قصة المناطق الثلاث المهمشة في السودان: المفاوضون اعتبروها «نموذجا مصغرا» لتعقيدات الأزمة السودانية

جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق دخلتا حلبة الصراع في عام 1987 وأبيي في أوائل الستينات

TT

دخلت قضية «المناطق المهمشة» وهي جبال النوبة، وجنوب النيل الازرق، وابيي، المتاخمة للجنوب، في اجندة مفاوضات السلام السودانية بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان، في مارس (آذار) من العام الماضي، وظلت اعقد المشاكل التي تواجه طريق الوصول الى حل.

ونجحت الحركة الشعبية لتحرير السودان في فرض هذه القضية على طاولة المفاوضات العام الماضي بعد عشر سنوات من المحاولات الفاشلة. واختلف الجانبان حول تبعية هذه المناطق، رغم انهما اتفقا في بروتوكول ماشاكوس الموقع في 20 يوليو (تموز) 2002، على حدود الجنوب التي خططها الاستعمار البريطاني قبل خروجه في عام 1956، وصارت المناطق الثلاث بالتالي ضمن حدود الشمال. الا ان الحركة الشعبية ترى ان هذه المناطق التي تأثرت بشكل مباشر بالحرب في الجنوب لقربها منه، عانت من تهميش المركز، وصارت ضحية للحرب، وطالبت بتقرير مصيرها أسوة بالجنوب، لكنها عادت مع تواصل جولات المفاوضات وطالبت بحكم ذاتي لمنطقتي جنوب النيل الازرق، وجبال النوبة، وتمسكت بالمنطقة الثالثة ابيي، وطالبت بضمها الى ولاية بحر الغزال الجنوبية، باعتبار ان معظم سكانها من قبائل الدينكا الممتدة في الجنوب. وانضم عدد من قادة هذه المناطق الى الحركة الشعبية، احتجاجا على التهميش، ولاسباب سياسية واجتماعية اخرى، مما اثار بعدا عميقا للقضية، رغم وجود بعض اخر منهم في صفوف الحكومة. ومع بلوغ المفاوضات الجارية الان في ضاحية نيفاشا الكينية، مراحلها النهائية، اصبحت قضية المناطق الثلاث اقرب الى الحل بعد الضغوط التي يواجهها المفاوضون من الوسطاء، وصار «البحر خلفهم.. والعدو أمامهم»، ولامفر لهم سوى العبور واتخاذ القرارات الصعبة. وهو علاج مثل «علاج الكي»، حسب تعليق احد المراقبين. ويشبه الباحثون قضية المناطق بأنها «نموذج لمشكلة السودان» انبثقت عن قضية الجنوب التي ترفع لواءها الحركة الشعبية، وخلقت مجسما اخر في بقعة شمالية اخرى تحمل نفس الطعم واللون، ولكنها تتعقد بما فيها من نزاع محلي قبلي اثني، محوره أيضا «شمال وجنوب».

جبال النوبة تقع جبال النوبة فى غرب البلاد وتتبع الى ولاية جنوب كردفان شمال السودان وهى سلسلة جبال وتضاريس وسفوح تقطنها خمس مجموعات قبلية اهمها النوبة والحوازمة والمسيرية والداجو والسليم واولاد حميد. والاغلبية السكانية لقبيلة النوبة، ويحترف السكان فى المنطقة الزراعة والرعى، وتنشط فيها الكنائس المسيحية، التي دخلت فى كثير من الاوقات ساحة الحرب «الباردة بين المسيحية والاسلام». وشهدت جبال النوبة تمرداً عسكرياً على حكومة الخرطوم في 1987 قادة عدد من ابناء النوبة فى مقدمتهم يوسف كوة الذى قتل فى عام 2001، ومنهم عبد العزيز الحلو وهو الان قائد منطقة جبال النوبة فى الحركة الشعبية التى تعتبر المظلة الفضفاضة للتمرد فى جبال النوبة.

وبمجيء حكومة الرئيس السوداني عمر البشير صارت المنطقة ساحة ممتدة للعمليات العسكرية بين القوات الحكومية وقوات الحركة، وأفرزت أوضاعا انسانية بالغة التعقيد، جلبت للحكومة الاتهام بتبنى سياسة التطهير العرقى لقبيلة النوبة فى المنطقة من قبل الدول الغربية. ووجدت الحركة الشعبية هواها فى هذه الاتهامات الغربية فصبت مزيدا من الزيت على النار، الى ان تبنى المجتمع الدولى امر جبال النوبة وساق الامور حتى تم توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار بين الحكومة والحركة الشعبية بجنيف في يناير (كانون الثاني) 2002، خضعت بعده المنطقة لإدارة ثلاثية مشتركة بين الحكومة والحركة وممثلين لبعثة الدول الغربية مع وجود رقابة دولية عسكرية على اتفاق وقف اطلاق النار. وبذلك توقف الموت المستمر فى الجبال، ولكن المشكلة قيد البحث فى نيفاشا الآن.

أبيي تبعد منطقة ابيي التماسية 50 كيلومتراً عن بحر العرب (نهر صغير على حدود الشمال والجنوب)، وهي منطقة يعيش فيها خليط من القبائل الافريقية والعربية ومعظمها رعوية، وكل طرف يدعي سيادته التاريخية على المنطقة ويصف الآخرين بالغرباء. ويعتقد المراقبون فى الخرطوم ان ابيي اكثر المناطق الثلاث حساسية في ملفات التفاوض لاعتبارات اجتماعية وثقافية واقتصادية متعددة. واساس الحساسية هو ان عدداً مقدراً من ابناء تلك المنطقة هم قيادات في الحركة الشعبية ويتفاوضون باسمها. وفي المقابل تعتبر القبائل العربية (المسيرية) القاطنة في تلك المنطقة تمثل حائط صد قويا في وجه حركات التمرد الجنوبية المسلحة. كما ان هنالك عدداً مقدراً من قيادات الجيش السوداني من تلك القبائل. وترى الحركة ان ابيي كانت تابعة للجنوب لمديرية بحر الغزال قبل عام 1905 ولكنها ضمت من قبل الحاكم العام البريطاني للشمال وظلت داخل حدود مديرية كردفان بقرار اداري. وتطالب الحركة باعادتها للجنوب بقرار اداري مماثل يصدر من رئيس الجمهورية، ولكن الحكومة ترى ان منطقة ابيي منطقة تمازج بين المسيرية وقبيلة الدينكا (لتي ينتمي إليها قائد الحركة جون قرنق)، على مدى حقب طويلة تتجاوز القرن السابق.

وتقول الحركة ان هنالك متغيرا كبيراً طرأ علي العلاقة بين الدينكا والعرب في منطقة ابيي في عهد الرئيس ابراهيم عبود الذي حكم السودان من 1958 ـ 1964 وحاول انهاء مشكلة الجنوب عبر العمل العسكري مع برنامج للاسلمة والتعريب. وفي ذلك الوقت تأثرت العلاقة بين الدينكا والمسيرية سلباً بتلك السياسات وبدأت مجموعات كبيرة من ابناء دينكا ابيي تتجه للالتحاق بحركات التمرد الجنوبية، وحالياً تعتبر عائلة الناظر دينق مجوك من ابرز القيادات العسكرية في الحركة الشعبية. أما الحكومة فتتكىء فى دفوعاتها على مذكرات وتقارير اعدتها الادارة الاستعمارية البريطانية بأن قبيلة الدينكا (انقوك) المقيمة هنالك ظلت على حرصها ومثابرتها بأن تكون الى جانب المسيرية في شمال السودان، وان الناظر كوال اروب ناظر الدينكا عندما خير من جانب الادارة البريطانية بين البقاء في الشمال او الالتحاق بالجنوب في 1934 فضل الشمال. وعندما مات الناظر كوال وخلفه ابنه دينق مجوك طرح عليه الامر مرة اخرى في 1951 فاختار بدوره البقاء في الشمال.

واختيار دينكا انقوك لمرتين البقاء في الشمال يجد بعض التفسيرات من قبل قيادة الحركة الشعبية التي ترى بأن القرار كان قراراً فوقياً صادراً من ناظر الدينكا لاعتبارات اقتصادية واجتماعية خاصة به متعلقة بوضعه كزعيم في الشمال يُحظى بامتيازات اكبر من رصفائه في الجنوب. وتتمسك قبيلة المسيرية التى تقطن المنطقة وهى قبيلة عربية الاصل، ويقول الخبراء فى شأنهم، انهم وصلوا الى هناك مهاجرين في عام 1760 وعندما جاءوا كان السكان الاصليون هم قبيلتا: «الداجو» و«الشات». ولما كانت المسيرية قبيلة رعوية والسكان الاصليون (الداجو والشات) مزارعين، وقعت بينهم احتكاكات تحولت الى حروب انتهت بخروج الداجو والشات عن ابيي الى الجنوب والشرق والغرب، بعيد عن دار مسيرية.

وفى سياق الاستقطاب المحموم يعتقد ابناء المسيرية ان منطقة ابيي تقع داخل «دار مسيرية» ويحددون دارهم بأنها تمتد الى ابو نفيسة (47 كلم جنوب ابيي) وشمالاً الى منطقة الاضية، ومن الكبر غرباً وحتى الدكر شرقاً. ويقول الباحث احمد عبد الله ادم من ابناء المسيرية لـ«الشرق الأوسط» ان قبيلة الدينكا جاءت الى المنطقة نازحة في عام 1826 بعد معارك دارت بينها وبين قبيل النوير التي تعيش في جنوب شرق دار المسيرية. ولكن لأبناء ابيى رأياً آخر، يقول بروفيسور منجوير دينق الاستاذ بجامعة بحر الغزال وهو من ابناء الدينكا نقوك: «نعتقد ان الاستعمار اخذ منطقة ابيي التابعة الى ولاية بحر الغزال في الجنوب بقرار إداري ونقلها الى ولاية كردفان فى الشمال وكانت الحجة هي ان مدينة قوقريال (جنوب) تبعد عن إبيي بسبب وجود نهر اكير الذي يفصل بين المنطقتين». ويشير الي ان وجود المسيرية في هذه المنطقة جاء بسبب البحث عن المراعي. بينما ينصح د. أبو القاسم قور الاستاذ بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا ومدير مركز دراسات السلام بسحب قضية أبيي من منضدة المفاوضات والتدويل والاستفادة من التجربة السودانية في فض النزاعات في مناطق التماس جنوب النيل الازرق.

أما المنطقة الثالثة المهمشة فهى منطقة جنوب النيل الازرق، وقد دخلت دائرة الصراع بين الجنوب والشمال بشكل علني في عام 1987 عندما انضم عدد من ابناء المنطقة الى الحركة الشعبية ونظموا معها حملة عسكرية على النيل الازرق ادت الى وقوع مدينة الكرمك كبرى مدن جنوب النيل الازرق، فى يد الحركة، ومنذ ذلك الوقت اصبح جنوب النيل الازرق منطقة عمليات ومعارك متقطعة، وتستولي الحركة الآن على مدينة الكرمك فيما انتزعت منها الحكومة منتصف التسعينات مدينة قيسان المجاورة. وتأتى اهمية جنوب النيل الازرق الاستراتيجية فى انه بالقرب من خزان الروصيرص ثاني أكبر خزان في السودان.