ضيق المساحات يدفع مجتمعات عدة لابتكار أساليب «حديثة» غريبة لدفن الموتى

في ماليزيا أصبح بوسع أهل المتوفى الافتخار ببطولة المرحوم بالقول إنه «مات واقفا» لأن الفرصة تتوفر لدفنه عموديا

TT

تعاني مدافن معظم بلدان العالم ـ ومقابر البلدان الكثيفة بالسكان على وجه الحصر ـ من ازمة «سكن» شديدة تضطر القائمين عليها للتفنن في اختصار المساحات و المراسيم «بحجم المرحوم» بعض الأحيان. وعلى هذا الاساس فقد تحولت قطعة الارض المستطيلة المخصصة لرفات الانسان من مرقد نهائي له الى سكن مؤقت يؤجره لفترة محددة ويخليه الى غيره حالما ينتهي عقد ايجاره.

وهكذا «اختصرت» احدى شركات الدفن الالمانية ساقيا المانيا وافاه الاجل في ميونيخ بعد ان لاحظت انها اخطأت في تقدير طول التابوت اللازم. وندد اتحاد شركات الدفن الالماني برديفه الايطالي بسبب مواصفات توابيته التي لا تسمح «بمرور الاوكسجين للمرحوم». والقضية الأخيرة مسألة حيوية بالنسبة لشركات الدفن رغم انقطاع علاقة الاوكسجين بالمتوفى، ذلك لأن الاوكسجين يسرع من تفسخ الجسد ويقلص بالتالي فترة «ايجار» القبر.

الدفن عموديا وبوسع اهل المتوفى هذه الايام الافتخار ببطولة المرحوم بالقول انه «مات واقفا» لأن الفرصة تتوفر في ماليزيا الآن لدفن الميت عموديا اختصارا للمساحات. وذكرت ادارة حراسة المقابر في كوالا لمبور لجريدة «نيو ستريت تايمز»، انها تواجه اليوم ظاهرة تتجاوز ظواهر سرقة شواهد القبور ونبشها المعهودة. والظاهرة الجديدة هي تقليص مساحات الدفن المخصصة للمقابر الى مجرد ألف هكتار من اصل مساحة ماليزيا التي لا تتجاوز 128 ألف كيلومتر يعيش عليها نحو 24 مليون شخص.

وقررت السلطات في كوالا لمبور من الآن فصاعدا ان يتم الدفن عموديا. وهذا يعني ان يمد المتوفى رجليه في القبر بعد وفاته وليس قبلها كما في الامثال الشعبية.

ورغم ان هذه قضية «حياة او موت» بالنسبة لبعض سكان ماليزيا، حسب رأي «نيو ستريت تايمز»، فهي ليست اكثر من قضية حسابية جغرافيا بالنسبة للسلطات. فقد درست حكومة ماليزيا علاقة المساحة بالتكاثر السكاني وقررت على هذا الاساس تخصيص قطعة ارض تبلغ مساحتها هكتارا واحدا (الهكتار يساوي 10 آلاف متر مربع) لكل 5 آلاف متوفى. وهذا يعني ان حصة الميت الواحد من اراضي الدفن تعادل مترين مربعين، اي ما يعادل مساحة سرير مريح. الا ان مقابر اليوم ليست كمقابر الامس، ولا يتبقى من مكان «لراحة» الماليزي الابدية، بعد اقتطاع مساحة الحدائق والطرقات والمسافات الفاصلة بين القبور، غير اقل من متر مربع واحد لا تكفي لتمدد صبي.

غابات الأحلام امتدت نزعة الحفاظ على البيئة لتشمل «الكومبيوتر الاخضر» والسيارة البيئية وادب البيئة الذي يخصص جائزته السنوية منذ عشر سنوات لافضل عمل ادبي بيئي. وليس غريبا حينها ان تمتد هذه النزعة الى المقابر والتوابيت تحت شعار العودة الى الطبيعة.

وتعتبر «غابات الاحلام» احدى اهم صرعات «الدفن البيئي» في سويسرا والمانيا في الالفية الثالثة. وفي حين يختار البعض ان يدفن جثمانه في جوف شجرة كبيرة يفضل البعض الآخر ان «تزرع» جثثهم تحت جذور شجرة ما كي يتحولوا الى غذاء للبيئة.

وفكرة مقابر الغابات هذه امتدت من جبال الالب في سويسرا الى بافاريا في جنوب المانيا حيث تكثر المناطق التي تغطيها الاشجار. ويقول رولاند هايدل انه تحول من تاجر اخشاب يستغل املاكه من الغابات، الى صاحب «غابة احلام»، لأن مهنة الدفن البيئي بهذه الطريقة تدر ارباحا اكبر من استثمار الاخشاب. وقد افتتح هايدل غابة الاحلام الثانية في المانيا عام 1998، على مساحة 160 هكتارا من الغابات الكثيفة في منطقة راينهاردزفالد القريبة من غابة سابابورغ التي اوحت للأخوين غريم كتابة قصتهما العالمية «الأميرة النائمة». ويوفر هايدل الاشجار ـ القبور بأسعار ليست مرتفعة وتتغير حسب عمر الشجرة ونوعها. فالبعض يفضل اشجار الحور وغيرهم البلوط او الجوز.

ويمكن للعائلة المهتمة بالبيئة ان تشتري شجرة كبيرة واحدة للعائلة لقاء 770 يورو. وابتكرت الشركة مزهريات «بيولوجية» لحفظ رماد الذين يفضلون الحرق، وهي اوعية تذوب في الارض مع مرور الوقت وتتسم باختلاط الرماد في التربة. ويسجل كل متوفى جديد في «كتاب الادغال» مع ضمانة مكتوبة بألا تقتلع الشجرة او تقطع قبل مرور 99 عاما. وتوقع هايدل ان يفضل 80 في المائة من سكان المانيا الدفن داخل الاشجار او تحتها خلال العقدين القادمين.

ويذكر ان الفضل في نشوء فكرة «غابات الاحلام» يعود الى المهندس السويسري اولي ساوتر، الذي دفن زوجته عام 1994 داخل شجرة في الغابة القريبة من مدينة مامرن السويسرية الصغيرة. وهناك اليوم في سويسرا 27 غابة احلام و في المانيا غابتان مع ميل متصاعد لتزايد عددها واتساع مساحاتها.

* الدفن الحديث

* قضى الالماني هارالد داوم من ميناء بريمن اكثر من خمسين عاما من عمره في البحر وعلى متن باخرته الصغيرة «ازميرالدا»، ولهذا فقد اوصى بدفنه داخل تابوت على شكل باخرة تحمل اسم باخرته العزيزة.

وطبيعي فإن الثورة على التابوت التقليدي لا تتوقف عند البواخر لأن البعض يفضل دفن جثمانه داخل تابوت على شكل سيارة او بشكل طائرة او تفاحة. اما شواهد القبور فقد تحولت بالفعل الى قطع فنية تتخذ اشكالا فضائية او منحوتات تقلد مشاهير الفنانين بعد ان كانت تقتصر على الصلبان.

وقادت امنية السيدة فارينا الكولومبية ابنها الى السجن بسبب امنيتها في ان تدفن داخل شجرة سنديان في الغابات السوداء الممتدة في جنوب المانيا. عجزت موارد فارينا الابن عن التصدي لعروض شركات الدفن فقرر التصرف بنفسه. اوصى بتابوت متواضع صنعه له نجار صديق. وضع الأم في التابوت على سقف سيارته الفولفو وانطلق في الغابات السوداء حسب امنيتها. وخرق فارينا القانون الالماني مرتين، الاولى حينما وضع التابوت على سقف سيارته والثانية حينما حاول دفن امه «بشكل لا شرعي (اسود). تابعته سيارة الشرطة والقت عليه القبض قبل ان يدفن الأم في جوف الشجرة لكنه نجح في الاقل ان ينزههها بين الغابات السوداء.

* تزويد الموتى بالأوكسجين

* تنطوي مهنة الدفن على الكثير من المواقف اللااخلاقية رغم كل ما تتطلبه من احترام للبشر الاحياء والموتى على حد سواء. وتتركز تلك المواقف في الاسعار العالية التي تفرضها الشركات وفي محاولات الاقتصاد في المساحات، والدفن المتكرر في المكان الواحد والتدخل في عملية التفسخ الطبيعية للاجساد.

ومهنة الدفن مربحة ومضمونة لأن الموت لا نهاية في حين ان لكل شيء نهاية بدءا من الانسان وانتهاء بسيارته. وتبقى مشكلة التسريع في تفسيخ الموتى كي تستطيع الشركات استثمار اراضيها بشكل انسب من اسوأ الاعمال المنافية للذوق والأخلاق.

ويعمل البروفيسور راينر هورن، من جامعة كيل (شمال) لصالح شركات الدفن في مشروع علمي هدفه ايصال الاوكسجين الى الموتى. وسبق لهذا الرجل ان ابتكر طريقة لضخ الهواء الى الارض بغية تزويد البكتيريا بما تحتاجه من هواء لتفسيخ الاجساد البشرية في مقبرة سانت جورجين.

ومشكلة هورن هي ان الارض الالمانية ندية، ومعروف ان الهواء يقل بين ذرات التربة الندية. وحسب رأيه فالجثث في المانيا «تحفظ» في الارض الندية الباردة ولا تتفسخ بعد انقضاء فترة ايجار القبر التي قد تمتد الى 30 سنة. ولأن 30% من الالمان يفضلون الحرق والمزهريات، يقع على هورن الآن ان يتوصل الى طريقة سريعة لضمان تفسخ اجساد الـ 70% المتبقين. ويرى العالم ان افضل طريقة لاختصار فترة التفسخ هي بالدفن على عمق 80 سنتيمترا داخل توابيت من الاسمنت مزودة بأجهزة التنقية والمضخات التي توصل الهواء اليها. ويقول هورن ان هذه الطريقة تضمن التفسخ التام خلال 3 إلى 8 سنوات وتقلل تسرب النتروجين والمعادن الثقيلة التي تتخلف عن التفسخ الى التربة.

وحسب اتحاد متعهدي الدفن الالماني فإن 40% من مقابر المانيا تعاني من مشكلة المكان. والمشكلة الاساسية هي عدم تفسخ الجثث والعثور عليها شبه كاملة بعد مرور 20 سنة. ولهذا فإن الشركات تبحث عن طريقة جديدة واخلاقية للتخلص من بقايا الموتى. ويموت سنويا في المانيا نحو 860 الف انسان يفضل ثلثاهم الدفن في الارض على الطرق الاخرى.

* الموتى «المجهولون»

* تعيش المانيا حاليا انتعاش ظاهرة «الموتى المجهولون»، الذين يفضلون لهذا السبب او ذاك، عدم وضع أي اثر يدل على قبورهم. وقد ظهرت آخر مقبرة لهؤلاء «الجنود المجهولين» في مدينة كارلسروهه الواقعة في ولاية بادن فورتمبرغ. ولا يمكن دفن المتوفى المجهول الا حسب وصية يتركها. والقبور هنا عبارة عن شقوق في الارض بلا تابوت ويمحى كل اثر لها بعد ان ينمو الحشيش مجددا عليها.

ويربط كيرستن غيرنغ، من اتحاد متعهدي الدفن الالماني في دوسلدورف، صعود هذه الظاهرة بصعود النزعات الدنيوية في الألم. ويثبت ذلك هو ان دفن الموتى المجهولين يكثر في شمال المانيا ويقل في جنوبها (بافاريا) الديني المحافظ. فقد دفن في مدينة هامبورغ الشمالية 46037 شخصا «كموتى مجهولين»، وهو ما يشكل 26% من مجموع الوفيات. اما في كارلسروهه فلا يشكل المجهولون سوى نسبة 7% من مجموع الموتى.

ويقول غيرنغ ان محبذي الدفن المجهول «يودون بالأحرى عدم اقلاق راحة الاهل برعاية القبر والشاهد وترميمهما وبالتالي الاقتصاد في النفقات والوقت». وهناك ظاهرة الاحتجاج على الأهل حسب منطق «لم تعتنوا بي عندما كنت حيا فاتركوني وشأني بعد وفاتي».

الا ان ادارات المقابر تحدد مكان القبر او المزهرية بدقة باستخدام اجهزة المسح الالكتروني تحسبا لاحتمال ان تغير العائلة رأيها او ان تحتاج المكان لدفن عزيز على المتوفى «المجهول» الأول. ويرى غيرنغ ان الدفن ثقافة «فثقافة كل شعب تقاس بكيفية تعامل افراده مع الموت».

* الإيدز في خدمة الحانوتية

* * عبر فيلمون لوبيكا عن سعادته برواج اعمال الدفن في كينيا منذ ان تحول من نجار بارع الى صانع توابيت ومتعهد حفلات تأبين. وهو يقول ان «التابوت مضمون لكل شخص» ولا يمكن لأحد التخلي عنه، وهو سر نجاحه خلال السنوات الست الاخيرة. ولكن ما هو سبب كثرة الوفيات في نيروبي خلال السنوات الاخيرة؟ يقول لوبيكا: «انه الايدز، فنسبة المصابين بالمرض في كينيا تصل الى 15%».

ومع انه لا توجد احصائية دقيقة عن نسبة الوفيات بسبب الايدز، فإن القاء نظرة واحدة على شواهد القبور تكفي بعض الاحيان لتقدير ذلك. بل ان رواج «سلعة» الموت في كينيا اجرت تحولات مهنية اخرى في هذه الدولة المبتلية بالمرض اذا راجت تجارة الحانوتية.

ويقول بول كيوكو انه تحول من سائق سيارة اجرة الى سائق سيارة سوداء لنقل الجنائز لأن هذه المهنة الاخيرة تدر ارباحا كثيرة. ذلك ان تقاليد الدفن الافريقية تتطلب دفن المتوفى في قريته. وهذا يعني ان العوائل بحاجة الى سيارات خاصة لنقل موتاهم مسافات طويلة احيانا. ويشير كيوكو الى ان رحلة بضع مئات من الكيلومترات، تستغرق 5 او 6 ساعات، تكلف نحو 400 دولار.

* وأخيرا.. البرادات

* ولأن هذه الاجور باهضة، ويعجز الكثيرون عن دفعها، فقد نشطت ايضا تجارة برادات حفظ الموتى. ويقول احد موظفي بيوت حفظ الجثث في البرادات: ان القانون الكيني يقضي بضرورة دفن المتوفى خلال 48 ساعة. لكن ضعف الحال يدفع الكثيرين الى حفظ موتاهم في البرادات لفترة قد تطول الى شهر ريثما يتمكنون من جمع مبلغ النقل والدفن.