في شارع المتنبي ببغداد حيث تتجاور بريتني سبيرز مع أسامة بن لادن والرواد يعكسون تغير مزاج العراقيين منذ إطاحة صدام حتى الآن

صاحب مكتبة عتيقة: لا أريد عودة بغداد التي كانت قبل الحرب بل التي كانت قبل كل الحروب.. وقبل صدام

TT

في يوم جهنمي من أيام أواخر أغسطس (اب) الماضي وفي عاصمة تعاني من تكرر انقطاع الكهرباء ومن عدم تحقق الوعود بحل المشكلة كان محمد حياوي يقف داخل مكتبته والعرق يسيل بغزارة فوق وجهه غير الحليق والانزعاج باد عليه، وظل يتحدث باستمرار مع زبائنه وأصدقائه وكان الجميع حريصا على الإصغاء. فالرئيس الاميركي جورج بوش، كما قال حياوي قد تراجع عن وعوده بتحقيق الرفاهية للعراقيين ولم يعد يحكم شوارع بغداد سوى اللصوص. سأله أحد الواقفين إن كان الوضع أفضل أم أسوأ مما كان عليه قبل الحرب، فجاء جواب حياوي قاطعا وهو يحرك سبابته بغضب: «أسوأ. صحيح؟ نعم، أسوأ».

لكن حياوي في هذه الأيام يعيش مزاجا نفسيا حسنا عندما زرناه في مكتبته الواقعة في شارع المتنبي وهو من اهم واقدم شوارع بغداد، فالأمن قد تحسن بنسبة 60 بالمائة حسبما قال، كذلك أصبح يكسب هذه الأيام أكثر مما كان يكسب قبل شهرين بست إلى سبع مرات، إذ يبيع كتبا مستوردة من لبنان وإيران. يقول حياوي إن الأميركيين يستحقون بعض الثناء لكن العراقيين يستحقون أكثر بكثير فمرونتهم وقدرتهم على التكيف عمّدتها عقود من ظروف العيش القاسي.

ومع سيجارة وابتسامة هازئة ردد مثلا عراقيا شعبيا يقول «تريد أرنبا خذ أرنبا تريد غزالا خذ أرنبا» فالعراقيون يأخذون ما يستطيعون أخذه حسبما قال حياوي بينما الأميركيون يعطون ما يريدون إعطاءه.

بعد صيف تعكر خلاله المزاج النفسي للناس كثيرا مع ارتفاع درجات الحرارة بدأ قدر ما من الحالة الطبيعية يعود إلى شارع المتنبي المتميز بضيقه والممتلئ بالمكتبات والمحلات في جزء قديم من بغداد ويشكل مركز العاصمة الثقافي، كذلك تلاشت مشاعر الغضب والإحباط مع عودة الكهرباء واستئناف الاعمال بعد عودة الشرطة إلى الشوارع.

لكن النقاش في محال مثل الذي يمتلكه حياوي لا يدور إلا نادرا حول نجاح أو فشل الاحتلال بعد مرور ستة أشهر، فالنقاشات هي أكثر تنوعا مع مشاعر معقدة شبيهة بالقرميد ذي اللون الفيروزي الذي يغلف منارات المدينة القديمة. فهي تدور حول جوهر البلد الذي يمر بفترة تشكل جديدة بغضّ النظر عما إذا كان المحتلون يستطيعون أن يفهموا أولئك الواقعين تحت الاحتلال، وكيف يؤثر العنف على حياتهم، وما هو دور القوى الجديدة التي برزت إلى السطح في التغيير. قال حياوي: «أنا أتحدى أي شخص يستطيع أن يشرح لي ما حدث وما يحدث الآن وما سيحدث في المستقبل».

* بريتني وبن لادن

* أطلِق اسم الشارع تيمنا بواحد من أعظم شعراء العالم الذين ولدوا في القرن العاشر الميلادي، ويرمز شارع المتنبي الآن للحرية التي أصبحت مألوفة هنا ويراها البعض فوضى.

تعرض بعض المجلات المصفوفة على الأرصفة إلى فترة تعود إلى عشرين سنة إلى الوراء مختلطة مع مجلات جديدة على أغلفتها صور نساء شبه عاريات. وبجانب هذه المجلات هناك كتب مفكرين إسلاميين مثل محمد باقر الصدر كان عرضها حتى الربيع الماضي يؤدي إلى السجن أو أسوأ. وعلى منصة غير مستقرة تماما، هناك أقراص الـ«سي دي» لخطابات أسامة بن لادن إضافة إلى عظات مسجلة لرجال دين مصريين تباع بسعر نصف دولار. وعلى امتداد الشارع هناك نشرات الحزب الشيوعي العراقي مختلطة بأدبيات أخرى متنوعة.

يقف البائع أبو زيد الطائي، 32 سنة، فخورا بما يعرضه من كتب دينية وإلى جانبه هناك منصة أخرى لمجلات على أغلفتها صور شاكيرا وبريتني سبيرز وجنيفر لوبيز. قال الطائي: «من الآن فصاعدا هذه الأشياء المعروضة حرام». لكن أبواق السيارات أغرقت صوته في شارع تشابكت فيه خطوط السيارات واختنقت جراء ذلك حركة المرور عليه. حرك رأسه محتجا، فقبل الحرب كانت هذه الشوارع ممنوعة على الشاحنات التي راحت اليوم تقف أينما تريد. قال الطائي: «أنظر، أميركا قوة عظمى وهذه أشياء بسيطة».

وبحدة أقل كثيرا تدور النقاشات في شارع المتنبي وكأنها تريد تحديد إن كانت الكأس نصف مملوءة ام نصف فارغة، وهي تعكس حالة بغداد الجديدة التي أصبحت أكثر تعقيدا مع استمرار الهجمات والتفجيرات ودخول المقاتلين الأجانب إلى العراق مع آيديولوجياتهم الدينية. وفي بعض الدكاكين هناك فقدان للثقة بالاحتلال الأميركي حتى بين أولئك المؤيدين للولايات المتحدة فهم يرون أن العراقيين أكثر قدرة على إدارة بلدهم وهذا شيء لم تتمكن السلطات الأميركية من فهمه لحد الآن.

إنه تغير هائل عما كان عليه الحال بعد الحرب مباشرة حينما كان يُنظر للقوات الأميركية على أنها خارقة القوة. قال الموظف المتقاعد عادل الجنابي الذي كان جالسا في دكان قرطاسية زاخر بصور لاعبي كرة القدم ورجال الدين الشيعة الكبار، المستوردة من سورية وإيران: «العراقيون يعرفون كل بيت وكل شارع. أنا أعرف كل من يسكن في منطقتي وأعرف من هو خيّر ومن هو شرير. والأميركيون لن يتمكنوا أبدا من معرفة ذلك. إذا أعطوا السلطة للعراقيين فإن كل المشاكل سيتم حلها».

* احتلال ومقاومة

* خلال احتساء اكواب الشاي كان الجنابي مفعما بالامل وفي الوقت ذاته متحررا من الاوهام، فقد قال انه لن ينسى ابدا ان الاميركيين اسقطوا صدام حسين، ولكن حياته لا تزال صعبة. فقد تلقى حتى الان مائة دولار من المسؤولين الاميركيين (20 دولارا شهريا) قيمة راتبه ولكنه يشتكي من ان المبلغ ضئيل ولايكفي لدفع نفقات انتقال اولاده الثلاثة من والى المدرسة في وسيلة نقل خاصة.

وقاطعه صاحب محل الادوات المكتبية عمران كاظم، 27 سنة، الذي قال بعد تردد مخافة الاختلاف مع الجنابي الاكبر سنا «الاميركيون يتصرفون بطريقة جيدة. وهم يعملون بإسلوب بطيء ولكن بطريقة جيدة. اذا لم يوجد الاميركيون، فان الناس كانوا سيقتلون بعضهم البعض».

وقال كاظم ان المشكلة ليست الاميركيين بل المقاومة، والهجمات في بغداد وبعض مناطق في الشمال والغرب ضد الجنود الاميركيين والعراقيين الذين يعملون معهم. وحكى قصة قيامه بجولة في شارع المتنبي حيث تم ابطال مفعول قنبلة، وضعت في اليوم السابق، بالقرب من فرع مصرف الرشيد في اخر لحظة. ويتذكر مقتل صبيحة عادل وهي ام لعشرة اولاد وقريبة واحد من عماله والتي قتلت في تفجير مبنى السفارة التركية في بغداد خلال الشهر الحالي.

ويسأل «لماذا نقتل؟ لم نفعل اي شيء. لماذا يوقفون اعادة اعمار العراق؟».

ورد عليه الجنابي «لا يا صديقي. يجب تحقيق مزيد من التقدم».

الا ان كاظم قال «لماذا نلوم الاميركيين؟» وردد الجنابي القول «لا حول ولا قوة الا بالله» الامر ليس في ايدينا.

وكما يحدث في معظم بغداد، يظلل الاحاديث شعور بعدم الامن. وفي الوقت الذي اصبح فيه الوضع افضل، فقد كانت بغداد ذات صفة مطلقة ـ اما ان تشعر بالامن فيها او لا تشعر به. وقبل الحرب، كان كاظم يفتح محله حتى الساعة 11 مساء، اما الان فهو يغلقه في الثالثة بعد الظهر.

وبالنسبة للبعض، من امثال الجنابي، فإن القوات الاميركية ليست قادرة على توفير الامن. فالعراق بلد في غاية التعقيد، فهو بلد شرقي له تقاليده الخاصة تحتله قوة غربية ذات انطباعات خاصة بها. وقال ان الاميركيين، سيظلون غرباء دائما في دولة اخرى. وردد مثلا عربيا اخر ينطبق على بغداد «اهل مكة ادرى بشعابها».

واضاف «عندما تدخل هذا المحل، هل تدري ماذا يوجد في الطابق الاعلى؟ لا يمكنك، ولا يمكن للاميركيين. ولن يمكنهم معرفة ما سيعثرون عليه في الطابق الثاني».

* مخاوف وآمال

* يعتقد موفق أحمد، الذي كان يجلس في قهوة الشهبندر التي تزين حيطانها صور بغداد بالابيض والاسود في العشرينات والثلاثينات، وتخترقها مواسير المياه القديمة، أن القوات الأميركية ليست حريصة على فرض الأمن لأنها تريد تبرير وجودها بالعراق. وقال:

«هل تعرف لماذا أحمل هذه الهراوة؟ أنا لست معوقا. ولكني أحملها دفاعا عن نفسي من الصعاليك واللصوص. ولم أكن قبل الحرب، أحتاج إلى مثل هذه العصا». كان يرتشف الشاي بالليمون وينقر بعصاه على الأرض.

ويقول موفق أحمد انه يتحدث الروسية والفرنسية والإسبانية بطلاقة، وانه لا يؤيد الوجود الاميركي في العراق. ويقول انه احتلال، وسيبقى احتلالا. وقد كان صدام حسين، مهما بالغنا في كراهيته مواطنا عراقيا.

ولكنه قال ان مخاوفه لا تتعلق أساسا بالأميركيين، بل بمصير بلاده. وقال انه يخشى من هؤلاء المقاتلين الأجانب الذين يعبرون الحدود إلى بلاده بحدودها السائبة. وهو يخشى كذلك من الانقسامات الشيعية ـ السنية، والكردية ـ العربية، ويتنبأ مع آخرين بان بلاده تسير في طريق لبنان بصراعاتها الطائفية الدموية. واشار في ذلك إلى مجلس الحكم العراقي، وتخصيص ممثلين حسب الأوزان العددية للغالبية الشيعية وحلفائها الثانويين من الأكراد والعرب وقال: «نحن نريد الديمقراطية في العراق، نريد للمواطن العراقي أن يشعر أنه عراقي فعلا يخدم وطنه العراق. ولا يشعر بأنه سني أو شيعي أو كردي. يشعر فقط أنه عراقي وأنه يخدم العراق. وقال وهو يهز رأسه في تأمل: «إنني قلق. إنني قلق جدا».

في الخارج كان عمال الطرق يرصفون شارعا يرجع تاريخه إلى العصر العثماني. وكان الخبازون يصنعون الخبز بينما تتزاحم العربات التي تجرها الحمير مع السيارات التي تزدحم بها الشوارع. وتوقف المتسوقون لبرهة وجيزة أمام بائع شاي على الطريق، اقام «مقهاه» من درج للملفات وصندوق وبراد قديم. وبالقرب منه هناك لوحة إعلانات عن فيلم «تيرمينيتور 3» و«ماتريكس 2».

وداخل المكتبة التجارية التي ترجع إلى عصر التنوير، جلس حياوي خلف مكتبه المكتظ بكتل من الدينارات العراقية وقال: «الشعب العراقي يريد أن ترجع قيمة الدينار العراقي إلى 3 دولارات كما كانت في السابق».

وكانت تلك هي بالفعل قيمة الدينار قبل الحرب مع ايران (1980 ـ 1988)، بينما الدولار الآن يساوي 1950 دينارا. ولكن هذه الرغبات توضح كيف يقيس العراقيون درجة التقدم الذي حدث. وقال حياوي انه لا يريد عودة بغداد التي كانت قبل الحرب الأخيرة، بل يريد بغداد التي كانت قبل كل الحروب، وقبل العقوبات الدولية وقبل الصدمة العنيفة التي ظل يمثلها حكم صدام حسين الذي امتد ثلاثة عقود. «لا نريد أن نسمع انفجارات، لا نريد أن نسمع عن الهجمات، نحن نريد السلام. يريد المواطن العراقي أن يضع راسه على مسنده ويشعر بالأمان. فقد عانى العراق أكثر مما يحتمل».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»