صدام حسين عاش طفولته منزويا وانتهى معزولا في جحر

حكم العراق بقبضة من حديد ومال إلى التصادم مع الجميع

TT

بين اختفائه من على مسرح السياسة العراقية في التاسع من أبريل (نيسان) الماضي وبين إلقاء القبض عليه أخيراً، مرت فترة رمادية حاول الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين تفادي الوقوع في قبضة القوات الحليفة، فيما عاش العراقيون لحظات قاسية وهم مشدودون إلى ما سيؤول إليه مصير صدام.

وفي الحقيقة، ظلت السياسة العراقية لأكثر من ثلاثة عقود تثير دهشة العالم، لأنها كانت متمركزة في رأس رجل واحد هو صدام حسين. ومسيرته الخاصة تنطبق تماماً على صورة شخصيته. لقد كان صدام يعلم علم اليقين أن عليه المضي حتى النهاية، وحيداً إذا دعت الضرورة ليلبي، حسب ما ظل يعتقد حتى ساعة إلقاء القبض عليه، نداء التاريخ.

ولد صدام حسين لأسرة سنية فقيرة وعاش طفولة هي أقرب إلى البؤس فمنذ البداية، اختير له اسم ينبئ بالعنف والقسوة والحزم. ويبدو أن قوة الشكيمة ليست الصفة الوحيدة التي كان يتسم بها فقط، بل ذلك الغموض المتعمد الذي أحاط نفسه به أيضاً، بما فيها تاريخ ميلاده. فطبقاً لما أعلنه صدام ذات مرة أنه ولد في 28 ابريل (نيسان) 1937، لا يتذكر معظم أقرانه حتى عام ولادتهم. ومهما يكن من أمر، فقد غدا هذا التاريخ، منذ عام 1980، عيداً رسمياً يحتفل به سنوياً في العراق.

والدته هي صبحة طلفاح التي يشاع أنها كانت تتمتع بشخصية قوية، عاشت في تكريت حتى وفاتها في عام 1982. وقد بنى لها صدام مقبرة فاخرة وأسبغ عليها لقب «أم المناضلين». أما والده حسين المجيد فقد خطفه الموت على حين غرة حتى قبل أن يرى ابنه الذي ولد بعده ببضعة شهور.

هكذا عاش صدام مع أمه وزوجها الثاني إبراهيم الحسن واخوته غير الأشقاء في بيت بسيط في قرية العوجة بالقرب من تكريت إلى الشمال من العاصمة بغداد يتكون من غرفة واحدة ذات أرضية طينية وغير مزود بالمستلزمات الأساسية مثل الماء والكهرباء. وقد روى صدام نفسه لكاتب سيرته الذاتية أمير اسكندر معاناته هذه، فقال: «لم أشعر أنني طفل أبداً، كنت أميل إلى الانزواء وغالباً ما أتجنب مرافقة الآخرين». ولكنه وصف تلك الظروف بأنها منحته الصبر والتحمل والاعتماد على الذات. ثم أشار إلى أنه عاش حياة شقية اندفع إليها من جراء العوز، وكان يبيع البطيخ لركاب القطار الذي كانت تكريت إحدى محطاته في طريقه من الموصل إلى بغداد كي يطعم أسرته. وتروي حكايات أخرى أنه كان يمسك بعصا حديدية ليطارد الكلاب الضالة في الطريق.

في سن العاشرة، انتقل صدام حسين للعيش في بيت خاله خير الله طلفاح الذي كان منخرطاً في سلك التعليم. وفي تكريت، التحق صدام بالمدرسة في سن متأخرة عن باقي أقرانه، مما سبّب له معاناة شديدة، لكنه مع ذلك كان يحفظ دروسه بفضل ذاكرة ثاقبة وقدرة على التركيز الذهني في آن.

في مطلع عقد الخمسينات، انتقل صدام للعيش مع خاله في بغداد، حيث يقال انه تأثر برؤى ذلك الخال السياسية وبمفرداته المبسطة المبنية على إطلاق الشعارات البراقة مثل معاداة الاستعمار وتبني روح قومية عربية تدعو إلى التجدد والتغيير. وكان حزب البعث يبشر بهذا الأدب الذي تشربه صدام منذ نعومة أظفاره. وجاء انتماؤه للحزب في عام 1956 تعبيراً عن تحول في شخصيته، وإيحاء بالقوة والحزم لا يبلغ لهما قرار.

منذ البداية، لم تنقصه الوسيلة في ظل خال لم تعزه العلاقات ليغدو شخصاً آخر. لقد أظهر مهارة فائقة في التنظيم وطاقات في التنفيذ. ففي السابع من اكتوبر (تشرين الأول) 1959، أوكلت مهمة اغتيال رئيس الوزراء، آنذاك، عبد الكريم قاسم إلى شلة حزبية كان في عدادها البعثي ابن الثانية والعشرين صدام حسين. وبالفعل، فقد أطلقت المجموعة المنفذة النار على موكب «الزعيم الأوحد» في شارع الرشيد ببغداد، بيد أن المحاولة باءت بالفشل وأصيب صدام بعيار ناري في ساقه. ومنذاك، بدأ نجم صدام يسطع في سماء حزب البعث. وكان المقدر للأحداث أن تتصاعد فجأة، فقد قرر صدام مغادرة العراق بعد أن أدرج اسمه على قائمة المطلوبين بالاعتقال، فلجأ إلى سورية في رحلة طويلة ومن هناك توجه إلى مصر. في القاهرة، التحق صدام بمدرسة قصر النيل الثانوية بحي الدقي حتى تخرجه في عام 1961 حيث كان يعيش حياة اللاجئ السياسي. لكنه قال ذات مرة، إنه رسم لنفسه صورة الرئيس المصري جمال عبد الناصر «باعتباره مثلاً أعلى له يحاول تقليده».

في العام ذاته، انتسب صدام إلى كلية الحقوق، جامعة القاهرة، ولكن انغماسه المتزايد بالنشاط الحزبي حال دون استكمال دراسته الجامعية. فقد عاد إلى بغداد في أعقاب انقلاب الثامن من فبراير (شباط) 1963 الذي أسفر عن الإطاحة بنظام قاسم وتنصيب عبد السلام عارف رئيساً للجمهورية. ولكن سرعان ما تفجّر خلاف بين الأخير وبين قادة البعث أسفر عن إقصائهم من السلطة بعد مضي شهور قليلة على تحالفه معهم.

في هذه الأثناء، برز صدام حسين كرجل محوري سيتم تعيينه مشرفاً على التنظيم العسكري لحزب البعث، مما زاد في اعتقاده أن ساعته قد حانت من جديد في التحضير لعمل عسكري يطيح بسلطة عارف. بيد أن الأجهزة الأمنية استطاعت القبض عليه في 14 اكتوبر 1964 وإيداعه السجن في مديرية الأمن ببغداد، ولكنه مع ذلك انتخب أميناً لسر القيادة القطرية للحزب وهو لا يزال قابعاً خلف القضبان.

في أواخر يوليو (تموز) 1966، تمكن صدام من الفرار، ولم يطل به الأمر حتى أنشأ جهازاً أمنياً داخل الحزب عرف باسم «جهاز حنين»، وبدأ حثيثاً في التخطيط للاستيلاء على السلطة وخلع الرئيس «الضعيف» عبد الرحمن عارف. وبالفعل، كان المناخ العام في بغداد ينبئ بحدوث مثل هذا الانقلاب. وفي صبيحة يوم 17 يوليو 1968 ارتدى صدام البذلة العسكرية واعتلى ظهر إحدى الدبابات، كما روى هو نفسه ذلك في ما بعد، وتحرك نحو القصر الجمهوري بمساعدة الحرس الرئاسي المتآمر والقيام بانقلاب «أبيض». مع تنصيب أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية، بدأ صدام، الذي شغل عملياً منصب نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، يجمع السلطة بين يديه بصورة حثيثة; فهو يعرف كيف ينتظر الفرص الثمينة لتقوية أوراقه الرابحة ويجيد كذلك اختيار ساعته.

وهكذا تسلّم صدام حسين السلطة في بغداد على مرحلتين: انقلاب «أبيض» في عام 1968، ثم ضربة نهائية في 16 يوليو 1979، حيث جمع بين يديه رئاسة الجمهورية والأمانة العام لحزب البعث ورئاسة مجلس قيادة الثورة.

لقد بدا له الآن كل شيء ممكناً وفي متناول اليد. فبعد توليه زمام السلطة، قاد صدام حملة تصفيات طالت العديد من رفاقه عبر محاكمة انتهت بإعدام 17 من قادة وكوادر الحزب، من بينهم خمسة أعضاء في القيادة القطرية، واستمرت الحملة التي أطلق عليها آنذاك «حملة التطهير» لتشمل قرابة 450 شخصاً من القيادات العسكرية البارزة.

في بداية عام 1980، كان صدام حسين قلقاً من انعكاسات الثورة الشعبية في إيران المجاورة على نظام حكمه خاصة في أوساط الغالبية الشيعية العراقية. وفي هذا الجو المحموم، قرر صدام الدخول في حرب ضد نظام الحكم الجديد في إيران، فاندلعت حرب الخليج الأولى التي استمرت قرابة ثماني سنوات (1980 ـ 1988) قتل خلالها أكثر من مليون شخص من الجانبين وقدرت خسائرها بنحو تريليون دولار أميركي، إضافة إلى مئات الآلاف من الأسرى والجرحى والمعاقين، واقتصاد بات ينوء بوطأة أزماته.

وما أن أطفأت الحرب أوارها حتى بدأت الخلافات تتصاعد مع دولة الكويت. وبإغراء وجود مليون جندي عراقي مدرب، قرر صدام في الثاني من أغسطس (آب) 1990 غزو الكويت واعتبارها المحافظة العراقية التاسعة عشرة.

والواقع أن الإطار العراقي كان ضيقاً على «زعيم» في مثل حجمه، وهو رفض الانسحاب بصورة سلمية من الكويت وتابع هدفه بإصرار ليمارس سياسة حافة الهاوية من دون أن يبدي تراجعاً أمام الولايات المتحدة التي شكلت تحالفاً دولياً لإخراجه بعملية عسكرية عرفت باسم «عاصفة الصحراء».

بدا صدام كأنه تلقى الضربة وارتضاها، ولكنه في المقابل نجح في القضاء على الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في مارس (آذار) 1991 في معظم مناطق العراق.

وبما أنه لا يستطيع أن يحقق ذاته إلا عبر التصادم، وهو الاسم الذي اختير له منذ ولادته، فقد انتهى به المطاف إلى فرض نهجه المطلق على الدولة والمجتمع. وبدلاً من أن يستوعب أحداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001 كما استوعبها كثيرون غيره، وبدلاً من رؤية الحشود العسكرية الأميركية المتزايدة على تخوم بلده تمهيداً لحرب متوقعة ترفع شعاراً معلناً قوامه تحرير العراق من قبضته، ظل صدام حسين يميل إلى المشاغبة والعناد. هذا الميل في شخصيته لم يكن حصيلة الصدف، بل نتيجة سياسة مزروعة بالتهور والمغامرة قذفت البلاد والعباد في أتون حروب لا طائل تحتها. لذلك لم يكن أمامه من منفذ سوى أن يلعب ورقته الأخيرة: الهرب. وفي فترة انتظار إلقاء القبض عليه، أمضى صدام حسين الشطر الأكبر من الوقت معزولاً في جحر، وهو يعلم أن لحظة إسدال الستار على شخصه آتية لا محالة.

* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا