واشنطن تسعى لتعاون أوروبي وأطلسي على مبادرة لجعل تطوير الديمقراطية أولوية الغرب في الشرق الأوسط

TT

كشفت مصادر مطلعة ان ادارة الرئيس الأميركي جورج بوش اطلقت مبادرة طموحة تهدف الى تطوير الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط الكبرى بغرض تبني نموذج يستخدم للضغط من اجل توفير الحريات على غرار ما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق ومنطقة شرق اوروبا. وقال مسؤولون اميركيون ان كبار مسؤولي البيت الابيض ووزارة الخارجية بدأوا محادثات مع دول حليفة رئيسية في القارة الاوروبية حول خطة رئيسية توضع للمناقشة صيف العام الحالي أمام قمة الدول الصناعية الثماني وحلفاء الناتو والاتحاد الاوروبي. وتأمل الولايات المتحدة في الحصول على التزامات باتخاذ خطوات من جانب دول في الشرق الاوسط وجنوب آسيا بهذا الشأن. ومن جانبه قال مسؤول رفيع بوزارة الخارجية ان ما يحدث الآن يعتبر تغييرا هائلا في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع الشرق الاوسط، وأضاف قائلا ان واشنطن تأمل في تحديد بعض مبادئ الاصلاحات خلال المحادثات مع حلفاء الولايات المتحدة في اوروبا خلال الاسابيع القليلة المقبلة مع طرح افكار محددة حول كيفية دعم هذه الاصلاحات. ومن المعتقد ان تفاصيل هذا المشروع لا تزال قيد الصياغة، بيد ان المبادرة، التي من المقرر الكشف عن تفاصيلها خلال قمة الدول الصناعية الثماني التي تستضيفها الولايات المتحدة في «سي آيلاند» في يونيو (حزيران) المقبل، ستناشد الحكومات العربية وحكومات دول جنوب آسيا بتبني اصلاحات سياسية وتحمل المسؤوليات فيما يتعلق بحقوق الانسان، وعلى وجه الخصوص منح سلطات للنساء، فضلا عن إدخال اصلاحات اقتصادية. وسعيا لحمل دول منطقة الشرق الاوسط وجنوب آسيا على التعاون في هذا الشأن، من المتوقع ان تعمل الدول الغربية على تحفيز الحكومات المعنية من خلال إغرائها بتوسيع المشاركة السياسية وزيادة نسبة المساعدات وتسهيل منح عضوية منظمة التجارة العالمية ورعاية الترتيبات الامنية من خلال تبنى مشاريع مثل «الشراكة من اجل السلام» مع دول الكتلة الشرقية السابقة. وكان ديك تشيني، نائب الرئيس الاميركي، قد اشار الى هذه المبادرة الشهر الماضي في حديثه أمام منتدى دافوس الاقتصادي بسويسرا عندما قال ان «الاستراتيجية التي تحظى بأولوية اكبر لدى الولايات المتحدة هي التي تفرض عليها التزامات بتأييد من يعملون ويضحون من اجل الاصلاحات في الشرق الاوسط»، وأضاف ان |الولايات المتحدة تود ان تناشد اصدقاءها الديمقراطيين وحلفاءها في كل مكان وعلى وجه الخصوص في اوروبا بالانضمام اليها في هذه المساعي. ويبدو ان نهج الولايات المتحدة في هذا الشأن قائم على اساس اتفاق هلسنكي لعام 1975 الذي وقعت عليه 25 دولة، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق وكل الدول الاوروبية تقريبا. وكان الميثاق المذكور يهدف الى الاعتراف بحدود الحرب العالمية الثانية المتنازع عليها وتأسيس آلية لتسوية الخلافات الاخرى، إلا ان حقوق الانسان والحريات اصبحت أجزاء اساسية من الاتفاق، مما منح الغرب نفوذا لدعم وحماية المجموعات المنشقة في الكتلة الشرقية وحث الحكومات على منح المزيد من الحريات للسكان.

وكان مسؤول بوزارة الخارجية الاميركية قد اشار الى ان اتفاقية هلسنكي ساعدت في توحيد اوروبا ولعبت دورا مهما في تفكيك الاتحاد السوفياتي، معربا عن امله في ان تؤدي المبادرة الاميركية الى «القضاء على ظاهرة الإقبال على التطرف الاسلامي»، على حد تعبيره. ويقول مسؤولون اميركيون انه على العكس من اتفاقية هلسنكي، فإن مبادرة الإصلاحات الاميركية ازاء منطقة الشرق الاوسط الكبرى تسعى الى تحاشي تكوين لجان وهيئات لمراقبة ما يتم احرازه من تقدم واصدار تقارير المتابعة، كما تسعى المبادرة ايضا الى تحاشي ما يدفع الى النظر اليها وكأنها إملاءات على العالم الاسلامي. وفي السياق ذاته قال مسؤول رفيع في ادارة بوش: «الغرض الاساسي من هذه المبادرة ليس طرح مقترحات تحمل الدول المعنية بالاصلاحات على تبني طريقة حياة يفرضها عليها الغرب. المبادرة لا تقوم في اساسها على إبلاغ هذه الدول بما ينبغي عليها فعله بل ابلاغها بأن الغرب يسمع اصواتا تنادي بالاصلاحات والديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط الكبرى مع توضيح الاشياء التي نفعلها من اجل تأييد ودعم هذه الاصوات».

تجدر الاشارة الى ان الولايات المتحدة تعتزم خلال مؤتمرات القمة الثلاثة في يونيو (حزيران) المقبل دفع الدول الحليفة الى الموافقة على قواعد الاصلاحات الاقتصادية والتغييرات الامنية والطرق اللازمة لتنفيذها، وهي القواعد التي حددها العرب انفسهم في تقريرين لبرنامج التنمية التابع لمنظمة الامم المتحدة. واشار مسؤول الى ان قمة الدول الصناعية الثماني وحلف الناتو والاتحاد الاوروبي ستركز على القضايا الاكثر ارتباطا بأهدافها. اما عملية النظر والمتابعة، فمن المقرر ان يجري تناولها في مؤتمرات القمة التالية. من جانبه قال دبلوماسي دنماركي ان الجانب الاساسي في هذا المشروع هو جعل الدول الاسلامية تشعر بأنها صاحبة الامر، فيما اشار مسؤولون اوروبيون واميركيون الى ان الحكومتين الكنديتين قد عملتا بجدية في هذه القضية، ومن المتوقع ان تطرحا من جانبهما مسودة مقترحات خاصة بهذه القضية. ويقول مسؤولون اميركيون ان الهدف العام للادارة الاميركية يتمثل في «وضع النقاط على الحروف في ما يعلق بمناشدة الرئيس بوش الخاصة بإحداث تغيير سياسي في العالم الاسلامي»، وهو التغيير الذي حدد جوانبه في حديثين له خريف العام الماضي في كلمته أمام «المؤسسة الوطنية للديمقراطية» وخلال زيارته الاخيرة الى لندن. يشار الى ان الادارة الاميركية كانت قد تعهدت مسبقا بأن إطاحة صدام حسين وإقامة دولة فلسطينية ستصبحان حافزا لتقدم الديمقراطية، بيد ان مسؤولين اوروبيين واميركيين يرون ان واشنطن آثرت، في ظل تعثر كل من عملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي والاوضاع السياسية في العراق، تجاوز كليهما القفز باتجاه إحداث تغيير في المنطقة بكاملها.

فيما يعتقد شبلي تلحمي، زميل «معهد بروكينغز» ومستشار الادارة الاميركية في بعض جوانب «مبادرة منطقة الشرق الاوسط الكبرى»، ان المبادرة تعكس نظرة الادارة الاميركية الى ما يتجاوز مناطق النزاع الى إضفاء طابع شامل على سياسة التغيير في المنطقة بكاملها. ويرى مسؤولون اميركيون واوروبيون ان الحكومات الاوروبية تؤيد بصورة عامة هذه الفكرة، إلا انها تشعر بشكوك بدرجات متفاوتة ازاء ما اذا سينجح نموذج اتفاق هلسنكي في منطقة الشرق الاوسط. يضاف الى ما سبق ان الدول العربية ربما تجد ان مسألة التغيير السياسي امر عسير طالما ظل النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي بلا حل. وهناك ايضا من يعتقد، بين المسؤولين الاميركيين، بان المبادرة لا تعتبر بأية حال بديل في حد ذاتها، اذ ان مسؤولا في ادارة بوش اعرب عن اعتقاده في انها ستكون عاملا مساعدا في دفع عملية السلام رغم عدم اقتناع بعض الدول الاوروبية. وأضاف المسؤول انه يتوقع ان ترتفع بعض الاصوات محذرة من احتمال ظهور اكثر قوة للتطرف الاسلامي في المنطقة في حال تطبيق النظام الديمقراطي على دول المنطقة. وأشار المسؤول الى انهم يقرون بمخاطر التعجل في تطبيق الديمقراطية، مؤكدا اهمية تحقيق التقدم في هذا الجانب بخطى متوازنة على مدى فترة زمنية كافية مع تأسيس الجهات المعنية بالمراجعة والضبط داخل هذا النظام. والحذر من جانب الاتحاد الاوروبي ازاء هذه القضية نابع في الاساس من الحوار والتواصل بينها والدول العربية في منطقة البحر الأبيض المتوسط مما اسفر عن احراز نجاح في مجالات مثل التعليم والصحة، في حين ان التأثير كان هامشيا على المجال السياسي. واعرب مندوب اوروبي عن الترحيب بهدف المبادرة الاميركية، لكنه اشار الى «ضرورة اطلاع الجانب الاوروبي على كيفية تخطيط الاميركيين للوصول الى هذا الهدف». وفي ذات السياق اضاف معلقا انهم ظلوا يحاولون تحقيق مثل هذه الاهداف على مدى فترة من الزمن، مؤكدا ان «جهود التحديث لا تنساب بسهولة الى الجانب السياسي».

ويؤكد مراقبون ان فكرة تطوير «هلسنكي اوسطية» ظلت على مدى فترة طويلة مدرجة في اجندة مراكز الدراسات والبحوث في اوروبا والولايات المتحدة.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»