البريد السعودي يعاني من النسيان في عصر البريد الالكتروني ورسائل الجوال

غياب الرسائل الموشاة بالعطر والزهور المجففة والشباب يلجأون للبريد بحثا عن وظائف أو لتبادل شرائح الجوال

TT

على ناصية شارع التحلية بجدة، وسط غابة من المجمعات التجارية، بواجهاتها الموشاة بألواح الزجاج الملون، وفاترينات الأزياء وحوانيت العطور ومستلزمات التجميل، يشرع مكتب البريد بلونه الأصفر الشاحب، أبوابه الحديدية أمام موجات المتسوقين في جانبي الشارع الضاج بالحياة والحركة ليلا ونهارا.

يحكي محمد الطائفي وهو واحد بين 3 عاملين في مكتب البريد قصة تدني اقبال الجيل الجديد على خدماته «يبدو ان أقدامهم ضلت خطاها عن مكتب البريد. ورغم شدة زحام الشارع الا أننا نعاني من برودة المكان. قلة من الشباب السعوديين يأتون الينا وعندما يطلبون خدمتنا فإننا نهب بالاحتفاء بقدومهم ونعاملهم باعتبارهم أشخاصا مميزين. يكفينا الشعور بالطمأنينة ان هناك من يشعر بوحدتنا ويطرق بابنا المنسي».

الطائفي، الذي أمضى 24 سنة في مهنته الجليلة، يشعر بأنه لسان حال مكتبه الصغير. يعبر عنه بقوله «لو نطقت حوائط المكتب ونوافذه لبثت مر شكواها من ضراوة منافسة البريد الالكتروني ورسائل الهاتف الجوال في التواصل بين الناس». وأضاف والحسرة تقطر من كلماته: «لم نعد نستقبل كسابق عهدنا الرسائل الملونة، ولا الظروف المكتنزة بالورود المجففة، والموشاة بقطع الدانتيل المعطرة». ومثل كل الأشياء الجميلة التي ابتلعها ثقب العولمة، يبدو ان شباب الجيل الحالي قرروا مقاطعة الكتابة وبث شجونهم ولوعاتهم من خلال المراسلة.وتابع: «هناك ما يدعوني للتصديق بأن الشباب ربما نسوا ان «المراسلة هي نصف المواجهة!». لم تعد أحاسيسهم تسيل على خدود الورق ومباسم الأقلام. لقد فضلوا اختصار أشواقهم ولوعاتهم عبر تبادل كلمات قصيرة في رسائل الجوال. نحن الآن في عصر الـ e-mail وSMS، وهذا يحزنني كرجل بريد!».

حمود السناني، 32 عاما، يمضي أوقات فراغه في المقهى الفرنسي رنديفو (الموعد) المقابل لمكتب بريد التحلية يلخص في كلمات مشاعر جيله بقوله «لكل جيل أدواته في التعبير، ونحن نعرف أدواتنا وكيفية التعامل معها. صحيح ان الجيل القديم اعتمد في تواصله مع العالم عبر رسائل ورقية تطغى عليها الرومانسية والخيال الوردي. نحن أيضا لنا مشاعر وأحاسيس لكننا نعبر عنها بطريقتنا».

يقول السناني، وهو رجل أمن برتبة نقيب, بعد ان ارتشف آخر قطرة في كوب قهوته الفرنسية «لا يعجبني ان أمضي الليالي على ضوء القمر وأنا أنمق كلماتي من أجل عيني من أحب. أجمل ما في الحب أنه كلمة من حرفين. نحن نتعامل مع عصرنا بواقعية. ونشعر أننا متصالحون مع أنفسنا. لماذا نهدر وقتنا من أجل حرفين فقط يملآن قلبينا؟».

وعلى النقيض تماما، تتدفق مشاعر ايمان العلي وهي تتذكر منظر رجل البريد وهو يحمل حقيبته ليطرق باب بيتهم القديم: «أحن الى الماضي الجميل. أشعر ان الحياة حينذاك كانت لها نكهة خاصة نفتقدها الآن، للأسف أصبحت أيامنا بلا طعم أو لون أو رائحة. وأشعر ان التكنولوجيا الحديثة سرقت كل ذلك من عمرنا!». ايمان، شابة سعودية في العقد الثاني من العمر وتعمل حاليا أخصائية في هيئة تمريض مستشفى متخصص بجدة تنظر الى جيلها نظرة مختلفة «اصبحنا أشبه بالآلة، تحقق وظيفتها لكن دونما الشعور بمعانيها الكامنة». وترى ان ذكريات أيام أمها وجدتها أكثر شاعرية وغناء من أيامها المتسارعة حسب وصفها «المثير في عصر الرسائل الورقية إنها تصنع جوا من التشويق واللهفة لتلقي الرد. لا يمكن اسقاط متعة الانتظار وتشوّف ما يحمله الجواب. على العكس من رسائل الايميل والجوال التي غالبا ما نستقبل الرد عليها خلال نفس اللحظة. رسائلنا الالكترونية لا تغطي الجانب الروحي في المراسلة. ولا يمكنها ان تعوض لحظة الشعور بتسلم وردة مجففة أو قنينة عطر أو صورة لذكرى سعيدة؟.. الانتظار يشعل الخيال والقريحة والأشواق!».

تجلي مكي، وهي كاتبة سعودية تضع لمساتها الأخيرة على مسودة أول رواية لها، تخفف من شاعرية كلمات ايمان لتحاكي الواقع كما تقول. وتتسائل: «هل يوجد في زمننا رجال من هذا النوع؟». وخلصت الى ان هذه «رومانسيات كانت موجودة أيام عبد الحليم حافظ!». وتزيد «معظم الناس الآن لا يعرفون فن كتابة الرسائل. لذلك تجدهم في العادة يسترسلون في مطولات بلا معنى, في الوقت الذي أحب فيه ان تكون الرسالة مختصرة. وتجلي تصر على حقيقة ان من يكتب رسالة لآخر بأنه يعاني شعورا بالنقص على قدرة المواجهة «ماذا يعني التواصل بالرسائل؟.. أعتقد أنها وسيلة تعبير لشخص آخر بكلام لا نستطيع قوله بشكل مباشر. لذلك نلجأ لأن تكون مكتوبة وغير شفوية قدر الامكان». مكي تبرر عدم اهتمام السعوديين بالمراسلة عبر البريد بأنه لم يعد هناك وقت للكتابة، والذهاب الى مكتب البريد لإرسالها، ومن ثم الانتظار اياما وربما أسابيع لتلقي الرد. هذا الوضع غير عملي، واختيار الناس للمراسلة آنذاك سببه أنها كانت الوسيلة الوحيدة والمتاحة في زمنها. نحن نتطور مع الحياة، هناك وسائل جديدة تجعل الأشياء تتم في زمن أسرع. لن أستخدم جملا للذهاب الى مكة عندما يكون هناك قطار يختصر المسافة والزمن.

وعلى الرغم من تمسكه والدفاع عن مهنته كرجل بريد يؤيد محمد الطائفي بعضا مما ذهبت اليه تجلي مكي. ورغم قناعته بأن وظيفته تحظر التدخل في خصوصيات الناس الا أنه يكشف ان من بين كل أربعة أجانب هناك سعودي واحد يأتي لزيارته على الرغم من ان مقر عمله يقع في أرقى أحياء السعوديين بمدينة جدة. ويواصل الطائفي قائلا «الشباب يفضلون ارسال طلبات التوظيف، وشرائح الجوال، وبطاقات (سوا) لاستمرار نغمة الحرارة في جهاز الطرف الآخر. بينما كبار السن يميلون الى ارسال الكتب والطرود البريدية، وتسلم رسائلهم من صناديق بريدهم الشخصي». وفي المقابل «ما زال للبريد قبول عند المقيمين البسطاء خصوصا من العمال والموظفين ربما بسبب تكاليفه الزهيدة. دائما ما نراهم يرسلون خطابات مزودة بالصور وأشرطة الكاسيت الصوتية أو الفيديو الى أهاليهم في بلادهم البعيدة. هم يفضلون ان تكون رسائلهم بمثابة فيلم سينمائي لتطمين المحبين بالصوت أو بالصورة، وكل ذلك بأقل من 5 دولارات!».

لكن ايمان تتمسك برؤيتها، ولها فلسفة خاصة لقيمة المراسلة المكتوبة.. وهي تؤكد ان لمظاريف الرسائل أثرا يذهب بعيدا في أعماق متلقيها, ويحض على التفكير في المسافات والزمن والأمكنة. وتقول «عندما تتسلم رسالة لا بد ان يمر بخاطرك كم ميناء قطعت، وكم رجل بريد حرص ان يوصل هذه الورقة المستطيلة دون ان يعرف هويتك». وفي لحظة مشحونة بالعواطف تنسج ايمان خلاصة حكمتها ورؤيتها للبريد.. تقول «هو عنوان كبير لانسانية البشر وتعاونهم يدا بيد، رجال البريد يشعرونك أنك لست وحدك في هذا العالم الكبير. هناك من يسهر خلف مكتبه لأجلك، وهناك من يقود دراجته في مكان ناء، وهناك من يحمل حقيبته تحت الرياح والعواصف والأمطار، لسبب وحيد هو ايمانه العميق ان شخصا ما، في مكان ما، يهمه خبر الرسالة التي يحملها اليك.. البريد في وجهة نظري يختزل العالم ليعطي شعورا صادقا ان الناس للناس».

وعلى العكس من كل بلاد العالم.. ينظر السعوديون الى اختراع وسائل المراسلة الاكترونية كإنقاذ الهي لتواصلهم مع العالم والناس. وخدمة البريد، بين الكثير منهم، واحدة من أدوات ماض عتيق غير مأسوف عليه. ويرى علي موسى أن«البريد الوطني كان أعصى من ان يتماهى مع تسارع التنمية والتحديث التي شملت معظم مناحي الحياة في بلد مترامي الأطراف كالسعودية».

موسى،30 عاما، وهو مهندس في شركة «أرامكو» السعودية يكشف سر متاعب المواطنين المتكررة مع البريد بالقول «نحن مجتمع بلا عنوان. كذلك شوارعنا وبيوتنا وحتى أحياؤنا التي نسكن فيها تخلوا من أي ترقيم أو عناوين واضحة». ويضيف: يبدو ان المشكلة ستستمر طالما يتم التعامل بذات التجاهل والاهمال مع عشرات المخططات السكنية والأحياء الجديدة التي تبنى في كل عام. «هناك سر يصعب التكهن به. كما ترى الأقدام لم تضل خطاها عن مكاتب البريد. لا بد ان من بين الموجات المستمرة من الناس على شارع التحلية، كأشهر مواقع التسوق والترفيه في المدينة. الكثيرون يحتاجون الى خدمة البريد، وأنا واحد منهم. المشكلة هنا ان عنوان مكتب البريد هو الواضح، على العكس منا كمستفيدين.. وهنا مكمن السر!».

ويسرد قصصه المتكررة مع شركات البيع عبر الانترنت التي تنشط في عالم التجارة الالكترونية قائلا «ترفض هذه الشركات التي تتعامل مع خدمة البريد العاجل ان نضع عناوين صناديق بريد عندما نطلب مشتريات كبيرة. في كل مرة يتصلون بنا لتدارك هذا الخطأ.. أجيبهم دائما بنفس الجواب: أرسلوها الى فرع شركة البريد السريع في السعودية، فهم يعرفون ظروفنا!».

موسى يطرح حلا يبدو مثاليا ومتوافقا مع خلفيته الهندسية لهذه المشكلة كما يراها. يؤكد أولا ان «الحلول دائما مختبئة تحت رداء الأسئلة». ويضيف متسائلا: «أليس متاحا للهيئة العامة للبريد الاستفادة من مشروع ترقيم المنازل لمصلحة التعداد السكاني بوزارة المالية؟. الخزانة السعودية تصرف مئات ملايين الريالات لاحصاء عدد السكان دوريا كل 10 سنوات. لماذا لا تشارك هيئة البريد في هذه المهمة لنكون، على الأقل، عناوين ثابتة بدلا من مجرد أرقام؟!».