رند رحيم فرانكي.. محامية بارعة لقضية عادلة

رئيسة الدبلوماسية العراقية في واشنطن شيعية وسنية في آن واحد

TT

بإعلان تسلّم رند رحيم فرانكي مهام تمثيل العراق في العاصمة الأميركية واشنطن، بدت الحياة الدبلوماسية العراقية وكأنها تعود شيئاً فشيئاً إلى حالتها الطبيعية، وأن بعضاً من ممارسة «السيادة» أطل برأسه، وإن في حياء.

لطيفة الحركة أنيستها، وتنظر إلى العالم بعينين واسعتين يشع منهما مزيج من الذكاء والحنكة والحزم. مفاوضة بارعة موهوبة بقدرة فذّة على المواربة والتستر، تستحوذ على أذهان مستمعيها من خلال مواهب بارعة في الجدل والنقاش، وغالباً ما تستعمل سلاحها المتواري عن الأنظار: المفاجأة.

في شخص رند رحيم تجمعت شخصيات عديدة، فهي ليست شخصية سياسية فحسب، إنها، فضلاً عن ذلك، كاتبة شاركت في مطلع عام 2000 مع غراهام فوللر في وضع كتاب: «الشيعة العرب: المسلمون المنسيون».

إنها النقيض الكامل لأسلافها الذين ورثوا هذا الموقع وكانوا يفاوضون حول الطاولة كأنهم يقودون معركة على جبهة قتال; ترفع شعار «الحوار» بديلا عن «المواجهة»، وتتبنى سياسة مرنة وواقعية بدلاً مما دأب أسلافها على اتباعه من سياسات راديكالية أحياناً واستفزازية في معظم الأحيان.

إنها محامية بارعة لقضية عادلة. شعارها المعلن: «ان العراق يجب أن يعود حراً ومستقلاً وسيداً، ويجب تمكين الحكومة العراقية من توفير أمن البلاد والعباد، ويجب أن تستعيد دولة العراق دورها الإقليمي وتكون، على الأخص في نجاة من التدخلات الخارجية، فيقتضي أولاً إخماد الحريق الداخلي الذي ستمتد ألسنته إلى خارج الحدود فيصيب جيرانه، ومن الضروري أن تكون لشرعية الحكومة العراقية قوة عملية توحي بالثقة للمواطنين الآمنين، وتردع الصائدين في الماء العكر».

وبغية تحقيق ما تصبو إليه، تدرك فرانكي بعمق أنها لا تستطيع بلوغ مراميها الدبلوماسية المقبلة بدون واشنطن، ولكنها لا تستطيع أن تعمل كل شيء معها. باختصار: إنها لا تستطيع سلوك دبلوماسية أخذ كل شيء وفوراً، بل تسعى لأخذ كل شيء ولكن بالتقسيط.

ولدت رند رحيم فرانكي في بغداد عام 1949، لأب شيعي وأم سنية، وهو أمر لا يخلو من دلالة رمزية تعكس إلى حد ما هذا التنوع في غنى شخصيتها. وكبقية أقرانها من هذا الجيل، تلقت رند تعليمها الأولي في المدارس العراقية قبل أن تنتقل إلى كامبردج البريطانية لاستكمال دراستها الجامعية هناك.

لم تستحوذ السياسة، بمعناها الحرفي، أقله في هذه المرحلة على أجندة فرانكي، بل استهواها عالم المال والأعمال الذي تخصصت في دراسته كي تنتقل في ما بعد إلى ممارسته في الميدان العملي، ولكنها مع ذلك ظلت تتابع عن كثب مجريات الأمور في بلادها وما آلت إليه أحوال الرعية هناك على يد نظام ديكتاتوري قلّ نظيره.

ولما كان الأمر كذلك، فقد حرصت رند على إبقاء «شعرة معاوية» مع الديار، من دون أن توطد النفس على الاستقرار فيها. ففي منتصف السبعينات، أسرّت لوالدها عن حقيقة هذه المشاعر بالقول: «إذا بقيت في العراق، فلن يكون مصيري سوى السجن، لأنني ببساطة لا أطيق وطأة الديكتاتورية، ولا أستطيع ممارسة ثقافة الصمت».

هذا الاستنتاج لم يعد حكراً عليها لوحدها فحسب، بل شاركتها فيها أسرتها التي التحقت بها في عام 1978 للإقامة في بريطانيا. وكان اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية قد عزز من صواب ما أقدمت الأسرة على القيام به; إذ كان على الأخوة أن يتوجهوا إلى ساحات الوغى، في ما يجرد الباقون من الجنسية العراقية كانت لندن بمثابة «محطة مؤقتة» للانتقال إلى مكان آخر. وبالفعل، ففي عام 1981، توجهت رند وأسرتها للإقامة في الولايات المتحدة الأميركية. وهناك شرعت بالدخول إلى عالم المال والأعمال الذي قادها بدوره إلى المنطقة العربية من جديد، خصوصاً بيروت والمنامة العاصمتين اللتين أصبحتا وبحق مركزاً للتداول المالي والمصرفي في المنطقة.

وبما أن رند كانت تحمل الجنسية العراقية، فقد توجب عليها أن تتحمل السلوك غير الحضاري الذي كان موظفو السفارات العربية يتمتعون به عن جدارة لا يحسدون عليها، وتروي أنها كلما اتجهت لتجديد وثيقة سفرها كانت تشعر بعمق وطأة الاضطهاد الذي تعامل به حكومتها الرعايا التابعين لها، حتى أن أحد موظفي السفارة العراقية في بيروت اتهمها صراحة بـ «العمالة» ووصفها بأنها من «حثالة المجتمع». إلا أن هذه المعاناة المستمرة مع الأجهزة «الدبلوماسية» العراقية لم تدم طويلاً; ففي عام 1987 حصلت رند على الجنسية الأميركية واستمرت في الاحتفاظ بجواز سفرها العراقي غير النافذ المفعول لتثير إشكالية ازدواجية الجنسية التي لم تجد حتى اللحظة على الأقل حلولاً ناجعة لها.

ومهما يكن من أمر، فقد كان لهذه المعاناة أثر على نفسية رند التي أصبحت مع مرور الوقت شخصاً يبحث عن خلاص بلاده من وطأة الديكتاتورية وبدأت تقترب أكثر فأكثر من طروحات المعارضة العراقية التي كانت ناشطة في ساحات غربية عدّة من بينها ساحة العاصمة الأميركية.

بعد انتهاء حرب الخليج الثانية في عام 1991، كان الغضب والغيظ يملأ عقل رند وقلبها من السياسة الأميركية التي لم يكن يعنيها في شيء إنهاء التراجيديا العراقية: دمرت العراق وحافظت على النظام من خطر الانهيار.

هذه النتيجة التي أفرزتها نتائج حرب تحرير الكويت، دفعت رند إلى تأسيس المعهد العراقي في واشنطن الذي كان بمثابة الخطوة الأولى لها في عالم الفعالية السياسية بعيداً عن عالم المال والأعمال.

ركزت رند جلّ جهودها في التأثير في صانع القرار الأميركي بشأن الالتفات بصورة جدية لتناول الملف العراقي من خلال تشكيل لوبي ضاغط للدفع باتخاذ سياسات أكثر جذرية للخلاص من نظام صدام حسين في بغداد، وهو الأمر الذي تحقق بعد أكثر من عقد من المثابرة والجهد.

* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا