النارجيلة تنقل بعض سحر الشرق إلى الغربيين في ديارهم

صارت آخر «موضة» لدى البريطانيين والفرنسيين محتلة مكان السيجارة والسيكار الكوبي

TT

كان منظر العرب وهم ينفثون دخان النارجيلة (او الأرجيلة او الأركيلة او الشيشة) في مقاهي ادجوير رود في قلب لندن يلفت انظار المارة من اهل البلد وسياحها الغربيين. لكن هذا اصبح شيئا من الماضي اذ انها اصبحت جزءا مهما من اكسسوارات الكثير من المطاعم والمقاهي في العاصمة وكبريات المدن الاخرى. صارت النارجيلة هي آخر «موضة» لدى البريطانيين من مختلف الاعمار والشرائح الطبقية والاجتماعية محتلة مكان السيارة والسيكار الكوبي. ولأسمائها المعروفة في الشرق الأوسط، اضاف الغربيون اسما آخر هو الـ«هابلي ـ بابلي» hubbly bubbly وجعلوا لها عشرات المواقع التي تحكي تاريخها واشكالها ولوازمها وكيفية تدخينها. وبلغ قبول التيار البريطاني الرئيسي لهذه «المتعة» الجديدة ان بعضا من كبار الساسة ونجوم الفن سمحوا بنشر صورهم وهم يدخنونها على صفحات الجرائد والمجلات الصقيلة. والواقع ان النارجيلة لم تكتف بغزو اوروبا بل انتقلت عبر الاطلسي الى العديد من المدن الاميركية فصارت لها صالوناتها التي ترتادها مختلف طوائف المجتمع، بما في ذلك علية القوم من نجوم السينما والتلفزيون.

وفي لندن، انطلقت مقاهي الشيشة ومطاعمها عبر حدود ادجوير رود الى الويست اند، حي المسارح ودور السينما، ونايتسبريدج وسلون ستريت حيث يتبضع الأثرياء والمشاهير. بل ان بوشمامب بليس، الذي يضم متاجر كانت تغشاها الاميرة الراحلة دايانا، صار مزدانا بصالون للنارجيلة اسمه «القصبة»، يديره جزائري ومعظم زبائنه من الانجليز.

* عربية أم هندية ـ تركية

* ثمة جدل يدور حول «منبع» النارجيلة. لكن معظم المراجع تشير الى انها ليست اختراعا عربيا كما يظن الكثيرون، وانما شقت طريقها من الهند وتركيا الى العالم العربي. وعبر قرون طويلة دأب الناس في تلك البقاع على قضاء وقت ممتع معها. وفي اسطنبول اصبح تدخينها فنا قائما بذاته. وظهر منها المصنوع من الزجاج الملون او الكريستال واحيانا من الذهب والفضة ومزينة بالورود والفواكه والمباسم المزخرفة.

واشتهرت النارجيلة بانها «رمز المقهى العربي». بعد ان فقدت عصرها الذهبي في تركيا. فقد تراجعت احتفاليات احتساء القهوة معها ولم تعد موجودة في كل المقاهي الحديثة، وان كانت لا تزال موجودة في بعض ضواحي اسطنبول مثل بياظت واكساراي وتوبسكابي واوكباني. ولا زالت هناك بعض اشهر انواع المقاهي التي تقدم النارجيلة مثل برينتشي وجولو اجوب خرساني.

لكن مزاج مدخني النارجيلة تغير واصبح اغلب الزبائن يحملون المباسم الخاصة بهم في جيوبهم لعدم رغبتهم في استخدام مباسم استخدمها غيرهم. وبعض المقاهي تخصص نراجيل بعينها لزبائن خاصين بحيث انها لا تقدم ما خصصته لزبون ما لاحد غيره حتى وإن غاب لشهور. وفي اي من المقاهي التي تقدم النارجيلة يخصص ركن خاص لمدخني النارجيلة واذا فكرت ان تجلس بجانبهم رمقوك بنظرة تضطرك للخروج او تغيير مكانك ما دامت لا تدخنها مثلهم.

* الشانزليزيه أيضا

* وحين قيل ان رجل الاعمال المصري رامي لكح يقف وراء مقهى الشيشة الذي افتتح العام الحالي في شارع «ماربوف» المطل على الشانزليزيه في قلب باريس، جاء الجواب: «ضربة معلم». فقد كان الشانزليزيه صيف العام الحالي مربط خيل السياح العرب وخيمة من مضارب اهل الخليج ، يحتلونه «احتلالا» سلمياً لا يمر على اجندة الامم المتحدة.

لكن شيشة الشانزليزيه الباهظة الثمن شيء، وشيشة الحي اللاتيني وشارع موفتار وجادة باريس شيء آخر. هنا مربط طلاب الجامعة والعرب المهاجرين واهل السهر من فنانين وكتاب، وكذلك ميدان الصبايا الباريسيات اللواتي يبدأن التجربة بسحبة خجولة من «النربيش». ثم تكبر السحبة ويقعن في غرام النارجيلة... أشهر اختراع تركي ـ هندي في القرن التاسع عشر.

* دخان وطرب

* لا تبحث عن مقاهيها، ولا تسأل من يدلك او تتطلع في اسماء الشوارع وارقام البنايات. دع القيادة لنفسك الى عبق المعسل وعطر النعناع ورائحة التنباك البحريني. لكن جلسة الشيشة ليست انفاً ورئتين فحسب، بل آذانا صاغية الى تسجيلات اهل الطرب، تدور ما دار الدخان في الرأس، وتنفث آهات اعجاب مع كل زفير يعقب شهيقاً وبقبقة ماء النارجيلة وتأجج جمراتها.

والجمرات انواع، لكن اغلبها صناعي سريع الاشتعال من صنع آسيا. اما من يفضل الفحم الطبيعي المتحجر من اغصان شجر الزيتون فما عليه سوى ان يأتي بكيس منه في حقيبته من البلاد. بعد ذلك لا بد من الاعتماد على الحظ في مطار «اورلي». فإما ان يمر الكيس بسلام، ومعه عبوات المعسل ذات الرائحة النفاذة، وإما ان يشم كلب البوليس اطراف الحقيبة، فيدخلك في «سين» و«جيم». وفي نهاية المطاف، إما خرجت سالماً من المعمعة، او بشبهة حشاش في اسوأ الاحوال.

* على استحياء أولا

* قبل ست سنوات بدأت الشيشة تطل برأسها في باريس على استحياء. ثم نبع مقهى «ام كلثوم» في حي موفتار، وكانت تلك اشارة الانطلاق في ذلك الحي القديم الذي يؤمه الشباب وتقطعه افواج السياح ليل نهار... حتى زاد عدد مقاهي الشيشة فيه على العشرة.

المقاهي الشهيرة الاولى كانت لعراقيين. اما العاملون فكانوا في الغالب من المصريين، بينما تراوح الزبائن ما بين لبناني وسوري وفلسطيني وفرنسي ومصري... مع غلبة واضحة للتوانسة، أهل غلبة واضحة للتوانسة، اهل الكيف.

ومع تزايد المقاهي وامتدادها الى احياء اخرى، والى مدن فرنسية اخرى مثل بوردو وتور وافينيون ومرسيليا، قامت حول الظاهرة تجارة متكاملة لاستيراد النارجيلات من القاهرة ودمشق وتونس، وكذلك انواع التبغ بالنكهات المختلفة (آخرها بالكولا!) وافتتح صحافي سوري متقاعد في باريس اول مخزن لبيع مستلزمات الشيشة، بالجملة والمفرق.

* مغامرة في الشرق الغامض

* وفي حين ان المدخن العربي يقصد مقهاه المفضل ليخلو، وحيداً، الى ابخرة نارجيلته، او ليجالس صديقاً ما، فان الشبيبة الفرنسية تقصد المقاهي افواجاً افواجاً، وهؤلاء يفضلون عادة الصالات التي تقع في اقبية وكهوف تحت الارض، وهم يتقاسمون الشيشة اذا لم يكن في جيوبهم ما يكفي لاستفراد كل واحد بواحدة. ولعلهم وهم يستسلمون لتلك الاجواء الباعثة على الحذر والكسل، يشعرون وكأنهم يخوضون مغامرة مثيرة في شرق غامض ما زال يحرك المخيلة الغربية، رغم تعدد مراكز الاحتراق فيه.

شرق يحترق، وجمرات باريسية تتوهج، وعرب يباهون بأنهم علموا الفرنسيين والفرنسيات فن الاسترخاء، والظاهرة ما زالت في اوج نجاحها، وهناك كل يوم مقهى جديد يفتح ابوابه في زوايا عاصمة النور... والنار.