ضيق المساكن يدفع بالسعوديين إلى المتنزهات والمطاعم في رمضان

TT

على امتداد كورنيش جدة الشمالي الممتد بمحاذاة البحر الأحمر تنتشر بشكل لافت للنظر المتنزهات والمطاعم وأماكن الترفيه، التي يحمل بعضها أسماء عالمية وأخرى شعبية، لها روادها حسب فئاتهم الاجتماعية، وكل منهم يحتفظ بذكريات حلوة على مدى سنوات.

ومع قدوم شهر رمضان من كل عام تصبح هذه الأماكن مقصداً لكثير من الأهالي، خاصة الفئة المقتدرة مادياً سواء من السعوديين أو الأسر المقيمة، وتحديداً في الفترة ما بين الإفطار والسحور، حيث تتخذ الأسر السعودية والمقيمة على حد السواء من هذه المطاعم والمتنزهات القريبة من البحر أماكن مخصصة لتناول الطعام، وأيضاً للتسامر في جو يسوده المودة والتراحم.

وفي «متنزه النخيل» الذي يقع على الجهة الشرقية من البحر الأحمر ولا يفصله عنه مياهها سوى شارع لا يتعدى عرضه 30 متراً يمكن للصائم المتأهب دوماً للإفطار مشاهدة شمس المغيب على شكل كرة نصف دائرية، وما هي إلا لحظات ويرفع أذان المغرب، ليبدأ معها مهرجان «الهبر» و«النبش» في ما لذ وطاب من المائدة الرمضانية العامرة وكذلك في السحور.

ويلحظ بين الحضور وجلهم من العائلات والأسر السعودية والمقيمين الذين فيما يبدو على معرفة جيدة ببعضهم البعض، مما يدفع بالمرء للتساؤل والبحث عن السر الذي جعل تلك الأسر تترك منازلها في هذا الشهر الفضيل الذي يعرف بـ«لمة»، حيث كان في ما مضى من زمن يجتمع أفراد الأسرة في منزل كبير العائلة والتزاور بين الأسر والعائلات.

ويقول حسين عشماوي صاحب المتنزه الذي يدير مشروعه ويقوم على خدمة عملائه بنفسه لأكثر من 16 عاماً ويعرف أغلب عملائه ببساطة شديدة «أسباب تردد الاسر في رمضان له أسبابه، فهي تود أن تلتقي بعضها البعض، وبما أن الأحياء قد تباعدت بسبب التوسع الذي حدث في مساحات المدن نفسها أفقيا وعمودياً، مما صعب حتى على أفراد الأسرة الواحدة أن تتواصل كما كانت تفعل فيما مضى من زمن الذي كانت فيه «الحارات» والبيوت متلاصقة ومحدودة المساحة ويعرف ساكنيها بعضهم البعض ويتبادلون الزيارات ويعرفون أحوال بعضهم».

ويضيف «لا ننسى التطور الذي طرأ على المجتمع السعودي خلال العقدين الماضيين والذي شمل جميع نواحي الحياة منها الانتعاش الاقتصادي والتطور العمراني إلى فرض سلوكيات جديدة أسهمت بشكل مباشر في خلق ثقافة جديدة في نمط الحياة الاجتماعية ليس بين أفراد المجتمع فحسب بل بين أفراد الأسرة الواحدة نفسها، لذلك تجد وخاصة المقتدرين منهم إلى اللجوء إلى مثل هذه الأماكن».

ويتابع «الأسرة الواحدة التي كان عدد أفرادها لا يتعدى الأربعة أو الخمسة أفراد توسعت خلال العقدين الماضيين بحيث أصبح يصعب على المنزل الواحد استقطاب عدد أفراد الأسرة بعد أن تضاعف عددها، فمثلاً الذي يريد أن يستقبل أقرباءه أو أفراد أسرته في المنزل لا يمكنه ذلك في وقتنا هذا لأنه في هذه الحالة يحتاج إلى قصر أو مساحة تستقطب نحو 30 أو 40 فرداً هم في الحقيقة عدد أفراد الأسرة والأهل والأقارب والأصدقاء، لذلك يتفقون على مكان معين يلتقون فيه بعيداً عن حرج ضيق المنزل الذي لا يتسع بعضها لاستقبال هذا العدد الكبير في آن واحد».

وهنا يقول وليد الشولي وهو من مرتادي المتنزه لسنوات طويلة، أخشى أن يلومني أحد أو يعتب علي إذا ما دعيت إلى منزلي الأصدقاء أو أفراد الأسرة بمناسبة ذات دلالة ونسيت أو تناسيت آخرين للأسباب نفسها، ويضيف «لقد وجدنا أن أفضل وسيلة لتفادي مثل هذه الإحراجات هي دعوة الجميع إلى مثل هذه الأماكن التي تغني عن الإحراج وتوفر مساحة كبيرة للمضيف في استقبال ما يشاء استقباله من ضيوف في الزمان والمكان الذي يشاء مستفيدون في ذلك من المساحة الكبيرة التي توفرها مثل هذه الملتقيات». ويضيف وليد «معظم الموجودين الآن في الجلسة المقابلة لنا في الغالب يعرفون بعضهم البعض، وحتماً سيكونون من عائلة واحدة أو أسرة واحدة أو تجدهم من أبناء عمومة أو أنساب أو أرحام أتوا إلى هنا ليتسامروا».

وحول السلوكيات التي ظهرت على المجتمع السعودي ولإكتسابه لثقافة غذائية متنوعة، يقول عشماوي «هذا السلوك قد ظهر جلياً خلال العقدين الماضيين، وساعد في ذلك توسع رقعة المدينة وتباعد الأحياء السكنية واختلاط سكان المدينة مع غيرهم من الأسر التي وفدت من خارج المدينة واتخذتها سكناً لها، كما أن انشغال الناس بالأمور الحياتية جعل من الصعب معرفة الجار لجاره الأقرب، لذلك ما نشاهده اليوم هو نتيجة للمستجدات التي طرأت على المجتمع ولتفادي الوضع الذي فرض نفسه بقوة تجد الأسر تتفق على يوم معين للاجتماع في مثل هذا المكان وتناول وجبة الإفطار أو السحور وهم يستمتعون ويستمعون لهدير البحر الذي لا يبعد سوى بضع خطوات في جو من الروحانية والطمأنينة». ويضيف عشماوي «خروج المرأة للعمل قد ساهم كثيراً في الأمر، وأعتقد أنه أحد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في ما نشاهده الآن، فقديماً كان عدد النساء العاملات قليلا جداً قياساً بعدد العاملات في وقتنا الحاضر، فالمرأة العاملة لا يمكنها في شهر رمضان التوفيق بين عملها في الخارج وتلبية متطلبات بيتها، وهذا يجعل من فرصة استقبال الضيوف والأهل في البيت ضيقة جداً، وتشكل صعوبة شديدة لأصحاب الدار، لذلك تتفق الأسر عوضاً عن «عزائم» المنازل التي أصبحت لا تلبي المتطلبات من حيث الكم والكيف على اللقاء في مثل هذه الأماكن من أجل تمتين الروابط الأسرية وزيادة المحبة والمودة بينهما».

ويقدم متنزه النخيل إلى جانب الأطباق المعتادة أطباق شعبية مشهورة في السعودية، ففي وجبة الإفطار يقدم المتنزه «السمبوسك» و«الشوربة» والفول التي يعشقها السعوديون، أما في السحور فهناك «الكبدة» و«المقلقل» و«المطبق» و«الكبسة» والأكلات السعودية الشعبية الأخرى إلى جانب الأطباق الاعتيادية التي يمكن تناولها في أي مطعم من المطاعم المنتشرة على امتداد الكورنيش.

ويقول أدهم عبد الواسع الذي يتردد على هذا المكان منذ أكثر من 10 سنوات، «لقد تغير نمط الحياة في السعودية كثيراً عما كان عليه في الماضي، فالمؤسسات أصبحت تفتح أبوابها في وقت متأخر وحتى الدوام الدراسي طرأ عليه تغيير، فأنا مثلاً يبدأ دوام عملي في الواحدة ظهراً، لأعود بعدها إلى المنزل من جديد، لذلك فأنا في حاجة إلى الترويح عن نفسي وكذلك أسرتي».

ويضيف «أن نمط الحياة تغير كلياً عما كان عليه زمان، فمثلاً كان الناس يذهبون إلى الفراش في الحادية أو الثانية عشرة مساء ويستيقظون مرة لتناول وجبة السحور، عكس اليوم الذي يتواصل فيه النهار بالليل، فلا بد من الخروج وتناول وجبة السحور في الخارج على الأقل».

من جانبها، تقول أميرة نظام الدين، طالبة جامعية «لقد تعودت في ليالي رمضان وخاصة مع بداية العطلة المدرسية دعوة صديقاتي للخروج والوجود في مثل هذه الأماكن حتى نروح عن أنفسنا ونتبادل أطراف الحديث بعيداً عن جو المنزل، وأنها فرصة للتجديد والتقاء بالصديقات كل ما سنحت الفرصة»، وتتابع «ليالي رمضان طويلة جداً ولا يمكن المكوث في المنزل حتى مع وجود القنوات الفضائية، فلا بد من الخروج واستنشاق هواء البحر مرة واحدة في الاسبوع على الأقل». أما سوزان سفر وهي لبنانية مقيمة في مدينة جدة، تقول إنها تفضل تناول الإفطار في المنزل، بينما تخرج مع زوجها لتناول وجبة السحور خارج المنزل في مكان مفتوح، وليس شرطاً أن يكون بالقرب من البحر، وغالباً ما يكون مع زوجي علماً بأن لدينا الكثير من المعارف، أما فيما يتعلق بسلوكيات الناس في رمضان، فتقول رمضان كان زمان أحلى وافضل، خاصة فيما يتعلق بالزيارات العائلية والتراحم، عكس اليوم الذي تتباعد فيه الأسر، نظراً لانشغال الناس بالأمور الحياتية التي أصبحت تضيق حلقاتها يوماً بعد يوم، وعموماً أعتقد أن نفوس البشر تغيرت، وحتى الزمن نفسه أيضاً بشكل كبير.