خلافات حادة بين قادة الجيش والمؤسسة الحاكمة في إسرائيل حول أسلوب التعامل مع الفلسطينيين

رئيس الأركان هاجم موفاز بحدة والحكومة اعتبرته تمردا من الجيش على القيادة السياسية

TT

في اجراء غير مسبوق في الحياة السياسية الاسرائيلية، دعا رئيس اركان الجيش، الجنرال موشيه يعلون، عددا من الصحافيين وراح يهاجم وزير الدفاع، شاؤول موفاز، وينتقد اداءه على خلفية التعامل مع الفلسطينيين. وقال يعلون ان السياسة التي يفرضها موفاز تخدم هدفا تكتيكيا محدودا، لكنها تضر بالمصلحة الاستراتيجية لاسرائيل.

وقد جاء هذا التطور اثر نقاش طويل حاد داخل المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة، وداخل الجيش والاجهزة الامنية، والذي تناولته «الشرق الأوسط» بإسهاب في الاسابيع الاخيرة. فالغالبية الساحقة من قادة الجيش تطالب بإحداث انعطاف في السياسة الاسرائيلية تجاه الفلسطينيين والسعي الى الحفاظ على السلطة الفلسطينية والتعاون معها والانسحاب من معظم المدن الفلسطينية وتركيز المعركة الحربية فقط على التنظيمات المسلحة، وبناء على ذلك اقترحت اجراء تسهيلات كبرى في حياة المواطنين الفلسطينيين: فك الحصار وفتح الطرقات امام النقل والتجارة، ومنح بضع عشرات الالوف تصاريح العمل للعمال والتجار وازالة عدد من الحواجز.

الا ان المخابرات العامة (الشاباك) وعددا من كبار قادة الجيش، في مقدمتهم المستشار الامني والسياسي لوزير الدفاع، الجنرال عاموس مالكا، والوزير نفسه موفاز، وقفوا ضد هذه المقترحات. وقالوا «ان الفلسطينيين ينوون استغلال هذه التسهيلات لتنفيذ عمليات تفجير كبرى في اسرائيل، وانهم ينتظرون الفرصة المواتية لذلك، ويتعاونون مع «حزب الله»، الذي اقنعهم بأن اسرائيل لا تسير الا بالقوة، والدليل الانسحاب الاسرائيلي المهرول من جنوب لبنان في مايو (ايار) 2001 وكذلك صفقة تبادل الاسرى.

وفي حينه حسم رئيس الوزراء ارييل شارون، هذا النقاش لصالح موقف الجيش. لكنه رفض الانسحاب وفتح الطرقات وازالة الحواجز، وامر بتقديم تسهيلات اخرى اقل شأنا. وكان من المفروض ان يبدأ تنفيذها منذ ثلاثة اسابيع. الا ان الوزير موفاز لم ينفذ. ووجد كل مرة حجة يتذرع بها لتبرير التأخير. مرة وعد بالتنفيذ بعد الأعياد، ثم تراجع قائلا إن هناك انذارات ساخنة لتنفيذ عملية ضخمة.

وآخر حجة تذرع بها موفاز هي الانتخابات البلدية في اسرائيل، التي جرت اول من امس. لهذا، لم يجد رئيس اركان الجيش وسيلة سوى المواجهة شبه العلنية مع موفاز وحتى مع شارون ومساعديه ووزرائه. فاستدعى كبار المراسلين السياسيين والعسكريين اليهود في وسائل الاعلام الكبرى الى «محادثة توجيه»، وبمجرد تلقيه سؤالا في الموضوع اندفع في هجومه.

واستهل يعلون هذا الهجوم بانتقاد تعامل الحكومة الاسرائيلية مع حكومة محمود عباس (ابو مازن) السابقة. فقال: «من الواضح ان السبب الاساسي لسقوط حكومة ابو مازن هو رئيس السلطة الفلسطينية، ياسر عرفات. ولكن اسرائيل ايضا لم تساعد ابومازن حتى يقف في مواجهة عرفات. وقد اضعنا فرصة ذهبية. فقد نشأت هذه الحكومة عندما كان الاميركيون يحتفلون بنصرهم على العراق، ومستعدين لكل جهد من اجل نجاح المسيرة السياسية بيننا وبين الفلسطينيين. وكان الشارع الفلسطيني يدعم حكومة ابومازن بقوة لدرجة الاحتجاج ورفض العمليات التفجيرية ضد اسرائيل. الا اننا تعاملنا معهم ببخل. وكان علينا ان نكون كرماء. كان علينا ان ننسحب بسرعة من المدن الفلسطينية.

وقد حاولنا ذلك عدة مرات لكن شارون وموفاز اقتنعا برأي الجيش فقط في الايام الاخيرة من حكم ابومازن وجاء قرارنا متأخرا جدا».

وانتقد يعلون، للمرة الاولى، سياسة الحكومة مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وقال: «لقد اخطأنا في البحث حول التخلص من عرفات. فقد ادى هذا البحث الى تقوية عرفات واعادته الى مركز الاحداث.

بينما رأينا نحن انه يجب تجفيف عرفات وقتله بنعومة، اي بواسطة اهماله واستبعاده في الاحداث السياسية ومواصلة الحصار عليه من بعيد لبعيد».

وقال يعلون انه لا يعلق اليوم آمالا كبيرة على حكومة ابوعلاء، كما حصل له مع حكومة ابومازن، الا انه ـ مع ذلك ـ يؤيد التعاون مع ابو علاء «يحظر علينا ان نضيع الفرصة من جديد».

وفسر رئيس اركان الجيش الاسرائيلي موقفه وقال: «التشكيك في قدرات ابوعلاء ليس موقفا شخصيا منه، انما هو موقف ظرفي. فالتورط الاميركي في العراق وزيادة العمليات ضد الاميركيين هناك يخلق اجواء غير مريحة في العالم. ويكثر الانتقادات على الرئيس الاميركي وحلفائه في بلدانهم. وهذا بحد ذاته يزيد من قوة العناصر المتطرفة في المنطقة، مثل «حزب الله» و«حماس» وغيرهما ويرفع معنوياتها ويقوي حوافزها للعمل ضد اسرائيل والامر نفسه ينطبق على عرفات».

وقال يعلون «ان حكومتي اسرائيل والولايات المتحدة متفقتان على ألا تتعاملا مع ابوعلاء الا بعد ان يطرح خطة لمكافحة البنى التحتية للارهاب. وهما تحجبان الاموال عنه وكذلك يفعل الاوروبيون. وهو يدرك تماما عظم مسؤوليته. فانه اليوم، الامل الوحيد لبقاء السلطة الفلسطينية ولبقاء «فتح». ومصيره متعلق بالاساس بنا. فنحن الذين نقرر اذا كان سينجح ام لا. ومن واجبنا ان نقدم له الدعم وذلك بواسطة منحة مكاسب سياسية وعملية ومالية وفتح الآفاق امامه لاستئناف المسيرة السلامية».

وقد اثارت هذه التصريحات ردود فعل غاضبة جدا في الحلبة السياسية الاسرائيلية، خصوصا من طرف الحكومة واحزابها اليمينية. فاعتبروها تمردا للجيش على القيادة السياسية المنتخبة بشكل ديمقراطي وتدخلا في ادارة الشؤون السياسية العليا وتجاوزا لصلاحياته كعسكري. ولكن المعارضين له، مهما تبلغ قوتهم، لا يمكنهم ان يسكتوا هذا الخطاب. فهو موجود اصلا في الساحة، بواسطة السياسيين المسربين والصحافيين والمعلقين وقوى السلام. ودخول رئيس اركان الجيش الى هذه الحلبة وبهذه القوة، انما يعزز من ذلك الموقف في مواجهة السياسة البلطجية للحكومة.