السرية لا تزال سمة قرارات سلطة التحالف بشأن الإنفاق في العراق رغم وعود «الشفافية»

تساؤلات حول تخصيص 35 ألف دولار لإزالة أربعة تماثيل نصفية لصدام والانتقائية في الإنفاق على المدارس

TT

كان العراقيون المفزوعون بالاشاعات حول شحة الوقود يدخرون السلعة الثمينة، مسببين، على نحو غير مقصود، ما يخشون منه على وجه التحديد. وكان المسؤولون عن النفط في حكومة الاحتلال الذي تقوده الولايات المتحدة في بغداد يشعرون بالقلق من انه ستكون هناك أعمال شغب اذا لم يفعلوا شيئا لتحسين الوضع سريعا. وهكذا ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي توجهوا الى قصر صدام حسين الرئاسي السابق ساعين الى المساعدة.

وبحلول الليل كانوا قد تلقوا مخصصات بقيمة 425 مليون دولار لاستيراد الوقود من دول مجاورة. وعلى الرغم من ان ذلك لم يحل ما يبدو شحة وقود مزمنة، فقد ساعد على تفادي وقوع أزمة. وجرت المصادقة على الانفاق من جانب مجلس مراجعة البرنامج الذي يضم 11 عضوا وهو كونغرس صغير في حكومة الاحتلال يتمتع بصلاحية تخصيص الأموال. وقد عين المجلس ـ الذي يتألف في معظمه من الأميركيين والبريطانيين والأستراليين ـ من جانب بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي للعراق. وهو يستخدم الأموال العراقية بما فيها ايرادات النفط والموجودات المستولى عليها من عهد صدام لتسديد تكاليف المشروعات التي لا تسددها ميزانية البلاد. وأقر المجلس حتى الآن ما يزيد على أربعة مليارات دولار في مثل هذا الانفاق.

وخلال اجتماعاته التي يعقدها مرتين في الأسبوع أقر المجلس ما يزيد على 500 مشروع بينها مبلغ 120 مليون دولار لطباعة وتوزيع العملة، و36 مليون دولار لتجديد مراكز الشرطة، و15 مليون دولار لبرنامج الاعتمادات الوطني، و4 ملايين دولار لاقامة نظام اتصالات لشبكة السكك الحديدية. كما أقر عشرات من المشاريع الأصغر، بينها 3.500 دولار للبدء بمهرجان بغداد المسرحي، و50 ألف دولار لرعاية الحيوانات في حديقة الحيوانات، و79.245 ألف دولار لاعادة تأسيس سوق بغداد للأوراق المالية. وبما ان هيكل حكومة عراقية قد تشكل فان المجلس بدأ تسليم مسؤوليات أكبر لمتابعة مشاريع معينة للوزارات. ولكن المجلس ما زال يتعامل مع المخصصات الشاملة.

ومن بين مليارات الدولارات المخصصة أو الموعودة لأضخم عملية اعادة اعمار بلد منذ الحرب العالمية الثانية، فان الأموال العراقية التي وزعت من جانب بريمر ومجلس مراجعة البرنامج هي أقل ما يمكن ان يكون منظورا. فانفاق مبلغ الـ18.6 مليار دولار الذي أقره الكونغرس الأميركي في الخريف الحالي لعملية اعادة اعمار العراق سيجري الاشراف عليه من قبل مكتب يديره أدميرال أميركي متقاعد. أما الـ13 مليار دولار التي تعهدت دول أخرى بمنحها فسيجري الاشراف عليها من جانب مجلس مراقبة يدار عراقيا.

وعلى الرغم من الضوابط والتصريحات التفصيلية حول «الشفافية» فان عملية انفاق الأموال العراقية من جانب سلطة الائتلاف المؤقتة لا تتمتع بالكثير من الانفتاح والنقاش والأدلة الوثائقية التي تميز مثل هذه المؤسسات في الدول الديمقراطية. وعلى الرغم من ان لدى الحكومة المؤقتة معلومات واسعة في موقعها على الانترنت، فانها لا تشتمل، مثلا، على تواريخ منح العقود. وبالاشارة الى المشاكل الأمنية فانها لا تذكر شيئا عن الشركات التي فازت بالعقود.

ومن المفترض ان يقوم مجلس مراقبة دولي تأسس عندما قامت الأمم المتحدة بنقل أموال من برنامج النفط مقابل الغذاء الى سلطة الاحتلال بتدقيق عمل مجلس مراجعة البرنامج. ولكن تشكيله تأخر لفترة أشهر وما يزال في طور التنظيم. وقد عقد اجتماعه الثاني يوم الاثنين الماضي. وما يزال يتعين على وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ان يعين مفتشا عاما لسلطة الائتلاف المؤقتة كما خوله الكونغرس.

وقد أدى الموقف القانوني لسلطة الاحتلال الى شيء من الارتباك. فعلى سبيل المثال قال مكتب المحاسبة العامة، الذي يراجع نزاعات العقود الفيدرالية، انه بسبب كون سلطة الائتلاف المؤقتة ليست وكالة فيدرالية فانه لم يكن واثقا من امتلاكه صلاحية مراجعة احتجاج قدمته شركة خسرت عرضا للحصول على عقد لاعادة الاعمار. وتجاهل المفتش العام لوزارة الدفاع الذي كان ينظر في القضية ذاتها الموضوع للسبب ذاته. وقال كريستوفر ياكيس، خبير العقود واستاذ قانون العقود الحكومية بجامعة جورج واشنطن، «ان حلفاء الولايات المتحدة يتوقعون ان تكون هناك شفافية في هذه العملية». فالاجتماعات التي تعقدها لجنة الفحص لا يعلن عما يدور بداخلها، كما لا توجد نصوص أو محاضر للاطلاع على ما يدور من مناقشات في هذه الاجتماعات.

جدير بالذكر ان تلخيصا لمحاضر الاجتماعات التي عقدت منذ اغسطس (آب) الماضي قد نشر على شبكة الانترنت، الا ان هذا التلخيص لا يحتوى على المعلومات الخاصة بما يزيد على 200 مشروع جرت المصادقة عليها خلال الفترة من مايو (أيار) حتى أغسطس الماضي. ولم تكشف المناقشات التي سبقت اتخاذ القرارات، كما لم يرد توضيح حول السبب وراء خصخصة مبلغ 35 ألف دولار لإزالة اربعة تماثيل نصفية للرئيس العراقي المخلوع صدام حسين من القصر الرئاسي الذي يستخدم حاليا كمقر رئيسي للحكومة الانتقالية العراقية، كما لم يتم توضيح السبب وراء المصادقة على مبلغ 194.370 دولار لثانوية الرسالة في حين لم تمنح مدرسة الفرات الابتدائية المجاورة لها أي مساعدة، ولم توضح الجهات المسؤولة اعتقادها في ان خصخصة مبلغ 1.4 مليون دولار لدعم المراكز النسائية سيكون مفيدا للشعب العراقي. ولم تعلن الجهات المختصة عن بعض العقود، خصوصا الصغيرة، اذ كانت الوسيلة الوحيدة لمعرفة المصادقة على العقود من خلال العلاقات الشخصية مع الذين يعملون في مكاتب سلطات الاحتلال، فيما احيطت بالسرية اسماء اصحاب العطاءات الفائزة. يضاف الى ما سبق ان كمية المعلومات المحدودة المتوفرة والمبالغ التي خصصت لبعض المشاريع والاغراض العامة لهذه المشاريع متوفرة فقط باللغة الانجليزية، الا ان سلطات الاحتلال قالت انها تعمل على ترجمة المحاضر الى اللغة العربية. من جانبه، قال فريدريك بارتون، المسؤول السابق بهيئة التنمية الدولية التابعة لمنظمة الامم المتحدة، انه من الضروري ان تبدأ سلطات الاحتلال الانفاق في اسرع وقت ممكن، وأضاف قائلا ان المصادقة على تخصيص هذه الأموال لم تتسم بالبطء المعهود في المصادقة على الأموال من جانب الحكومة الاميركية. كما علق بارتون قائلا ان الفرصة متوفرة باستمرار للسؤال حول كيفية توظيف هذه الأموال، مؤكدا على ضرورة تجنب البطء والبيروقراطية لأن التأخير ربما يتسبب في موت من هم في انتظار اصلاح وصيانة مرافق الخدمات الضرورية. ودافع بعض المسؤولين عن الاجراءات التي اتخذتها لجنة فحص ومراجعة العقود على اعتبار انها هيئة مراجعة مستقلة تم التعاقد معها لمراجعة وفحص كل التعاملات. وكان مسؤول بالبنتاغون قد صرح بأن التحالف قادر على ضبط ومراقبة الاموال المخصصة للعراق، اذ اكد الميجور جوزيف يوسا ان البنتاغون جهة مسؤولة عن هذا الامر.

ونفى مسؤولون بسلطة الائتلاف المؤقتة عدة طلبات باجراء لقاءات مكتوبة مع أي شخص قد يتحدث حول هذه العملية. كما اكد مسؤولون بسلطة الائتلاف في الرد على اسئلة مكتوبة وجهت اليهم ان السلطة اكثر مبدئية وحرصا مقارنة بالكثير من الحكومات الديمقراطية في التأكيد على التزام جانب الشفافية في القرارات ذات الصلة بالتعاقد والانفاق. وأشار مسؤولو السلطة الى انها منحت في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي 52 عقدا بقيمة 57.4 مليون دولار لشركات عراقية بالاضافة الى 41 عقدا بقيمة 66.4 مليون دولار لشركات اميركية و19 عقدا بقيمة 86.2 مليون دولار الى شركات في 19 دولة اخرى.

ويعتقد محللون ان الاموال «الحكومية» امر معقد في العراق الجديد. ومن المقرر ان يتم التنسيق عبر برنامج لجنة المراجعة على عمليات تسديد الاموال من المصادر الثلاث الرئيسية لأغراض اعادة الاعمار مع التأكد من وضع الاولويات على نحو صحيح وعدم تبديد الجهود. الا ان هذه اللجنة، التي من المفترض ان تكون مشرفة على كل الاموال التي صادق عليها الكونغرس بغرض اعادة اعمار العراق تشرف فقط على الاموال العراقية. فعمليات واجراءات انفاق الاموال الاميركية لا تزال محل جدال، اذ صرحت مصادر في الكونغرس في وقت سابق من الشهر الحالي بأن شركة تابعة لشركة هاليبيرتون تقوم باستيراد الوقود ربما تكون قد طالبت الحكومة الاميركية بتسديد اموال اكثر تزيد حوالي 61 مليون دولار على القيمة التي من المفترض ان تحصل عليها لقاء استيرادها للوقود. الا ان توظيف وأوجه صرف الاموال التي صادق عليها الكونغرس يخضع لقيود وشروط التنافس على اساس العطاءات واعلان المبالغ. ويعتقد مراقبون ان الرقابة المفروضة على انفاق الاموال العراقية اقل من تلك المفروضة على الاموال الاميركية. فالعقود الاصغر حجما تمنح من دون منافسة، فيما يمكن ان تعلن العطاءات والمناقصات شفاها في العقود التي تتراوح قيمتها بين 5000 و25000 دولار. وطبقا لمحاضر 20 اجتماعا عقدته اللجنة خلال الفترة بين 12 اغسطس و8 نوفمبر، فان وزير المالية العراقي كامل مبدر الكيلاني حضر جلسة واحدة فقط. وتقول سلطة الائتلاف المؤقتة انها تعمل على استيعاب «جدول التزامات أي عضو في اللجنة».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»