«الشرق الأوسط» تزور أول مدرسة إسلامية داهمتها فرقة مكافحة الإرهاب البريطانية

دار العلوم الإسلامية ببلاكبيرن: خريجونا أئمة معتدلون وطلبة عرب يدرسون في المدرسة * دهشة بين أوساط الطلاب حول اعتقال ساجد بادات بتهمة الإرهاب * الشيخ عبد الصمد مدير المدرسة: «طلبتنا لا يعرفون العنف»

TT

منذ ان داهمت فرقة مكافحة الارهاب البريطانية مدرسة «دار العلوم الاسلامية» في مدينة بلاكبيرن بمقاطعة لانكشاير لاعتقال احد طلبتها المشتبه في انتمائه الى «القاعدة» بزعم انه مهاجم انتحاري بعد العثور على كمية ضئيلة نسبيا من المتفجرات في منزله، تحولت المدرسة الى ما يشبه المزار السياحي. وعندما سألت سائق التاكسي امام محطة بلاكبيرن بعد رحلة الى مدينة بريستون استغرقت نحو ثلاث ساعات بالقطار السريع، عن مسجد شارع موس، سألني هل انت ذاهب لصلاة الجمعة ام لزيارة مدرسة «العلم والهدى» الثانوية، وهو الاسم الشائع بين سكان المدينة عن المدرسة الداخلية الثانوية الملاصقة لمسجد كبير تحت الانشاء، ولم يتحدث السائق الاسيوي عن فريق بلاكبيرن الساعي الى تحسين مركزه في الدوري الانجليزي الممتاز، وهي اللغة السائدة المشتركة التي يفهمها سكان المدينة الهادئة. وتحدث السائق عن الجالية المسلمة المتنامية، باعتباره احد افرادها، والهجمة الاعلامية بعد اعتقال ساجد بادات طالب مدرسة «العلم والهدى» بتهمة حيازة كمية من المتفجرات، والمقرر مثوله امام محكمة الجنايات المركزية «الاولد بيلي» يوم 14 ابريل (نيسان) المقبل. «الشرق الأوسط» زارت مدرسة «العلم والهدى» بعد عديد من الاتصالات الهاتفية مع مدير المدرسة الشيخ عبد الصمد احمد او «مفتي عبد الصمد» كما يناديه الطلبة والاساتذة في قاعات العلم. ومفتي عبد الصمد حاصل على الدكتوراه في الفقه والشريعة من الهند، وهو من اوائل خريجي اقدم مدرسة لدار العلوم الاسلامية في بريطانيا بمدينة باري القريبة من بلاكبيرن. الوضع داخل المدرسة الاسلامية التي افتتحت يوم 31 اغسطس (اب) عام 1979، وهو نفس اليوم الذي لقيت فيه ديانا اميرة ويلز حتفها تحت احد انفاق باريس في حادث سيارة برفقة دودي نجل رجل الاعمال المصري محمد الفايد، لم يتغير كثيرا عما كان عليه بعد مداهمة فرقة مكافحة الارهاب، الطلاب من جميع الجنسيات وهم في تحصيل علمي متواصل طوال النهار. والعرق الاسيوي هو الغالب على الطابع العام للمدرسة من طلبة ومدرسين ولغات متداولة، مع جانب للعربية وجزء اكبر للانجليزية باعتبارها اللغة الام، حتى المطبخ والطباخ واصناف الطعام لم تخل من نكهة الكاري الحارة والشيباتي والساموسا. وتعتبر مدرسة «العلم والهدى» واحدة من خمس مدارس ببريطانيا تسير على نهج جامعة «دار العلوم الديوبندية» بالهند، وهي أكبر وأقدم جامعة إسلامية أهلية في شبه القارة الهندية تأسست عام 1867 بمدينة ديوبند شمال الهند، على بعد 150 كيلومترا، من العاصمة دلهي. ومدرسة «العلم والهدى» حسب مديرها متخصصة في تخريج ائمة ودعاة، الانجليزية هي لغتهم الاولى ويجيدون العربية والاوردو لوعظ وارشاد اكثر من مليوني من ابناء الجالية المسلمة في بريطانيا. مدير المدرسة هو الشيخ عبد الصمد احمد ويتراوح عدد طلبتها 340، جاء الى بريطانيا عام 1974، ولكنه اضطر الى الذهاب الى موطنه الاصلي الهند للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم الشرعيه والفقهية. يعتبر مفتي عبد الصمد بالنسبة لتلاميذه بمثابة «الأب الروحي» لهم وعلاقته بهم لا تنتهي عند حدود مواعيد الفصول الدراسية التي تشمل المناهج الدراسية البريطانية، بالاضافة الى الفقه والسنة النبوية والشريعة والحديث، وتجويد القرآن الكريم على ايدي اساتذة متخصصين. ومن الاساتذة المتخصصين في المدرسة مولانا عبد الحق زيارات، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في «المعاملات الاسلامية بلا ربا»، من كراتشي عام 1951، ويدرس الطلبة الفقه والحديث. ويبيت في المدرسة نحو 140 تلميذا في القسم الداخلي بالمدرسة من جنسيات مختلفة، بينهم طالب سعودي واحد من جدة، اسمه عبد الرحمن غزالي يبلغ من العمر 15 عاما، في الصف الاول الثانوي يحلم ان يكون طيارا، وقد اقترب من حفظ القرآن الكريم، وهناك طلبة من عمان من بينهم احمد المسكري الذي يأمل ان يكون مهندسا متخصصا في قطاع النفط على خطى والده، واخر مغربي اسمه عمر حساني جاء من اقصى شمال اوروبا من النرويج لتعلم الفقه والشريعة، ويأمل ان يكون داعية لله بالتي هي احسن، رافعا شعار «وجادلهم بالتي هي احسن». في غرفة مدير المدرسة التقيت الطالب السعودي غزالي، الذي لا يشعر بالغربة فهو بين اقرانه واخوانه في الله، وعمه على مقربة منه حيث يعمل في اسكوتلندا، ويذهب غزالي في الاجازات الى عائلته في جدة. وعندما سألته عن الوظيفة التي يحلم بها، قال بجرأة نادرة «ان شاء الله ساكون طيارا»، وارتسمت علامات الخوف على عيني مدير المدرسة، خفيض الصوت، وقلت له «ألا يكفينا من الطيارين ياعبد الرحمن!»، في اشارة الى هجمات سبتمبر(أيلول) 2001، ورد مدير المدرسة بدبلوماسية، «ان عبد الرحمن حافظ جيد للقرآن الكريم ومعانيه، وارشحه ان يكون داعية لله في اوروبا للاسلام الذي يحمل معاني الخير والحب والسلام للبشرية جمعاء». اما احمد المسكري الطالب العماني في الصف الثانوي يأمل ان يكون على خطى والده مهندسا نابها في قطاع النفط، ويقيم احمد مع والدته في بلاكبيرن. والمدرسة هي على غرار مدرسة «دار العلوم» في مدينة باري القريبة التي تأسست عام 1973، وتخرج فيها مدير المدرسة الحالي مفتي عبد الصمد. وضمن الطلبة النابهين، قدم مدير المدرسة محمد طيب الحافظ للقرآن الكريم بقراءات سبع مختلفة وقد ذهب من قبل لإمامة المسلمين في هيوستن وتكساس، وهو زميل ساجد بادات الذي اعتقل بتهمة الارهاب في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وهناك ايضا الطالب خالد ابراهيم الحافظ لـ12 جزءا من القرآن الكريم، ويتميز خالد بعمامته البيضاء الطويلة. والوضع بالنسبة لتلقي العلوم الاسلامية في مدرسة «العلم والهدى» لم يتغير كثيرا عن الكتاتيب في البلاد العربية، ففي صحن المسجد يجلس امام كل عمود شيخ، ويتحلق حوله الطلبة يستمعون الى الدروس المختلفة في الفقه والشريعة والتجويد بالقرات السبع والحديث او الاردو او العربية او الشعر في مدح النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم). وفي غرفة مدير المدرسة من الصعب ملاحقة عيني مفتي عبد الصمد اللتين تلاحقان طلبته على شاشات تلفزيونية مثبتة على حلقات الدرس. ويمضي الطلبة النصف الاول من النهار في تلقي العلوم الاسلامية، حتى ما بعد صلاة الظهر، وبعدها ينتقل الطلبة لدراسة الرياضيات والتاريخ والانجليزية والعلوم المقررة حتى مستوى الثانوية العامة. وفي صحن المسجد يتناول الطلبة ايضا الغداء والعشاء المكون من اللحم والارز والكاري والزبادي والحلو بعد فرش ارضية المسجد بفراش خاص. ومدرسة «العلم والهدى» لم تكن على الخريطة او معروفة، وكانت على الارجح اشبه بـ«جيتو» تعليمي صغير لابناء الجالية الاسلامية حتى داهمتها شرطة مكافحة الارهاب البريطانية في نوفمبر الماضي، بحثا عن ادلة في غرفة ساجد بادات ابن 24 عاما، المتهم بحيازة متفجرات، واضطرت المدرسة الى الدفاع عن نفسها في مواجهة الهجمة الاعلامية الشرسة. ويقول لقمان مدرس العلوم: «الجهل بالاسلام يولد الخوف منه، لقد آن الاوان لفتح قنوات اتصال مع المجتمع البريطاني، لا نريد ان نعيش في عزلة عما حولنا». ويضيف «اننا نقدم خدمة كبيرة للمجتمع البريطاني لاننا نشرف على تخريج ائمة ودعاة، من ابناء هذا البلد الذي نعيش فيه، يجيدون الانجليزية ويفهون ثقافته ويحافظون على قانونه ولا يتخطونه لانهم من ابنائه في المقام الاول». من جهته، يقول عبد الصمد اننا نشجع الطلبة على التواصل والاندماج في المجتمع البريطاني الذي نعيش فيه. ويضيف: «اذا فهم الطلبة الاسلام فهما صحيحا فانهم سيكونون مكرسين وقتهم وجهدهم لخدمة المجتمع البريطاني الذي يعيشون فيه». والقى طالب في الصف الثانوي العام خطبة الجمعة امام جمع غفير في مسجد المدرسة، بلغة عربية فصيحة من ورقة بين يديه تحدث فيها عن يوم القيامة قائلا: «لو حاسب كلّ واحد منَّا نفسه وحاول الرجوع إلى ما مضى من عمره الذي مرَّ كلمح البصر وما عمله في ذلك العمر من القربات أو ما ضيَّعه من الأوقات لوجد النتيجة جد محزنة ـ إلاَّ من رحم الله تعالى». وشبه الدنيا التي نعيش فيها بانها مثل ظل شجرة او محطة قصيرة «وتحدث ايضا عن البعث والنشور وتكوير الشمس وتناثر النجوم والنفخ في الصور وحشر الخلائق وأحاديث الشفاعة وانواعها والمرور على الصراط».

* الهدف تخريج أئمة ودعاة يعرفون مشاكل المجتمع

* تحدث الشيخ عبد الصمد العائد من الحج منذ ايام قلائل بعد اصراره على تقديم كأس من ماء زمزم وتمرات قليلة حملها معه من مكة المكرمة، عن طلبته الذين سيتشرف انهم سيكونون دعاة حقيقيين لإسلام لا يعرف العنف، بل يدعو الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويرفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويشير الى ان الهدف من المدرسة هو تخريج ائمة ودعاة ومدرسين في العلوم الاسلامية يعرفون مشاكل المجتمع البريطاني، ويسعون الى حلها باعتبارهم ابناء هذا البلد. ويقول ردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط» حول تدريس مواد مثل الولاء والبراء أي الحب في الله والبغض في الله والجهاد في سبيل الله باعتباره ذروة سنام الاسلام، وهما قاعدتان من قواعد الدين وأصل من أصول الإيمان والعقيدة كما يعرف في ادبيات الاصوليين، يقول الشيخ عبد الصمد «لا نركز كثيرا على مثل هذه الامور، لان هدفنا في الاساس هو تخريج دفعات من الائمة المعتدلين». وبالنسبة لمستوى النتائج بالنسبة لنهاية مرحلة الثانوية، يقول الشيخ عبد الصمد «انها الافضل في مقاطعة لانكشاير». وتحدث عبد الصمد عن المسجد الذي تكلف تشييده نحو 800 الف استرليني بالجهود الذاتية من ابناء الجالية المسلمة، فقال «ان المسجد يتسع لنحو الف مصل، وهو يضم غرفا وقاعات للدراسة ومكتبة وغرفة كومبيوتر. وافتتاح المسجد يحتاج على الاقل الى مائتي الف استرليني، وسيكون بمثابة اضافة جديدة للصرح الايماني في بلاكبيرن». ويعتبر كثير من الطلبة، من زملاء ساجد بادات، ان اعتقاله احدث الصدمة في نفوسهم، فقد ذهب في اجازة في شهر رمضان لإمامة المسلمين في صلاة التراويح بمسجد النور في مدينة جلوستر التي كان يعيش فيها لانه من الحافظين الجيدين للقرآن. وادى اعتقال ساجد الى اخلاء حوالي مائة منزل ومسجد في المنطقة المحيطة بشقته بغلوستر.

* صدمة بعد اعتقال ساجد

* يقول زميل لساجد محمد بادات «لقد اصبنا بصدمة من التقارير الاعلامية التي اشارت الى ان هذا الطالب الهادئ كان يخطط لهجوم انتحاري خلال مباراة لكرة القدم في ملعب اولد ترافورد الخاص بفريق مانشستر يونايتد». ويقول زميل له في الصف الدراسي طلب عدم الكشف عن اسمه «ان ساجد رغم انه كان خطيبا مفوها في صلاة الجمعة لكنه لم يكن يتحدث عن مسائل مثل الجهاد في سبيل الله او الولاء والبراء، وهي من الامور التي بات الحديث عنها شائكا بعد هجمات سبتمبر». ويتذكر موعظة لساجد حول حقوق الوالدين والعلاقة مع الابناء، قائلا: «ان على الأبناء احترام آبائهم وجزم تماما بأنه بريء براءة مطلقة مما نسب اليه». ويكشف لـ«الشرق الأوسط» ان ساجد ذهب قبل عام لامامة المسلمين في الولايات المتحدة خلال شهر رمضان. وأدى اعتقال ساجد الى إثارة الحيرة والارتباك بين أصدقائه وزملائه في الصف الدراسي والذين تحدثوا عنه كشخص عذب ولين الحديث ويحظى بالاحترام والتقدير. وقال عنه مدير المدرسة «انه صبي هادئ ملتزم بعقيدته»، مضيفا «أنه كان ملتزما في دراسته، وكان يظهر النضج ويتحلى بالأدب». واشار الى انه التقى والده في حج هذا العام واطمأن عليه. ووصف زميله محمد الطيب لـ«الشرق الأوسط» ساجد بانه ذلك الشاب اللامع والخجول، الذي يريد ان يتخرج اما إماما وإما مدرسا وإما باحثا اسلاميا. وقال «كان افضلنا في حفظ القرآن، وكنا نامل الكثير منه». واوضح زميل اخر لساجد انه تلقى منه منذ اسابيع رسالة من سجنه في ميلتون كينز، اشار فيها الى «ان فترة السجن امتحان واختبار من الله وربما تخليص ذنوب، وعليه ان يصبر ويحتسب، قبل يوم الامتحان الاكبر الذي لاينفع فيه مال ولا بنون». وذكر ان اعتقال ساجد جاء قبل اسبوع واحد عن موعد زواجه بفتاة هندية مسلمة، موضحا ان خطيبته لم تتخل عنه وما زالت في انتظاره. وولد بادات لأسرة مسلمة ملتزمة انتقلت من مالاوي للعيش في بريطانيا في الستينات واستقرت في مدينة غلوستر حيث أبصر النور هناك، وبعد ان ترك المدرسة تدرب ليكون أحد الدعاة في باكستان، حيث يعيش فيها بعض من أفراد أسرته وزار كلا من الهند والسعودية، وليس من الواضح ما إذا كانت مفاهيمه الدينية قد سبقت أسفاره، أم انه اعتنقها في باكستان». وبعد ان عاد الى بريطانيا سنة 2001، التحق بكلية تضم مائتين وخمسة وعشرين طالبا في بلاكبيرن، وعثر في غرفته داخل الكلية على خريطة لدول العالم الإسلامي. وعلى بعد ياردات قليلة كانت هنالك صورة للجامع الأزرق في استنبول، وسبورة سوداء كبيرة وعليها كتابات عربية. وكان بادات قد سجل في شهر اكتوبر للالتحاق بكلية «العلم والهدى» لمدة خمس سنوات، ولكن ترك الدراسة قبل ان ينهي نصف المدة، وحتى قبل اعتقاله في غلوستر.