الجيش الأميركي يحارب على جبهة ايجاد وظائف للعراقيين أيضا

ضباط يبحثون في كل مبنى وشارع ومعمل عن فرص عمل لمئات الآلاف من العاطلين

TT

يقود الليفتنانت كولونيل في الجيش الأميركي هيكتور مارابيلي، 46 سنة، قواته في واحدة من أخطر المناطق بالعراق. فعليه أن يفحص يوميا عددا ضخما من التقارير الاستخبارية ويخطط الهجمات والمهام الأخرى على اساسها. وهو يفعل ذلك مع الحرص على تفادي مدافع المورتر والقنابل الصاروخية الدفع وطلقات الرصاص من كل مكان. ولكن المهمة التي تأخذ النصيب الأكبر من طاقته العقلية هي إيجاد الوظائف الجديدة. وهو عندما يرى مبنى مدمرا، يفكر أن هذه وظيفة واحدة، وعندما يرى خطا كهربائيا معطلا فمعنى ذلك وجود 15 وظيفة، كما يرى 200 وظيفة عندما يرى جانبا من الشارع العام مغطى بالحفر والمطبات.

ومثله مثل القادة العسكريين في الأماكن الخطرة الأخرى، يعتقد مارابيلي ان أفضل سلاح لمحاربة التمرد الذي يقتل كل يوم جندياً واحداً على الأقل، هو التوظيف. ويقول هو وآخرون غيره إن إيجاد فرص العمل لعشرات بل مئات الرجال الغاضبين يقلل من فرص التحاقهم بحركة التمرد. قال مارابيلي من الكتيبة 124، من الحرس الوطني بفلوريدا «هناك علاقة مباشرة بين معدلات البطالة والهجمات».

واتضح أن جهود مارابيلي جزء من حملة ضخمة لبرنامج الأشغال العامة، أي نوع من الصفقة الجديدة بالنسبة للعراق. وتوظف سلطة الاحتلال والقوات المسلحة الأميركية، والسلطات والوزارات العراقية مئات البشر في كنس الشوارع وإقامة الحدائق وإصلاح إشارات المرور وإزالة شعارات الحائط، وترميم المدارس والمكتبات وغيرها من المباني العامة والعمل في مشاريع إعادة البناء التي لا يحصيها العد. ويأتي التمويل من مليارات الدولارات التي تبرع بها عدد من الدول من أجل إعادة تعمير العراق.

عندما وصلت قوات الاحتلال إلى العراق بعد الحرب، وهي تستعد لتحويل البلاد إلى نموذج رأسمالي في الشرق الأوسط، كان القادة العسكريون يتوقعون أن تضطلع الشركات الخاصة بكل أعمال إعادة التعمير وتوظف أعدادا كافية من العاملين. ولكن شهورا من العنف جعلت القطاع الخاص يحجم عن المجيء إلى البلاد. وبالنظر إلى أن نسبة البطالة في العراق تقدر بما بين 30 إلى 70%، فإن سلطة التحالف تبذل قصارى جهدها لتوفير الوظائف. ويتوقف نجاح الاحتلال كما يعتقد كثير من المسؤولين على إيجاد الوظائف وإصلاح الأشياء.

وفي الشهر الماضي افتتحت ثمانية مراكز للتشغيل من بين 28 مركزا تخطط الحكومة لإنشائها في كل أنحاء البلاد. وهدف هذه المكاتب هو إنشاء قاعدة معلومات يمكن أن توازن بين الوظائف المتوفرة وتلك التي ستظهر في المستقبل وبين أعداد طالبي العمل. وقد دشنت سلطة التحالف في مدينة الموصل الشمالية برنامجا سمته «برنامج 100 ألف وظيفة» تموله وكالة المعونة الأميركية. وقالت الحكومة في بغداد إنها وفرت أجهزة الكمبيوتر والتدريب اللغوي. وقد تركز أغلب هذه الجهود في منطقة الأنبار، وهو امتداد صحراوي غرب بغداد، تسكنه مجموعات كانت موالية للرئيس المخلوع صدام حسين. وقد أنفقت سلطة التحالف والسلطات العسكرية أكثر من 36 مليون دولار، خلال الشهور الستة الماضية، على مشاريع من شاكلة إصلاح مضخة للمياه وتوسيع مصنع لإنتاج الفسفور وبناء مركز قضائي وإعادة ترميم مصنع للزجاج يشغل أكبر عدد من العمال بالرمادي.

ومثلما اثار برنامج الرئيس فرانكلين روزفلت، لإخراج أميركا من الكساد الكبير في الثلاثينات، كثيرا من الجدل، فقد فجرت هذه الجهود لخلق الوظائف جدلا حاميا حول ما تعنيه بالنسبة لمستقبل العراق. وقال نوري جعفر وكيل وزارة العمل العراقية، إنه يعتقد أن العمل الحر هو مستقبل العراق، ولكنه يعتقد كذلك أن الإقتصاد سيكون مختلطا بين الرأسمالية والاشتراكية، ولن يكون ذلك المجتمع الرأسمالي الذي تصوره المخططون الأميركيون في البداية. وقال نوري جعفر: «الإقتصاد الحر هو الأفضل، ولكن نسبة للمشاكل التي ورثناها من صدام حسين، فإننا يجب أن نقيم نظاما من الضمانات الحكومية، على الأقل لفترة من الزمن».

وعلى سبيل المثال، فإن مؤسسة الدولة للزجاج والسيراميك، الواقعة عبر الفرات من القصر الذي كانت تقيم فيه قوات مارابيلي، تعد من بقايا الخمسينات. وهي تصهر الزجاج في أفران تشبه كمائن الطوب. ويتناول العمال في أزيائهم الزرقاء المتربة ألواح الزجاج الخارجة من الفرن بأيديهم العارية. وتنتشر شظايا الزجاج في كل مكان.

وكانت تقديرات سلطة التحالف ووزارة الصناعة والمعادن والبنك الدولي واضحة حول مصير هذا المصنع في مجتمع رأسمالي. ويقول التقييم الذي صيغ وقتها إن تدريب العمال « متدن جدا» وأن 25% من إنتاج المصنع عبارة عن نفايات، وهي نسبة عالية بصورة غير عادية، كما أن المصنع بعيد تماما عن الربحية. وجاء في تقرير البنك الدولي إن «هذا المصنع غير قابل للانقاذ في اقتصاد حر، فهو متدني الكفاءة والنوعية. ويجب إغلاقه مباشرة».

ولذلك فإن المصنع الذي لم يلحقه أي ضرر اثناء الحرب أو بعدها، اغلق بسبب نقص الطاقة الكهربائية والغاز. لكن بنهاية الصيف فكر مارابيلي ومعه قائدان آخران مسؤولان عن الرمادي، أن هذا المصنع إذا أعيد افتتاحه فإنه يمكن أن يوفر وظائف لحوالي 5000 عامل. ولذلك أرسلوا مهندسين حربيين ومعهم 20 ألف دولار نقدا لإعادة تعمير المصنع. ووفرت سلطة التحالف الكهرباء بينما وفرت وزارة المالية قرضا بمقدار 1.5 مليون دولار. وهو مبلغ لا يعتقد مديرو المصنع أنه يمكن أن يرد لأن المصنع خاسر على الدوام. وبدأت الإصلاحات في اغسطس (آب)، وفي نوفمبر تشرين الثاني عاد المصنع ينتج الزجاج من جديد. وقال فؤاد أنيسي، 43 سنة، المدير العام للمصنع «إذا أغلق هذا المصنع أبوابه فإن الوضع في الرمادي ستعمه الفوضى». وقال عابد إسماعيل ظاهر، 51 سنة، فني آلة الشرائح الزجاجية، إنه إذا فقد وظيفته سيصيبه اليأس وأنه سيفعل كل ما يعرض عليه لإعاشة اسرته. وقال ظاهر «هذا المصنع بيتي ولقمتي وهو كل شيء في حياتي».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ(«الشرق الأوسط»)