الانتخابات البلدية والتحديث السياسي في المملكة العربية السعودية

محمد إبراهيم الحلوة *

TT

في جلسة مجلس الوزراء السعودي والتي عقدت يوم الاثنين 13/10/2003 اقر المجلس «توسيع مشاركة المواطنين في ادارة الشؤون المحلية عن طريق الانتخابات، وذلك بتفعيل المجالس البلدية وفقاً لنظام البلديات والقرى على ان يكون نصف أعضاء كل مجلس بلدي منتخباً». ويأتي هذا القرار بعد مؤشرات متواترة عن رغبة جادة لدى القيادة السعودية في دفع مسيرة الاصلاح السياسي في البلاد. فخطاب خادم الحرمين الشريفين بمناسبة افتتاح أعمال السنة الثالثة من الدورة الثالثة لمجلس الشورى في 17/5/2003، حمل نبرة جديدة خصوصاً عندما اكد على اهمية الاصلاح السياسي. فقد جاء في الخطاب ان «كل شؤوننا الداخلية عرضة للمراجعة الذاتية، التي لا تستهدف سوى الاصلاح، والاصلاح ضالة المؤمن». ثم يمضي خادم الحرمين الشريفين في خطابه قائلاً: «أحب أن أؤكد لكم اننا سنستمر في طريق الاصلاح السياسي والإداري، وسنعمل على مراجعة الأنظمة والتعليمات ... وتوسيع نطاق المشاركة الشعبية».

ولم تقف هذه المؤشرات عند خطاب العرش السعودي، ففي لقاء ولي العهد الأمير عبد الله بمجموعة من النخبة السعودية اكد، انه يشاركهم مشاعرهم وتطلعاتهم الوطنية، وعبر عن ذلك باستقباله الودي لهم والاستماع الى رؤيتهم لحاضر الوطن وتطلعاتهم لمستقبل افضل للوطن والمواطن. وجاءت تصريحات النائب الثاني الأمير سلطان خلال لقائه مجموعة اخرى من النخبة السعودية لتقرب من احتمال البدء في مشوار الاصلاح السياسي وتجعل هذا الاحتمال اقرب الى الحقيقة.

مع ذلك وبكل صراحة فان البطء في آلية اتخاذ القرار السعودي وتهميش الجانب السياسي في التنمية الوطنية، جعل بعض المراقبين للوضع السياسي في السعودية يرفعون علامات استفهام ويأخذون بشئ من الحذر كل الوعود والمؤشرات خصوصاً وان تطلعات المواطن السعودي قد تراكمت بحيث أصبحت لا تقر ولا تقبل الا بواقع ملموس كمؤشر على جدية ورغبة الحكومة في تعزيز مسيرة الاصلاح السياسي. ان توسيع مشاركة المواطنين في ادارة الشؤون المحلية من خلال الانتخابات في المجالس البلدية تمثل نقلة نوعية في التحديث السياسي في المملكة، وهذه النقلة النوعية تمثل جزءا من كل هذا، وهذا الكل ما يزال ينتظره المواطن خصوصاً في مؤسسات المجتمع المدني والتي تعتبر مكملة لانتخابات المجالس البلدية. ان مقولة، ان انتخابات المجالس البلدية تمثل نقلة نوعية في الاصلاح السياسي تنبثق من حقيقة ما تمثله هذه الانتخابات من وسيلة للمشاركة السياسية المحلية والتي تمثل مدخلا رئيسيا لأي اصلاح سياسي. فالانتخابات في المجالس البلدية تساهم في تشكيل عدد من المعطيات السياسية المحلية فهي على سبيل المثال لا الحصر: 1 ـ اشاعة ثقافة الانتخابات في المجتمع سواء من حيث التعبئة السياسية، أو التثقيف السياسي، او قبول نتائج الانتخابات بروح متسامحة وبما تحمله من نصر او هزيمة. 2 ـ تسليط الضوء على دور المدينة في التنمية. ففي الدول النامية ومنها المملكة تتمركز صناعة القرار في المدن الرئيسية في حين أن الانتخابات البلدية ستساهم في نقل جزء من صناعة القرار الى مدن اخرى خصوصاً مدن الاطراف، وفي ذلك توسيع لقاعدة المشاركة في صنع القرار وهي أهم مطلب في التحديث السياسي. 3 ـ تضع الانتخابات البلدية الشخص المنتخب بعيداً عن الضغوط الادارية، ومتحرراً من القيود البيروقراطية وتجعل خدمته للمدينة ومواطنيها هدفه الأساسي حيث ان نجاحه في ذلك يمثل المدخل لاعادة انتخابه. 4 ـ في الانتخابات البلدية يكون التركيز على توفير الخدمات للمواطنين، وهي عادة ما تكون أهم مطلب في برامج الانتخابات المحلية. فالمواطن يركز اهتمامه على واقعه اليومي أكثر من أي شئ أخر، وكثيراً ما نقرأ او نسمع عن (نواب الخدمات) الذين يكرسون جهودهم لتوفير الخدمات الاساسية للمواطن. 5 ـ تدعم الانتخابات المحلية الوحدة الوطنية، وذلك من خلال صهر مطالب المواطنين في المدينة بمختلف انتماءاتهم المذهبية وخلفياتهم الاجتماعية في مطلب واحد يهمهم جميعا، وفي ذلك توحيد لمسلكهم السياسي وتقوية لأنتمائهم الوطني حيث يشعر المواطن انه جزء من صنع القرار الذي يؤثر في حياته اليومية. 6 ـ تخفف المجالس البلدية المنتخبة من الضغط على الحكومة المركزية، فبدلاً من ان يلجأ المواطن للحكومة المركزية لتقديم مطالب تخص مدينته الى الحي الذي يقيم فيه، يتوجه الى ممثله في المجلس البلدي والذي هو اعرف بمطلب المواطن وامكانية تحقيقه. ان قيام المجالس البلدية المنتخبة بالوظائف السابقة يتوقف على وعي المواطن السعودي المنتخب بمسؤولياته وادراكه لحدود دوره السياسي، كما يتوقف على الصلاحيات والدعم السياسي الذي تقدمه الحكومة لهذه المجالس. وهذا الدعم يعتبر مؤشرا هاما على تقبل الحكومة لظاهرة المجالس البلدية المنتخبة وعلى بدء الحكومة في اطلاق برنامج التحديث السياسي في الدولة. والسؤال الذي يطرح نفسه إذا كانت كل هذه المزايا السياسية توجد في انتخابات المجالس البلدية، لماذا لا ينتخب كل المجلس؟ ولماذا نصف أعضاءه فقط؟ والإجابة لا تخفى على كل ملم بتفاعلات التحديث السياسي. فالدولة السعودية في المراحل الأولى من التحديث السياسي في مفهومه الحديث. وفي هذه المرحلة تريد الحكومة ان تتأكد من ان الانتخابات المحلية تحقق غايتها السياسية من دون ان تشل أداء الحكومة في تنمية المناطق. فقد تأتي الانتخابات بأشخاص لديهم شرعية التمثيل السياسي مما يساعد الحكومة على معرفة الخارطة السياسية في المجتمع، لكن ليس لديهم الخبرة في الأداء الاداري والتنمية الوطنية. لذا فالمرحلة مرحلة مزج وتلاقح بين التمثيل والخبرة حتى تصل الحكومة الى تشكيلة تجمع بين شرعية التمثيل والقدرة على الإنجاز. هذا من جانب. اما الجانب الآخر فيتمثل في مسألة الجمع بين البناء السياسي للدولة والمشاركة السياسية فيها. ورغم ما يقال عن التداخل النظري بين البناء السياسي والمشاركة السياسية، فان الواقع السياسي والذي نراه رأي العين في المجتمعات النامية يمثل حالة ملموسة للتمييز بين البناء والمشاركة. في القارة الأفريقية ضربت الموجة الثالثة كما سماها أستاذ العلوم السياسية الأميركي ساميون هنتغون وهي الديمقراطية في أواخر القرن العشرين، هذه القارة بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ التحديث السياسي المعاصر. في عام 1990 كان هناك ثلاث دول أفريقية فقط تتمتع رسمياً بأنظمة ديمقراطية. أما الآن فيوجد 43 من 48 دولة أفريقية في جنوب الصحراء الكبرى والتي جرى فيها انتخابات متعددة الأحزاب. لكن هذه الصورة الوردية تخفي في طياتها حقيقة مرة تتمثل في ان الديمقراطية في معظم هذه الدول تظهر في شكل مفتعل نظراً لافتقارها للمتطلبات الموضوعية للتنمية السياسية، ومن أهم هذه المتطلبات قيام مجتمع مدني. وفقاً لمقالة نشرت في جريدة «هيرالد تربيون» تتعرض خمس دول من أكثر الدول الأفريقية كثافة بالسكان (نيجيريا والكونغو الديمقراطية واثيوبيا وانغولا والسودان) لنزاعات داخلية حادة، وهذه النزاعات تهدد ليس المظهر الديمقراطي في هذه الدول فحسب بل تهدد بقاء الدول ككيانات سياسية. وحددت المقالة ثلاث مجموعات من المشاكل يأتي في مقدمتها ضعف الحكومة، وضعف مكانتها في التكامل الاقتصادي الدولي الجديد، وتنتهي المقالة باستنتاج ذي مغزى سياسي هام للدول النامية وهو انه «ينبغي أن تكون الديمقراطية الهدف النهائي للدول الأفريقية، وليس نقطة البداية. وان يأتي دور إعادة بناء الدولة في المرتبة الأولى، فالتغييرات التي تعزز الدولة ليست تلك التي تعمق الديمقراطية». لذا فان التكامل بين البناء السياسي والمشاركة السياسية هماو أفضل خيار في مسار التطور السياسي في المملكة. وفي الوقت الذي يجب ان لا يحول البناء السياسي للدولة من دون المشاركة السياسية، فان المشاركة السياسية يجب أن تكون منضبطة ومتدرجة حتى لا تهدد كيان الدولة. وباختصار آمل ان تكون تطلعات المواطن السعودي السياسية واقعية وان يجمع في نظرته بين تطلعاته السياسية ومتطلبات بقاء الكيان الوطني. كما ان الحكومة السعودية من جانبها مدعوة للتحلي بالصبر وروح المسؤولية بحيث تقبل ما تفرزه الانتخابات من نتائج طالما ان كل مرشح سيخضع لضوابط تأكد انتمائه الوطني. خلال استعراضي لملف التحديث السياسي في المملكة وجدت فيه عددا من جريدة «الجزيرة السعودية» العدد الأول، السنة الأولى 20/2/1384هـ وفي هذا العدد مقابلة مع أمير منطقة الرياض وكانت المقابلة بعد اعلان إمارة منطقة الرياض عن عزمها على تأسيس مجلس بلدي منتخب، وكان تعليق أمير منطقة الرياض على هذا الحدث السياسي بالقول «من الواضح ان أعضاء المجلس سيختارهم المواطنون عن طريق الانتخاب الذي يعتبر بوتقة تنصهر فيها العناصر الشعبية الطيبة لتنتخب عضواً عنها تتمثل فيه الكفاءة واللياقة ورجاحة العقل ليكون همزة وصل بين الدولة وبين المواطنين». فاذا كان هذا ما قاله الأمير سلمان قبل اربعين سنة وهو المعروف بخبرته وحنكته السياسية، يعكس واقع الحالة السياسية آنذاك فلا بد ان الحالة في الوقت الحالي قد نضجت بشكل اكثر واكثر مما يجعل الإصلاح السياسي أمرا حتميا لا يقبل التأجيل. آمل ان تكون الانتخابات البلدية بداية لتعامل جاد في مسألة الاصلاح السياسي خصوصاً وان خطاب خادم الحرمين الشريفين في مجلس الشورى وتصريحات ولي العهد و النائب الثاني، تحمل في طياتها ما يجعل المواطن السعودي يطمئن على مستقبله السياسي وانه محل ثقة وتقدير من قبل قيادته، هذه الثقة التي كانت وما تزال وستظل ان شاء الله اساس لبناء وتماسك الكيان السعودي.

* رئيس لجنة الشؤون الخارجية مجلس الشورى السعودي