الغاط: قصة التحول من بيوت الطين والفوانيس إلى عالم الإنترنت والميكرويف

«الحطيئة» يبحث عن بئره في وادي مرخ وعمرو بن كلثوم يشجع الأهالي على البناء فوق سفوح الجبال * محافظ الغاط: مستشفى تخصصي ومركز حضاري ومدينة جديدة تحتوي على 1000 قطعة أرض تقام فوق جبل طويق

TT

كانت الغاط (شمال الرياض) إلى وقت قريب قرية وادعة تحتضنها سلسلة في جبال طويق التي تبدو كأسياف بأيد مصلتينا كما وصف ذلك الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلقته المشهوره عندما تراءت له اليمامة بجبالها السود وهو يهيم في صحرائها قبل اكثر من 1500 عام، ولا تزال المنازل الطينية التي بنُيت في سفوح الجبال خير شاهد على قدم المنطقة في حين تنتشر على ضفاف وادي الغاط مزارع صغيرة تحتضن اشجار النخيل وبعض من الاثل وقليل من السدر، وعلى بعد اقل من كيلو مترين من مدخل المدينة القديم تقع قرية الوسيًِّعه بمبانيها القليلة وبجغرافيتها المميزة واللافتة، حيث اشجار النخيل الباسقات تتناثر في مزارع متراصة على ضفاف الوادي، ومنها ترتفع أصوات محركات إخراج الماء محدثة صدى في الجبال المقابلة لتقطع وحشة الصحراء وتقول للمقبل: اٍن الانسان هنا لم يبرح ارضه ونخله وماشيته، انها الصورة التي قد لا تتكرر ولا توجد إلا في ذاكرة المدن والقرى، التي حافظت على طابعها القديم. هنا الغاط التي تركها شاعرها الحطيئة قبل اكثر من 14 قرناً لتبدو هي نفسها عندما كان لغط السيل يحدث دوياً في عرصات الوادي وقيعانه ليجرف الأحجار واوراق الاشجار التي تساقطت وسط الوادي المطلة عليه ومعها حملت المياه بعر الآرام التي كانت ترتع في السهل المقابل، لتأتي إلى هذه العرصات وتستظل بها وتجد طعامها ثم تخرج مخلفاتها في هذه العرصات، وتتحول الصورة فجأة إلى مشهد آخر عندما تنطلق براحلتك إلى «الغاط الجديدة» حيث تستقبلك المدينة بحلة جديدة وجميلة، بعد أن هجر سكانها منازلهم الطينية فوق سفوح الجبال ليقيموا مدينة حديثة ذات شوارع فسيحة ومضاءة ومشجرة ومبان في غاية البساطة والجمال، وتتحلق حولها جبال طويق كمعصم في يد امرأة جميلة وامامها تمتد رمال النفود بكثبانها الحمراء ومزارع القمح والنخيل على طول صحراء الحمادة، وعلى بعد 20 كيلومترا شرقاً من خشم العرنية الذي يبدو مثل تمثال «ابو الهول» ويطل على فضاء المدينة الواسع توجد بئر الشاعر المخضرم جرول بن أوس المعروف باسم الحطيئة وهي بئر تصارع من اجل أن تحتفظ بقطرة ماء عندما يسيل وادي مرخ الذي احتضنت ضفافه الشاعر وعائلته، لكن ايدي العابثين افقدت البئر معالمها بعد أن تعرضت لعملية دفن متعمدة وأصبحت مكاناً لجمع النفايات وهي اهانة بحق شاعر اشتهر بشعره القصصي وبهجائه المقذع لنفسه ولأمة وللناس وقادته إلى السجن، اضافة إلى مدائحه التي جعلت الملوك يقبلون على الزواج من بنات قبيلة كانت تحمل اسم «انف الناقة» فرفع الشاعر الحطيئة قدرهم عندما وصم الآخرين من القبائل الاخرى بالأذناب.

قوم هم الأنف والاذناب غيرهم ومن يسوى بأنف الناقة الذنب ولعل ما يستوقف المقبل إلى الغاط (230 كيلو متراً شمال الرياض) وهو يستخدم الطريق السريع الذي يربط العاصمة السعودية بمنطقة القصيم أو إلى الزلفي ثم إلى الكويت ومنه إلى معظم مناطق المملكة لعل ما يستوقفه هي دلة القهوة التي نصُبت في السهل الجبلي الذي يطل على المدينة وبالقرب منه نصب ايضاً ابريق الشاي بألوانه الخضراء الزاهية، لينحدر الطريق من المرتفع وتظهر المدينة بشوارعها الجميلة ومبانيها الحديثة ومزارعها التي تمتد على طول صحراء الحمادة وسط كثبان النفوذ ذات الرمال الحمراء التي تسر العابرين وتجبر البعض منهم على ايقاف مركباتهم ليغوص في الرمال، وعندما ينحرف الزائر بسيارته أثناء نزوله من «طلعة الغاط» فاٍنه سيمتع ناظريه برؤية المدينة عن قرب وأول ما يواجه الزائر منشأت نادي الحماده الذي سجل حضوراً لافتاً في دوري الدرجة الاولى في السعودية قبل سنوات وكاد أن يصعد إلى مصاف الاندية الممتازة، واشتهر بنشاطاته المتعددة اجتماعياً وثقافياً وعلى بعد امتار يستوقفك مبنى طيني حديث ذو طابع معماري لافت انه احد المراكز الثقافية الحديثة في السعودية الذي يضم مكتبة الرحمانية التي أمر بإنشائها الامير عبد الرحمن بن احمد السديري على أرض مزرعة موقوفة لوالديه، وليس ببعيد عنه يوجد معهد الغاط العلمي الذي خرج اجيالاً من ابناء الغاط اصبح لهم شأن في المجتمع من مسؤولين وسفراء وقضاة ومعلمين وصحافيين وكتاب، وعندما تسير عبر الطريق جنوباً تستوقفك لوحة كتب عليها طريق «أبا الصلابيخ» حيث تنتشر على جنباته مزارع حديثة تسقى بأجهزة الري المحورية، واذا واصل السالك للطريق الذي يخترق المدينة باتجاه الجنوب فإن أول ما يشاهده الزائر البلدة القديمة حيث قصر الامارة الشامخ بمبانيه الطينية وشرفاته وسواريه ومسجد العوسجه القديم، والمباني التي بنيت في منحدرات الجبال وامامها الوادي ومجاري السيول ومزارع النخيل ذات المساحات المحدودة، ثم ينجرف الطريق يميناً ليمر بالزويليه حيث كثيب رملي كان مرتعاً لطفولة السكان، وبئر القيعانية التي اشتهرت بحلو مائها، وعلى بعد امتار من الطريق يقبع خزان المياه القديم الذي كان يغذي القرية منذ عقود وعندما تسير متجهاً صوب الجنوب فإن الصورة تتغير لتفاجأ بوجود قرية تحدها الجبال من جهة الغرب ومزارع النخيل من جهة الشرق انها قرية الوسيعه التي حافظت على طابعها القديم وارتبطت مع سكانها بقصة عشق لن تنتهي فهذا احمد السعدون ابن القرية الذي لامس الثمانين يذرع شوارع القرية ونخيلاتها كل يوم ويصلح ما افسده الدهر في مبانيها ومزارعها، وعندما تترجل من سيارتك وتقابله يصطحبك اجبارياً في جولة على القرية ليشرح لك تاريخها، ثم يخرج مفتاحاً من جيبه ويأخذك إلى مسجد القرية الوحيد ليريك معالمه القديمة وسواريه وخلوته «البدروم» التي بنيت منذ عقود وما زال يقف شامخاً يصارع عوامل التغيير. وعندما تنطلق بسيارتك إلى اقصى الجنوب ستشاهد مزارع صغيرة على ضفاف وادي الغاط تسقى من آبار حفرها الاجداد وسط الصخور لينتهي بك المطاف في شلال القلتة الذي تتدفق منه المياه منذ مئات السنين مشكلة لوحة طبيعية في غاية الجمال.

ويقول محافظ الغاط عبد الله بن ناصر السديري وهو شاب قاد المحافظة إلى مستوى كبير من التطور خلال أشهر، أن قصة التحول في الغاط من قرية وادعة وسط جبال طويق إلى مدينة عصرية يمثل انموذجاً للتحول الذي طرأ على المجتمع السعودي ككل فالقرية التي كانت منازلها وشوارعها تضاء بالفوانيس والسرج وسكانها يوقدون النار داخل منازلهم من الحطب والجريد والخوص ويذهبون إلى الرياض لتصوير ابنائهم قبل دخولهم إلى المدرسة في محلات التصوير بالعاصمة لعدم وجود استديو للتصوير في قريتهم ولا يعرفون من وسائل الاتصال سوى الرسائل التي تسلم لمتعهد النقل من الرياض إلى الغاط وبالعكس، اصبحت الان مدينة عصرية فالاطباق الفضائية تنتشر في سطوح اغلب منازلهم والمطابخ داخل المنازل توقد بالكهرباء والمكرويف والشباب الذين كانوا يقرأون مجلة العربي واليقظة بعد صدورها بأشهر أصبحوا يلتقطون المعارف عبر الكومبيوتر والإنترنت بل ان مثل هذه الخدمة متوفرة في المنازل وفي المكتبة الجديدة بالمجان، ويشير السديري إلى ان الامير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء ورئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء امر اثناء زيارته للمحافظة قبل أشهر بانشاء مستشفى تخصصي في الغاط حيث يتطلع الاهالي إلى انجاز هذا المشروع الذي يخدم محافظة الغاط والمدن والمحافظات القريبة نظراً لما سيحققه وجود هذا المستشفى من ايجابيات والمتمثلة في علاج الامراض المستعصية واجراء البحوث الخاصة بالامراض وخصوصاً أمراض الكبد التي انتشرت في المنطقة بسبب وجود البلهارسيا رغم الجهود التي بذلت للقضاء عليها، وكما ان المحافظة تتفرد بوجود أول لجنة في السعودية للحفاظ على البيئة وتنميتها وساهمت في الحفاظ على الغطاء النباتي في المحافظة وتشجير آلاف من اشجار الطلح والسدر، وانشاء محمية خلف سد الغاط، كما يتطلع الاهالي إلى البدء في اقامة المركز الحضاري الذي يحمل اسم خادم الحرمين الشريفين وتبرع به الامير عبد العزيز بن فهد بن عبد العزيز يحتوي على صالات للمحاضرات ومسرح ومكتبة مكيف وأماكن استقبال وقاعات مختلفة.

ويقود السديري توجهاً لتطوير المحافظة من خلال تعاون جميع القطاعات الحكومية والاهلية ومن خلال الاعمال التطوعية، ولعل ابرز هذه الجهود اعتماد مخطط جديد للمدينة يحتوي على 1000 قطعة أرض وتوجيه الاهالي إلى البناء عليها سواء عن طريق القروض التي يمنحها صندوق التنمية العقاري أو عن طريق البناء الذاتي.

* مركز ثقافي تضمه مكتبة الرحمانية بالغاط يستخدم أبراج تبريد قديمة مع الإنترنت

* تم في الغاط افتتاح أحدث مكتبة في السعودية تحمل اسم مكتبة الرحمانية وتمثل مركزاً ثقافياً أمر بإنشائها الأمير عبد الرحمن بن احمد السديري على ارض مزرعة العرنية وأوقفها لوالديه. وتبلغ مساحة المزرعة الوقف أكثر من 185 ألف متر مربع، وبينت المكتبة التي ستكون مكتبة عامة لسكان المحافظة ومرتاديها والباحثين وطلبة العلم بمواد من البيئة مكونة من حجر الغاط وبالات التبن والأخشاب والطين وتتكون المكتبة من صالة المطالعة وقسم للأطفال وصالة للنساء وملحق مع المكتبة مسجد لأداء الصلوات. ويتم تبريد المكتبة والمسجد بواسطة أبراج التبريد وهي طريقة تبريد قديمة عرضت في نجد وأماكن أخرى في الجزيرة. ويتم الصرف على المكتبة من ايراد الخزينة الموقوفة ومن أبناء وبنات الأمير عبد الرحمن بن احمد السديري وبدأت المكتبة في تقديم خدماتها منذ ما يزيد عن ستة اشهر وهي تستقبل يومياً اعداداً متزايدة من أبناء وبنات الغاط وبلغ مجموع الزوار حتى الآن 3117 زائراً وزائرة وهم يأتون لقراءة الكتب والدوريات وتصفح الإنترنت. ويشرف على أنشطة المكتبة مجلس استشاري يرأسه محافظ الغاط ونخبة من أبناء الغاط المهتمين في تنمية المنطقة ثقافياً واجتماعياً وينعقد المجلس على مستوى شهري لإعداد الخطط الثقافية ومتابعة تنفيذها ومتابعة خطط وسياسات عمل المكتبة. كما بدأت الإدارات في الغاط والمنطقة المحيطة بالإفادة من خدمات المكتبة في إقامة الاجتماعات وورش العمل. ويوضح الدكتور سلمان بن عبد الرحمن السديري نائب رئيس المجلس الاستشاري لمكتبة الرحمانية بان تصميم المكتبة أخذ في الاعتبار البيئة الريفية المحيطة بها وسط أشجار النخيل وتحت هضبة طويق، فظهرت بطابع نجدي واضح المعالم بمبانيها الطينية وأقواسها المحلية، ومسجدها ذي المصلى المفتوح على الفناء ولكن مكتبة الرحمانية جمعت مع الاصالة الاستعداد للتجربة والتجديد إضافة إلى استعمال وسائل التقنية الحديثة، ولعل ابرز ما يميز هذا البناء هو استعمال مكعبات القش (بالات التبن المحلي) في تشييد الجدران وأبراج التهوية لتبريد المكتبة والمسجد ويحقق هذا الأسلوب في البناء رفع خواص العزل الحراري للجدران، واستعمال مواد من البيئة المحيطة وخفض تكلفة الطاقة المستخدمة للتبريد، وعموماً فان تصميم هذا المركز شكلا ومضموناً يلخص رسالته الأساس. ويضيف أن أبواب مركز الرحمانية الثقافي بكافة أجنحته وأقسامه مفتوحة أمام زواره من أبناء وبنات محافظة الغاط لينهلوا من معينه الثقافي وينتفعوا من خدماته التي يقدمها في المجالات الثقافية المختلفة إيماناً من مؤسس هذا المركز بأهمية توفير المناخ الملائم لانطلاق جيل قادر على الإبحار في محيط الفكر والمعرفة الواسع ليفوز بكنوزها ونفائسها وليكون مؤهلاً لإنتاج المعرفة والبحث العلمي. وتتكون مكتبة الرحمانية من مبنيي المكتبة والمسجد وتضم المكتبة صالة الاستقبال ومكتبة الطفل وقاعة المطالعة والدوريات وأجهزة الكومبيوتر إضافة إلى مستودع الكتب، كما يضم مبنى المكتبة صالة متعددة الأغراض، تستخدم عند الحاجة للنشاطات الثقافية (المحاضرات والندوات) وفي غير ذلك تستخدم كقاعة أو مكتبة نسائية وقد روعي في تصميم المكتبة استخدام الإنارة الطبيعية من الأعلى وإنارة ضوئية تنسجم مع الطراز المعماري والفراغات الداخلية للمبنى وتتسع قاعات المطالعة داخل المكتبة لحوالي أربعين مطالعاً إضافة إلى قسم الأطفال الذي يتسع لـ20 طفلاً ويرتبط المسجد بمبنى المكتبة من خلال رواق مغطى. وتتكون مجموعة الكتب في مكتبة الرحمانية من الأوعية والدوريات ما يتفق مع وظيفتها كمكتبة عامة تخدم مجتمع الغاط. ويضم المركز قاعة مخصصة للمحاضرات والندوات والاحتفالات ضمن برنامج الأنشطة الثقافية الذي سينفذه المركز للمجتمع المحلي وتستخدم هذه القاعة في غير أيام النشاطات الثقافية كمكتبة نسائية. وتبدأ حديقة مكتبة الرحمانية بالمسطحات الخضراء وأشجار الضلال ونافورة المياه الجارية في واجهة المركز وتنتهي ببستان النخيل المحيطة بالمكتبة وتبلغ مساحة الحديقة بما في ذلك البستان 185850 وقد أسس الأمير عبد الرحمن بن احمد السديري بستان العرنية ووقفه لوالديه ويضم البستان 1000 شجرة من أنواع النخيل المعروفة في المنطقة، وتضم الحديقة اشجاراً متنوعة من النخيل وأشجار الزينة التي تناسب أجواء المنطقة منها الاكاسيا والفيكس واليزالبخ وبعض أشجار البرتقال وقد روعي في تصميم الحديقة بقاؤها من غير أسوار حتى تكون زيارتها متاحة دائماً للمقيم الزائر.

ويضم المركز جناحاً خاصاً بالطفل تتوافر فيه الكتب والدوريات الخاصة بالطفولة والأطفال إضافة إلى المواد التربوية والتعليمية المناسبة لهم.