جدية شارون في مسألة الانسحاب من قطاع غزة وإزالة المستوطنات

TT

هناك أكثر من سبب يجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي، ارييل شارون، صادقا على غير عادة، في إبداء نية جدية للانسحاب من قطاع غزة المحتل وإزالة جميع المستوطنات القائمة فيه (أو معظمها) مع أنه كان قد أعلن فقط قبل ستة أشهر أن مستوطنة نتسريم (جنوب مدينة غزة) هي مثل تل أبيب بالنسبة إليه، أي يستحيل الانسحاب منها.

وليس أهم هذه الأسباب، تورطه في قضايا الفساد، برغم أنه سبب وجيه، خصوصا اليوم عشية افتتاح جولة جديدة من التحقيق معه في الشرطة، حول أحد هذه الملفات الساخنة.

كما أنه، ليس أهم الأسباب، الوضع الأمني المتدهور جراء إعادة احتلاله غزة وعملياته العدوانية هناك. فهذه العمليات بالنسبة له حرب مستمرة، وهو جنرال معروف بروح المغامرة وضيق أفقها، ومن جهته، مستعد لمواصلة هذه الحرب حتى يحقق الانتصار، ويؤمن بأن الحل الوحيد للنزاع، هو في فرض حل بلا مفاوضات، ويثق بأن قتل أي عنصر جديد من قادة التنظيمات السياسية والعسكرية الفلسطينية هو خطوة أخرى في الطريق إلى ذلك الانتصار. وكذلك الأمر بالنسبة لهدم البيوت وجرف المزروعات والأراضي وتنفيذ الاعتقالات.

إذن، ما الذي يدفع شارون إلى طرح مشروع كهذا: الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة وتصفية المشروع الاستيطاني الذي قاده بنفسه ورعاه بمئات ملايين الدولارات من أموال الدولة التي كانت تحت مسؤوليته وهو وزير للدفاع أو للزراعة أو للبنى التحتية أو الإسكان، على مدى مشاركته الفاعلة في الحكم؟! الجواب على هذا السؤال موجود في واشنطن، فرغم أن الإدارة الأميركية لم تدرك بعد جيدا، أو كما يجب، خطورة استمرار الصراع الدامي الإسرائيلي ـ الفسلطيني على السلام العالمي، وآثاره السلبية على الحرب العالمية ضد الإرهاب، إلا أنها بدأت تدخل في دوامة الحرج من سياسة شارون الحربية. وكلما أمعن في هذه السياسة، يزداد حرجها، خصوصا أنه لا يترك مناسبة إلا ويذكر فيها بعمق صداقته الشخصية والسياسية مع الرئيس الأميركي، جورج بوش، ويوحي بأن ممارساته يجري تنسيقها مع إدارته.

ولم يعد سرا اليوم، أن خطة «خريطة الطريق» الأميركية، التي وضع عليها شارون 14 تحفظا لإفشالها، باتت اليوم على شفا الموت، بسبب السياسة الإسرائيلية من جهة وتراكم الأخطاء وسوء الأداء في الطرف الفلسطيني، من جهة ثانية والنفور غير المعقول الذي تبديه الإدارة الأميركية للقيادة الفلسطينية من جهة ثالثة. والأميركيون يقولون للفرقاء: من يريد دفن «خريطة الطريق» عليه أن يأتي ببديل واقعي آخر.

فإذا أضفنا لذلك، الضغط الداخلي على حكومة شارون وعلى الإدارة الأميركية لوقف التدهور وضرورة الخروج من المأزق السياسي ـ الأمني وتبعاته المدمرة على الاقتصاد أولا وعلى أمن الإسرائيليين في الداخل وأمن الإسرائيليين واليهود في الخارج، وما يرافقه من ضغوط ناعمة من دول الغرب، ومن صرخات تنطلق نحو واشنطن وحلفائها من عدة عواصم عربية، نجد أن شارون مضطر اضطرارا إلى طرح مشروع معين. وإلا، فإن أحدا غيره سيسد الفراغ.

وعندما اقتنع شارون بأن هناك مشاريع كثيرة لسد الفراغ، وأنه إذا لم تعجبه «خريطة الطريق» فهناك «مبادرة جنيف» وإن لم تعجبه فهناك مبادرة العاهل السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز التي تبنتها عام 2002 وهناك المزيد من هذه المبادرات، وكلها مبادرات تستند إلى الانسحاب إلى حدود يونيو (حزيران) 1967 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية المحتلة وإزالة المستوطنات.

شارون يعرف أنه لا يوجد حل آخر للصراع، لكنه لا يتمتع بالشجاعة ولا بالرغبة اللازمة للتوجه إلى هذا الحل. فقرر الهرب منه بالانسحاب أولا إلى قطاع غزة، ثم من نصف الضفة الغربية.

وبدأ بالحديث عن إزالة مستوطنات، حتى يظهر للعالم مدى صعوبة قراراته «السلامية» و«تضحياته» الشخصية والحزبية في سبيلها، وهو يأمل أن يتفرج العالم على معاركه الداخلية من باب الإعجاب به وبتصميمه على الاستمرار فيها. ويتوقع أن يحظى بدعم أميركي على ذلك، وهذا ما سيحاول الحصول عليه في زيارته القريبة إلى واشنطن. ويتمنى ألا يعيق برنامجه هذا سوى موقف فلسطيني يرفض ويرفض التعاون معه على هذا الانسحاب.

بيد أن أمرا آخر قد يعرقل مشروع شارون، خارجا عن إدارته، هو: إذا قرر المستشار القضائي الجديد لحكومته أن يقدم لائحة اتهام ضده في قضايا الفساد. فعندها نبدأ كل شيء من بدايته.