمسؤوليتنا تجاه أمتنا، فلقد كان المشهد مروعا في جاجي وتورابورا وقندهار وجلال آباد وغيرها، وما زلنا حتى الآن نقف على أطلال هذه المشاهد نذرف عندها الدمع على أرواح أزهقت وحرمات انتهكت، ولكننا أبينا الوقوف طويلا، فالمأساة جد خطيرة، وما جاجي وتورابورا وغيرهما، الا انعكاسات أليمة لهذه المأساة المتشعبة الجذور في التربة الأفغانية، والمقام لن يتسع لشرح وتحليل وتفنيد المأساة بالصورة كاملة، ولكننا سنحاول إلقاء الضوء على أحد جوانب المأساة.. ألا وهو شخصية الملا عمر.

فبادئ ذي بدء، يعلم الله اننا نكن الحب والاحترام لكل مسلم صادق مع ربه، والملا عمر نحسب انه من أولئك الرجال الذين أرادوا وجه ربهم وصدقوا معه، فالرجل رضي لنفسه ان يحيا حياة الزاهد المتقشف وهو رئيس للدولة، وحاول جهد طاقته ان يطبق الاسلام في حياة الناس، وكان الرجل عازفا عن الشهرة والأضواء، ويكفي انه استطاع بقيادته لطالبان تحقيق الأمن للمواطن الافغاني، واضفاء نوع من الهدوء على أفغانستان لم تشهده البلاد منذ سنوت طويلة، لقد اجتهد الملا عمر ـ بحسب طاقته وقدر جهده ـ ولكنه ـ شزن البشر ـ كان معرضا ان يقع في اخطاء، ولكنها في حالته كانت من الأخطاء القاتلة التي عجلت بانهيار دولة طالبان، ووقوع افغانستان فريسة الأسر الأميركي وهي التي ما انفكت تضمد جراح الأسر السوفياتي.

لذا كانت الأسطر التالية محاولة للاستفادة وليست ـ يعلم الله ـ للتشهير أو الشماتة، وكيف ذاك والجرح جرحنا، والمأساة جزء من تفكيرنا، ليس عيبا ان ننقد ذاتنا طالما انه في صالح انارة طريقنا، لقد أحببنا الملا عمر وتعاطفنا معه، ولكن حبنا للحق أقوى وأشد، ولقد عاتب الله صحابة نبيه رضي الله عنهم بعد أحد: «منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة» (آل عمران: 152)، وما نقص هذا من قدرهم شيئا.

لقد كانت أولى أخطاء الملا عمر انه قاد دولة افغانستان بنفس العقلية التي كان يقود بها جماعة طالبان، ففرق كبير وبون شاسع بين قيادة الدول وقيادة الجماعات، وهذا أمر لم تبد له انعكاسات على تصرفات الملا عمر، لقد كان ينبغي عليه ان يتعامل مع افغانستان صاحبة التركيبة السكانية المعقدة بعقلية رجل الدولة الحصيف الذي يتعامل مع الواقع، كما هو لا كما ينبغي فمن المعروف ان افغانستان تضم العديد من العرقيات المتناحرة، فالباشتون يمثلون 40 في المائة والطاجيك 25 في المائة والاوزبك 15 في المائة والشيعة 20 في المائة.

أمشاج ونطف مختلفة كان ينبغي على الملا عمر توسيع دائرة المشاركة السياسية لصهرها في بوتقة واحدة تخدم أمن أفغانستان في نهاية المطاف، ولكن الملا عمر تعامل معهم وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية وأعلى من قيمة العرق الباشتوني، فكانت النتيجة ان ارتمت هذه العرقيات في أحضان مسعود ودوستم وفهيم وغيرهم وبعد ذلك في أحضان الأميركان، وكانوا بمثابة مخلب القط الذي نهش ومزق أوصال دولة افغانستان.

لقد كان ينبغي عليه ان يتبع سياسة الاحتواء تجاه العرقيات الأخرى ويحاول ان يبحث عن وسيلة أخرى غير الحرب والسلاح لادماجهم في الحياة الافغانية وان يعاملهم بمبدأ «القبول والاعتراف» لا «الرفض والاستبعاد»، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما هاجر الى المدينة اتبع سياسة الاحتواء تجاه العناصر المناوئة له، لذا كان ينبغي على الملا عمر ان يوطن نفسه انه رئيس لدولة تضم أعراقا شتى ورعايا أخر وبعض الديانات وعليه ان يتعامل مع كل هؤلاء كما تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الآخرين في مجتمع المدينة.

ثم انه قد يكون طبيعيا ان تعيش جماعة «طالبان» في جزيرة منفصلة عن العالم ولكن هذا الوضع لا يصلح لدولة مثل افغانستان فوجدنا الملا عمر يهمل ادماج افغانستان في الحياة الدولية، ولم يقم علاقات دبلوماسية سوى مع ثلاث دول فقط وخسر ايران جارته القوية عندما قتل بعض الدبلوماسيين الايرانيين وهو أمر مخالف لكافة الأعراف الدولية حتى في حالة ثبوت تجسسهم، وهكذا عاشت افغانستان وحيدة حبيسة الجبال العتيدة، تجرجر أذيال الفقر والتخلف التي عمت البلاد.

ثم كان الخطأ الثاني الذي وقع فيه الملا عمر عندما أهمل الاهتمام بالشعب الافغاني صحيا وتعليميا واجتماعيا واقتصاديا، ولم يهتم برفع معدلات التنمية ـ المنعدمة أصلا ـ لشعب يصنف في خانة أشد دول العالم فقرا، واتخذت السلطات الافغانية موقفا متشددا من المرأة فألغت وجودها وضيعت حقوقها التي كفلها الاسلام، كل هذه عوامل أدت الى انهيار المجتمع الافغاني تحت وطأة الدولار والهامبورغر الاميركي.

بل ان الملا عمر لم يهتم بتحقيق التواصل بينه وبين الشعب الافغاني، بل لعله اعتبر هذا أمرا تافها لا يستحق الذكر، مع ان قادة الدول رؤوس العمل السياسي ينفقون الأموال الطائلة لتحقيق هذا التواصل الجماهيري، ولكن الملا عمر ألغى وسائل الاتصال الاعلامي مثل التلفاز والانترنت ولم يهتم بالاستفادة من هذه التقنيات لخدمة الاسلام في بلد كأفغانستان ترتفع فيه نسبة الأمية ويصبح للكلمة المسموعة دور ايجابي عظيم.

من الطريف ان أكثرية الشعب الافغاني لا يعرف صورة الملا عمر ولم يره الا القليل من أبناء الشعب الافغاني.

قد يكون الشعب الافغاني أحب طالبان ولكنه لم يرتبط وجدانيا بالفكرة التي حملتها طالبان، فلم يسع الملا عمر وقادة طالبان الى تربية الشعب الافغاني تربية ناضجة راشدة تخرجهم من مرحلة البداوة الحضارية التي يرسفون في اغلالها الى مرحلة التحضر الفكري والتقني.

ما كان الشعب الافغاني يستحق المعاناة من حكامه وقادته، فله حق في الحياة مثل بقية الشعوب والأمم وما قدر عليه ان يعيش بين الاطلال والخرائب يبحث عن لقمة تسد رمقه، وتكون أغلى أمنية تتمناها المرأة الافغانية أن توفر لها الحكومة قابلة لأن النساء يمتن أثناء عملية الوضع.

هذا الحصار الفكري الذي فرضه الملا عمر على الشعب الافغاني قد يكون مقبولا ان يفرضه قائد جماعة على أفراد جماعته ولكنه ليس مقبولا بالمرة من حاكم دولة على شعبه، فالانفتاح على الآخرين ليس معناه الذوبان وتمييع الشخصية المسلمة وهذه مهمة القادة والمربين، فالمسلمون في حركة الفتوح الأولى اصطدموا بحضارات تمتلك رصيدا ماديا ضخما وأيضا فكريا لا يستهان به فلم يضربوا حول ذواتهم عزلة تقيهم من هذه الشرور، بل وقفوا أمام هذه الموروثات الفكرية والمادية الضخمة وقاموا بعملية تنقية ضخمة في استعلاء ايماني عظيم فقبلوا كل ما وافق الاسلام، واستبعدوا كل مضاد ومخالف له، ولكن الملا عمر آثر الحل السهل، وقد يكون سهلا في قيادته لجماعته المتوحدة فكريا بل وتقريبا عرقيا، أما في شأن قيادة الشعوب فلا مناص من الاعتراف بالفشل.

أما ثالثة الأثافي والخطأ الاستراتيجي القاتل الذي أودى بالدولة وبطالبان فهو ما قام به الملا عمر بربط مصيره ومصير الدولة بل ومصير شعب بأسره بمصير تنظيم «القاعدة» وقائده اسامة بن لادن، فقد يكون مقبولا ان تتحالف جماعة مع نظيرتها أو دولة مع مثيلتها، أما أن تتحالف دولة ذات سيادة مع تنظيم فهذا هو الجديد في حالتنا، اننا قد نتفهم ان يوفر الملا عمر مكانا آمنا لكل من شارك الشعب الافغاني جهاده ضد السوفيات وهذا أقل ما يقدم لهم، ولكن ما كان ينبغي ان يسمح الملا عمر لتنظيم «القاعدة» ان يستخدم أراضي افغانستان كقاعدة للانطلاق لشن هجمات على المصالح الاميركية والغربية، فالحكم على الرعية منوط بالمصلحة كما تقول القاعدة الفقهية، والمصلحة هنا تقتضي وقف كل هذه الانشطة ومنع تنظيم القاعدة من جر البلاد الى مواجهات لا طاقة لها بها، والشأن هنا لا تحكمه العواطف الجياشة بل التفكير المتزن الذي يقدر عواقب الأمور ويحسبها.

* تجربة السودان

* لقد كادت دولة السودان أن تضيع من قبل عندما سمحت النخبة الحاكمة فيها بوجود وضع مشابه لما حدث في افغانستان بعد ذلك، ولكن الله سلم، واستدركت القيادة السودانية الأمر وصححت أوضاعها، وهي تجربة على ما يبدو لم يستفد منها الملا عمر وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتضع افغانستان وجها لوجه أمام أميركا بصلفها وجبروتها وقوتها العسكرية التي لم يعرف التاريخ لها مثيلا، ولقد كان القصف الصاروخي الاميركي عام 1999 بمثابة الانذار وناقوس الخطر الذي دوى للجميع، وكان ينبغي على الملا عمر ان يحجم تنظيم «القاعدة» رحمة بشعبه وبدولته ولكنه غض الطرف عن كل هذا حتى وقع ما وقع ولم يبق لنا سوى احصاء موتانا.

وهكذا تمضي تجربة الملا عمر مليئة بالدموع والأوجاع، وفي الوقت ذاته بالعبر والعظات التي ينبغي على كل محب لدينه أن يقف أمامها معتبرا، كذا ينبغي على جميع ابناء الحركة الاسلامية ان يعوا هذا الدرس جيدا فهذا رجل أحب دينه وأخلص له ـ نحسبه كذلك ـ ولكنه لم يمتلك الحس السياسي والعقلية الاستراتيجية اللتين تمكناه من قيادة الدولة، فالصلاح وحده ليس مقوما لقيادة الدول وسياسة الشعوب، فها هو أبو ذر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر انك ضعيف، وانها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة الا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها»، قال العلماء: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف وهو من دخل فيها بغير أهلية، والضعف هنا ليس ضعف الايمان كما يتصور البعض فلم يكن أبو ذر ضعيف الايمان أبدا بل كان معروفا بقوة الايمان واليقين، ولكنه ضعف عن القيام بأعباء مسؤولية الدولة بما تتطلبه هذه المسؤولية الضخمة من استعدادات ذهنية وسياسية وعسكرية واقتصادية وخبرات انسانية وتاريخية وأمنية وجغرافية، وهذا الحديث بالذات من دلالات النبوة وعبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم في فهمه لمتطلبات الولاية العامة، وقد يوجد من يصلح لقيادة جماعة ما، ولكن هذا لا يعطيه مسوغا وصكا لقيادة الدول والشعوب ما لم يمتلك الادوات المؤهلة لذلك حتى لايعود الأمر وبالا على الاسلام والمسلمين.

وفي النهاية يبقى شعب افغانستان شاهدا على حجم وعمق المأساة، يبقى شعب تقاذفته محن وأعاصير، وتلاعبت به الاهواء تارة والاطماع تارة، وانعدام الخبرة تارة ثالثة، شعب صنعت مأساته على يد أبنائه، وقدر له أن يكون معبرا لجيوش المحتل ومأوى لهم ولو لفترة، فهل سيأتي يوم نضحك فيه مع هذا الشعب الذي أبكانا؟.. سؤال حائر قد لا نملك اجابته الآن.