التهديد بالاستقالة فن أتقنه المستشار الألماني

غيرهارد شرودر يربط مصيره السياسي (للمرة الثامنة) بنتائج التصويت على إصلاحات 2010

TT

هدد المستشار الالماني غيرهارد شرودر للمرة الثامنة خلال فترة حكمه البالغة ست سنوات بالاستقالة. وجاء التهديد الاخير بعد ان رفعت حفنة من اعضاء حزبه واعضاء «حزب الخضر» الحليف صوتها ضد برنامج شرودر الاصلاحي المسمى «اجندة 2010» وهددت بالتصويت ضده في البرلمان الالماني يوم 17 أكتوبر (تشرين الاول) الحالي.

ولكن، من يصدق ان البراغماتي المتعطش للحكم شرودر سيستقيل من منصبه بهذه السهولة يرتكب خطأ كبيرا. فالمستشار الاشتراكي هدد عدة مرات سابقة بالاستقالة ما لم تنل برامجه المختلفة اكثرية حزبه وحزب الخضر في البرلمان (البوندستاغ). حدث ذلك اثناء الاتفاق على برنامج الانتقال من الطاقة النووية الى الطاقة البديلة عام 1998، اي بعد اشهر قليلة من فوزه بانتخابات ذلك العام. ثم تكرر اثناء إقرار قانون الجنسية للاجانب، وثالثة عند التصويت على ارسال القوات المسلحة الى البلقان، ورابعة... ثم ضاع الحساب. وحذرت خبيرة حزب الخضر للشؤون المالية، كريستينا شيل، من مغبة ذلك قائلة: «على المستشار احصاء المرات التي هدد فيها بالاستقالة». وتوقع النائب ديتليف فون لارخر من «المنبر الديمقراطي 21» في الحزب الديمقراطي الاشتراكي نفسه ان يضطر المستشار يوما لتنفيذ تهديداته حفظا لماء الوجه.

ويعول شرودر، في برنامجه الاصلاحي، على «اجندة 2010» التي يرى انها ستضمن «اختراقا» في الوضع الاقتصادي والاجتماعي في المانيا حتى نهاية العقد الاول من الالفية الثالثة. وهو برنامج لإصلاح الاقتصاد والنظام الضرائبي والاجتماعي والصحي عن طريق خفض الضرائب على الشركات وتقليل اعباء الدولة المالية في المجالين الاجتماعي والصحي. وينتظر ان توفر الدولة مبلغ 15 مليار يورو سنويا من خلال تحميل المواطنين جزءا من تكلفة التأمين الصحي ودمج المساعدات الاجتماعية بمعونات العاطلين عن العمل مع تقليص رواتب العاطلين في السنة الاولى التي تلي اقالتهم من العمل بنسبة 25%.

وطبيعي، فإن خفض مساعدات العاطلين عن العمل ومتلقي المساعدات الاجتماعية سيلقي بثقله على مواطني الولايات الالمانية الخمس الجديدة (الشرقية) التي تصل البطالة في بعض مدنها الى 24%. فالمعارضة الداخلية للبرنامج الاصلاحي ترى ان اجندة 2010 ستقضي على معظم المكتسبات الاجتماعية التي تحققت حتى الآن.

* أغلبية شرودر وأقلية الأنفلونزا

* يرى ستة «مارقين» من الحزب الديمقراطي الاشتراكي وأربعة «مشاكسين» من حزب الخضر ان اجندة 2010 تأتي على حساب المحتاجين من العاطلين ومتلقي المساعدات الاجتماعية. ويرون ايضا انها تتضارب تماما مع مبادئ الديمقراطية الاجتماعية التي يحمل حزب شرودر اسمها.

ويبدو للوهلة الاولى ان هذا العدد اصغر بكثير من ان يهدد اغلبية التحالف الحاكم في برلين. الا ان نظرة صغيرة الى تركيبة البرلمان الالماني في الدورة الحالية تكشف سر مخاوف المستشار. ذلك ان تحالف الاشتراكي (251 مقعدا) يشغل مع الخضر (55 مقعدا) ما مجموعه 306 مقاعد من اصل 603 هو مجموع مقاعد البرلمان المخصصة للدورة الحالية. اما المعارضة المسيحية فتحتل 248 مقعدا تاركة للحزب الديمقراطي الحر الحليف 47 مقعدا ولحزب الاشتراكية الديمقراطية مقعدين.

وهذا يعني ان مقاعد اغلبية المستشار شرودر ـ البالغة تسعة كراس ـ قد تتأثر تماما بتصويت المارقين العشرة ضد اجندة 2010 او في حال امتناعهم عن التصويت. وقد يزداد الطين بلة في اجواء برلين المطيرة اذا استمرت موجة الانفلونزا في هذه الايام الربيعية المتقلبة حتى 17 اكتوبر، اذ ان كل نزلة برد او حالة اسهال ضئيلة قد تصيب نواب الحكومة، ويسلم منها نواب المعارضة بالصدفة، قد تحول اغلبية «الحافة» في البرلمان الى صالح المعارضة.

وفي محاولة لتخويف اولئك المارقين، ذكر رئيس سكرتير الحزب الديمقراطي الاشتراكي، فرانز مونتفيرنغ، بأزمة سابقة حول برامج الاصلاحات اطاحت المستشار الاشتراكي الثاني هيلموت شميت عام 1982 وادت الى صعود الديمقراطي المسيحي هيلموت كول الى سدة الحكم طوال 16 عاما. وواقع الحال ان شميت واجه مصاعب مماثلة مع يسار الحزب ذلك العام بسبب «برنامج الاقتصاد الاوروبي» الذي اصر على اجازته في البرلمان. الا ان سبب سقوطه الذي يعرفه الجميع هو «تمرد» الحزب الديمقراطي الحر، حليفه آنذاك، وانتقاله الى احضان الحزب الديمقراطي المسيحي.

* تهديدات على جبهتين

* ولأن تمرد الحزب الليبرالي الصغير كان سبب سحب الثقة من المستشار شميت، عمل المستشار شرودر على قطع دابر التمرد في حزب الخضر منذ البداية (عام 1998) عن طريق التهديد بفك عرى التحالف مرة وبالاستقالة مرة ثانية. وهذا يعني انه يحاول فرض برامجه على المعارضين اكثر من محاولة اقناعهم.

كما انه يحاول رأب الصدوع داخل حزبه وداخل التحالف الحكومي، وبالتالي تحقيق نوع من الاجماع او الوحدة داخل صفوفه، عن طريق الابتزاز، وهي طريقة يشك العديد من المراقبين السياسيين في جدواها. وعلى اي حال لم يسبق للحزب الديمقراطي الاشتراكي ان حكم اكثر من ثمانية اعوام. ويشير آخر استطلاع للرأي اجرته صحيفة «دي فيلت» الى ان اغلبية المانية كبيرة تعتقد ان تحالف الاشتراكيين والخضر سيفشل في الانتخابات القادمة.

والملاحظ ايضا ان شرودر جرب التهديدين في المرة الاخيرة قبل سفره الى الشرق الاوسط بأيام. فقد هدد بشكل علني المارقين من اعضاء حزبه بالاستقالة اذا لم يصوتوا الى جانب برنامجه الاصلاحي. كما وجه تهديدا مبطنا الى حزب الخضر حينما دعا الكتلة المسيحية في البرلمان الى التعاون معه في اطار «تحالف عقلاني». واوضح بعدها انه لا يوجه بهذا التصريح دعوة للحزب الديمقراطي المسيحي بغية تشكيل «تحالف حكومي عريض» وانما للتعاون من اجل اجازة الاصلاحات في البرلمان في 17 اكتوبر.

ويطلق مسؤولو الحزب الديمقراطي الاشتراكي التصريحات حول امكانية التحالف مع الحزب الليبرالي او مع الحزب الديمقراطي المسيحي بغية ترويض الحليف الصغير (الخضر). ومن جانبهم يلوح قادة الحزب الديمقراطي المسيحي بـ«التقارب» مع الاشتراكي في محاولة لزيادة الشقاق داخل التحالف الحكومي الحالي. هذا مع العلم انه سبق للمستشار في اجتماع الحكومة الاخيرة ببرلين ان حذر من انهيار التحالف الحكومي مع الخضر وهدد بالاستقالة ايضا.

ويبدو شرودر وسكرتير حزبه التنظيمي مونتفيرنغ مصرين على استعراض مظاهر هذه الوحدة الداخلية، رغم اصرار الطرف المعارض، بسبب عدم ثقتهم بمواقف احزاب المعارضة. وقد اعلنت الاخيرة تأييدها للاصلاحات مع بعض التعديلات. واذا كان شرودر يكتفي بالتهديد بالتخلي عن كرسيه فإن مونتفيرنغ ذهب الى ما هو ابعد من ذلك وهدد المارقين بإجراءات عقابية وبالابعاد من قوائم الحزب الانتخابية في الانتخابات المحلية والاتحادية المقبلة. ولهذا فقد تحدث شرودر صراحة عن ضرورة تحقيق الاغلبية البرلمانية في 17 اكتوبر بأصوات التحالف الحكومي وحدها. وهي سياسة لا تقتصر على محاولة رص الصفوف وانما تتعداها الى العمل على تحرير برنامجه الاصلاحي من التبعية للمعارضة المسيحية ـ الليبرالية ومن التعديلات التي قد تحاول فرضها.

وسواء نجح شرودر في تمرير اجندة 2010 على البرلمان او فشل، فإن الانسلاخ المطرد لاعضاء الحزب الديمقراطي الاشتراكي بسبب الموقف من اجندة 2010 لن يتوقف. فقد كشفت وكالة الانباء الالماني (دي بي ايه) في تحقيق لها مع مختلف مراكز الحزب ان الحزب الديمقراطي الاشتراكي فقد 4.5% من عضويته بين يناير (كانون الثاني) ويوليو (تموز) 2003 بسبب اجندة 2010. وتركز هذا النزف في العضوية في الولايات التي تعتبر قلاعا للحزب مثل الراين الشمالي ويستفاليا وراينلاند بفالز وسكسونسا ـ انهالت وشليسفيغ هولشتاين.

في هذه الاثناء يتطلع الالمان الى يوم 17 اكتوبر القادم بانتظار نتائج التصويت على برنامج شرودر الاصلاحي. وفي حين ينتظر البعض ان ينجح شرودر كما في المرات السابقة في تحقيق الاغلبية ـ سواء بأصوات التحالف الحاكم او بدعم من المعارضة ـ يرى البعض ان فشل المستشار في الحصول على الاصوات الكافية قد يطيح حكومته كما حدث مع حكومة شميت.

* الدستور الألماني الاتحادي

* أقر دستور المانيا الاتحادية في بون من قبل المجلس الاتحادي في 23 مايو (ايار) 1949، اي بعد اربع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية. ويقرر الدستور النظام الديمقراطي في المانيا ويحدد صلاحيات الحكومة وصلاحيات البرلمان وحقوق الحكومة الاتحادية وحقوق الحكومات المحلية في 16 ولاية. والبرلمان هو المؤسسة المخول لها سن القوانين واتخاذ القرارات، في حين ان الحكومة هي الجهاز التنفيذي.

ويضم البرلمان في دورته الخامسة عشرة 603 نواب تتوزع مقاعدهم كالآتي: الحزب الديمقراطي الاشتراكي 251 مقعدا، حزب الخضر 55 مقعدا (ما مجموعه 306 مقاعد تمثل التحالف الحكومي)، التحالف الديمقراطي المسيحي 248 مقعدا، الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) 47 مقعدا، ولحزب الاشتراكية الديمقراطية (شرق) مقعدان.

ويكون المجلس الاتحادي (البوندسرات) مسؤولا عن القوانين والقرارت التي تمس الولايات. وينص الدستور على ان الحكومات المحلية تقرر امورها لكنها مسؤولة امام الحكومة الاتحادية. ويضم المجلس الاتحادي اعضاء الحكومات المحلية بنسب يقررها عدد سكان كل ولاية. وهكذا تتمتع كل ولاية بثلاثة اصوات على الاقل. وتنال الولاية التي يزيد عدد سكانها عن مليونين 4 ممثلين. فإذا زاد العدد عن ستة ملايين تنال 7 ممثلين. وإذا زاد عن سبعة ملايين تنال 6 ممثلين. ويحق لأعضاء الحكومة الاتحادية المساهمة في جلسات المجلس الاتحادي واجتماعات لجانه.

وهناك لجنة مشتركة من المجلسين ينبغي على الحكومة دعوتها للانعقاد في حالة اتخاذ القرارات الخطيرة التي تتعلق بالدفاع. ويشكل نواب البرلمان (شريطة غياب وزراء الحكومة الاتحادية بينهم) ثلثي اللجنة المشتركة، في حين يشكل المجلس الاتحادي الثلث المتبقي.

وينتخب الرئيس ـ وهو منصب بروتوكولي ـ من قبل «التجمع الاتحادي» الذي يضم اعضاء البرلمان اضافة الى عدد مساو من اعضاء البرلمانات المحلية.

* صنوان قديمان

* قرر المستشار الالماني شرودر، 60 عاما، ووزير خارجيته يوشكا فيشر، 54 عاما، من الآن ترشيح نفسيهما لولاية ثالثة في الانتخابات العامة عام 2006. وهي محاولة لتجديد عرى التحالف بين الحزب الديمقراطي الاشتراكي والخضر وأيضا لتجديد عرى صداقة جمعت بين شخصيتين سياسيتين تشتركان في العديد من المواصفات الممتدة بين التاريخ السياسي والبراغماتية وتعدد الزيجات.

فقد عمل الاثنان بنشاط في الستينات في انتفاضة الحركة الطلابية في اوروبا، وكانا من المشاركين الدائمين في المظاهرات. واذ اتجه شرودر نحو منظمات الشبيبة التابعة للحزب الاشتراكي، وجد يوشكا ضالته في حزب الخضر البيئي الناهض على أنقاض الحركة اليسارية العفوية في الستينات. ويذكر ان الحركة الطلابية في الستينات تمخضت عن تيارين مهمين، اتخذ احدهما اتجاه العنف المسلح ممثلا في منظمتي «بادر ماينهوف» و«الجيش الاحمر»، واتخذ الآخر اتجاه المنظمات البيئية واليسار الاجتماعي. وطبيعي فقد كان فيشر في الستينات اقرب بكثير الى المنظمات المتطرفة قبل ان ينتقل الى التيار البيئي واليسارية العقلانية. وكما كان فيشر متحمسا للقضايا البيئية وفاعلا في يسار حزب الخضر، كان شرودر نشطا في منظمة الشبيبة الاشتراكية وبارزا في تيار اليسار داخل الحزب الديمقراطي الاشتراكي. وقد انقلب شرودر من اليسار الى تيار الوسط بتأثير السلطة وصار من دعاة هذا التيار الى جانب اعداء الماضي مثل بيل كلينتون وتوني بلير ثم انتهى مؤخرا بالجلوس على مقاعد اليمين. وانقلب فيشر بثقل منصبه الوزاري من ممثل ليسار الخضر الى براغماتي تزن حقيبته الوزارية اكثر من اي برنامج للطاقة الرؤوفة بالبيئة.

ولم يتفوق فيشر على شرودر الا في مجال النساء. فقد عرف عن كل من الرجلين انه «مزواج» اكثر مما عرف عنه انه زير للنساء. وتزوج شرودر للمرة الرابعة اثناء دورة حكمه الاولى و لحقه فيشر بزواجه الرابع ايضا. و ثارت شائعات ـ نفاها المستشار قبل اشهر ـ حول قرب انهيار زواجه الاخير، بينما تخلى فيشر فعلا عن زوجته الرابعة. وقد نشرت صوره اكثر من مرة بسراويل الجينز مع طالبة جامعية برلينية تصغره بأكثر من ثلاثين عاما. هكذا اذن: زوجة جديدة لكل دورة حكم جديدة.