الكرملين يزيد الطين بلة بالانحياز المكشوف إلى «مرشحه» في الشيشان

TT

هاهي الشيشان تدخل انتخاباتها الرئاسية اليوم. ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية الروسية لمجلس الدوما في نهاية العام الحالي، يحتدم الجدل حول مشروعية ـ ومنطق ـ الكثير من تصرفات الكرملين تجاه هاتين القضيتين. وكانت الاصوات قد تعالت مؤخرا احتجاجا على ما يبدو تدخلا في سير العملية الانتخابية لاختيار حاكم سنت بيترسبرغ من جانب الرئيس فلاديمير بوتين.

فقد تدخل الرئيس الروسي لمصلحة فالنتينا ماتفينكو (ولم تفز مع ذلك) التي كانت حتى الامس القريب نائبة لرئيس الوزراء في موسكو قبل توليها لمهام الممثل الشخصي للرئيس في المنطقة الشمالية (سنت بيترسبرغ). وقد تصاعدت ضجة مماثلة بسبب ظهور الرئيس الروسي في المؤتمر الاخير لحزب «الوحدة»، الذي اسسه الرئيس السابق بوريس يلتسين لخوض انتخابات مجلس الدوما عام 1999 بمساعدة الملياردير اليهودي الهارب بوريس بيريزوفسكي. وقد منحت بريطانيا هذا الأخير حق اللجوء السياسي مؤخرا في الوقت الذي تطالب فيه النيابة العامة الروسية بتسليمه لأسباب قالت انها تتعلق بـ«جرائم اقتصادية».

* لقبوه بـ«مرشح الكرملين»

* وبينما تتواصل الاحتجاجات على تدخل الرئيس (وصل بعضها الى ساحات القضاء الذي لا ينصف احدا ضد الكرملين في العادة) ضم الرئيس بوتين والحاج احمد قادروف ـ الرئيس الحالي للادارة المؤقتة في الشيشان والذي يعتبره خصومه السياسيون من الشيشان انفسهم «مرشح الكرملين في الشيشان» ـ الى الوفد الذي رافقه الى الامم المتحدة الاسبوع قبل الماضي. ويذكر ان قادروف، 53 عاما، سلك طريقا غير مألوف الى السلطة. فقد حارب الروس في بلاده، حتى عام 1994 عندم شغل منصب المفتي (حتى عام 1997). وبعد ذلك بعامين اتصل بالكرملين قائلا انه يود التعاون معه «سعيا الى حياة افضل للشعب الشيشاني» فعينه بوتين رئيسا للإدارة المؤقتة في بلاده (ولذلك وصموه بالخيانة)، وهو المنصب الذي ظل يشغله حتى هذه الانتخابات التي ستأتي به ـ حتما ـ رئيسا للشيشان. وجاء قرار بوتين اصطحاب قادروف الى نيويورك قبل اسبوعين ليصب المزيد من الزيت على نيران الصراعات التي تحتدم حول ما يعتبر «تدخلا من الكرملين لصالح قادروف» واستمرار محاولاته لازاحة اقوى منافسيه في الانتخابات المقبلة. وكانت الاوساط السياسية والاعلامية قد توقفت عند اعلان حسين جبرائيلوف، رجل الاعمال واحد ابرز المرشحين للفوز بمنصب الرئيس، الذي سحب ترشيحه وكذلك سيد سليم تسويف نائب الحاكم العسكري للشيشان.

لم تكن الاوساط الشيشانية والسياسية في موسكو قد فرغت من تفنيد ودراسة الابعاد الحقيقية لهذين الموقفين حتى فاجأ الكرملين ناخبي الشيشان بإعلان قراره تعيين الجنرال اسلام بك اصلاخانوف مساعدا للرئيس، وكان ايضا من ابرز المرشحين للفوز بالمنصب. ولم يتوقف الامر عند حد «اقناع» هؤلاء المرشحين بالتراجع عن ترشحهم للمنصب اذ سرعان ما فاجأت اللجنة المركزية للانتخابات في الشيشان الجميع بقرارها منع مالك سيد اللايف ـ رجل الاعمال الشيشاني، الذي كان ايضا من اصحاب الفرص الحقيقية للفوز بالمنصب ـ من خوض الانتخابات «بسبب افتقار الكثير من الاوراق التي تقدم بها للدقة»!، وهو ما اعتبره كثيرون تطورا في نفس اتجاه ازاحة المنافسين الحقيقيين لـ«مرشح الكرملين» قادروف رغم كل محاولات موسكو تأكيد حيادها المطلق تجاه كل المرشحين واعلان الرئيس بوتين شخصيا انه سيؤيد من يختاره الشعب الشيشاني. على ان المسؤولين الروس لا ينكرون «الدور الكبير» الذي اداه هؤلاء المرشحون في تهدئة الاوضاع السياسية في الشيشان وما قدموه من دعم حقيقي لسياسات الكرملين. وهو ما تمثل عمليا في «اقرار» الدستور الشيشاني الجديد الذي صاغته موسكو، وينص على ان الشيشان «جزء لا يتجزأ من أراضي الدولة الروسية». وقد بذل هؤلاء المرشحون «المستبعدون» سواء طواعية اوكرها الكثير من اجل التوصل الى هذه النتيجة بأغلبية ساحقة في مارس (آذار) الماضي.

ولعل ذلك يمكن ان يفسر التصريحات التي توالت حول «امتناع» الكرملين عن التدخل في الانتخابات لصالح مرشح بعينه، والمشاورات التي جرت بين هؤلاء المرشحين حسب تصريحات صحافية مع ممثلي الكرملين حول هذه القضية. غير انه اذا كان كل من جبرائيلوف واصلاخانوف يحاولان التزام الصمت في قراريهما الانسحاب من السباق الانتخابي فإن سيد اللاييف لا يزال يصر على موقفه المتمسك بأنه منع من خوض الانتخابات ظلما بعدما رفضت المحكمة العليا استئنافه ضد قرار حظر ترشحه.

* مشاكل أمام إعادة الإعمار

* ثمة شواهد تقول ان مثل هذه الاوضاع قد لا تنذر بأمن كثير على ضوء ما تردد عن المسلحين الذين يعملون ضمن فرق حراسة سيد اللاييف الى جانب احتمالات عزوف رجال الاعمال الشيشان عن المشاركة لاحقا في اعادة اعمار الشيشان، والاستمرار في ولائهم للسلطة الفيدرالية ما دام قادروف على رأس السلطة هناك.

لكن ما نعرفه عن سياسات الرئيس بوتين، الذي بدأ مسيرته صوب عرش الكرملين من داغستان والشيشان في صيف عام 1999، يؤكد ان موسكو لن تتراجع عما سبق ان أعلنته من «وجوب تصفية التمرد والقضاء على الحركة الانفصالية التي اعتمدت في الكثير من جوانبها على العمليات الارهابية والتخريبية داخل الشيشان وخارجها». وتستشهد موسكو في ذلك بأحداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وكشف النقاب عن «الكثير من الزيف الغربي والدعم الذي كان يتدفق على المقاتلين تحت وصاية اميركية». لكن المهم يبدو اليوم في اطار ان الصراع الذي نتناوله بشأن الانتخابات في الشيشان يحتدم بين رفاق الامس من الموالين لموسكو والذين انسلخ الكثير منهم عن الانفصاليين وفي مقدمتهم الحاج احمد قادروف، الذي خاض الحرب الشيشانية الاولى في صفوف الجنرال جوهر دوداييف الى جانب المقاتلين اصلان مسعدوف وشاميل باساييف واحمد زكاييف اذ وجد المبرر الديني لذلك من موقعه كمفتي جمهورية اتشكيريا ـ الشيشان.

ورغم كل المخاطر التي تكتنف الموقف في الشيشان اليوم، يعرب المراقبون عن الأمل في ان يكون فوز مرشح الكرملين «مجرد بداية مرحلة انتقالية من الحرب الى السلام»، على حد تعبير بعضهم، لا بد ان تفضي لاحقا الى تشكيل السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية في اطار التبعية الفيدرالية للسلطة المركزية في موسكو.

لكن الامال وحدها لا تكفي ما لم تكن في وفاق مع تقاليد هذا الشعب الجبلي الذي تحكمه تقاليد قبلية تعود بتاريخها وتضرب بجذورها في اعماق التاريخ. وهذه التقاليد لن تسمح، وفق مختلف التقديرات والشواهد، بأمن كثير للقيادة الشيشانية المقبلة. وهو ما يعني ضرورة الابقاء على نفس الاواصر التي عثر عليها الكرملين للارتباط بأبرز ممثلي الجالية الشيشانية في موسكو بوصفهم البديل الحقيقي للسلطة الانتقالية في الشيشان.

ولعل الكثير من جوانب الموقف لا بد ان تتضح لاحقا على ضوء ما ستقدمه السلطة الفيدرالية من دعم مالي لإعادة اعمار الشيشان، وتوفير فرص العمل لجيش العاطلين فيها ممن وقعوا فريسة الاضطرابات وهيمنة المقاتلين على ثروات ومقدرات هذه الجمهورية الغنية بالنفط والقادرة عمليا على توفير احتياجاتها من المواد الزراعية واللحوم.

وثمة من يقول ان الكثير بهذا الشان لا بد ان يؤثر لاحقا على تطورات الاوضاع في شمال القوقاز قبيل الانتخابات البرلمانية في ديسمبر (كانون الاول) 2003 والرئاسية في مارس (آذار)، والتي يظل الرئيس بوتين ابرز المرشحين للرئاسة فيها.