«عبداتي» غادر الصحراء المغربية قبل 25 سنة ضمن مقاتلي «البوليساريو».. وعاد إليها ليجد نفسه غريبا

TT

في زقاق صغير داخل حي شعبي في مدينة العيون، كبرى حواضر الصحراء، تجمع عشرات الاطفال يلعبون امام بيت متواضع شرع بابه امام وفود الزائرين، التي لم تتوقف منذ ان سرى خبر وصول احد افراد البيت، الذي عاد لتوه من مخيمات تندوف (جنوب غرب الجزائر)، حيث توجد معسكرات جبهة البوليساريو، في اطار برنامج الزيارات العائلية بين العائلات المقيمة في المحافظات الصحراوية المغربية ومخيمات تندوف.

عاد عبداتي مبارك،52 سنة، بعد ان شفع له وضع والده الصحي ليكون ضمن اول فوج تقله طائرة تابعة للمفوضية العليا للاجئين، التي تشرف على هذه العملية برفقة 20 شخصا آخرين من بينهم زوجته وابنته،5 سنوات، التي لم تر قط جدها الذي بلغ الخامسة والتسعين من العمر.

لا يريد عبداتي ان يتذكر اليوم الذي قرر فيه حزم أمره ومغادرة أهله ضمن أولى طلائع مقاتلي جبهة البوليساريو، كان ذلك قبل 25 سنة لم ير فيها عبداتي والده وأمه وشقيقه الاصغر، 50 سنة، الذي لم يستوعب محنة الفراق، فأصيب بمرض نفسي أفقده الذاكرة خاصة بعد التحاق شقيقاته البنات الثلاث بأخيهم عبداتي في مخيمات تندوف، التي كانت تعد الشباب بالثورة وتجعلهم يحلمون بان يوم النصر آت لا ريب فيه.

غادرعبداتي أسرته حالما يدفعه عنفوان الشباب، وعاش لاجئا في مخيمات تغطيها الرمال، وعاد غريبا بين اهله يحمل خيبة الوعود التي ذرتها الرياح مثل حبات الرمال المتحركة. عاد يحمله الشوق الى معانقة الاحبة بعد ان تبخرت أحلام الثورة. عاد ليجد الوالد وقد فقد سمعه من كثرة ما انتظر سماع اخبار الابن الذي حمل امره بيده ووعد الجميع بالعودة ذات فجر جميل، وعاد ليجد الام وقد هدتها السنون وسهاد ليالي الانتظار الطويلة. عاد يحمل في مقلتيه مسحة حزن ويخفي وراء شفتيه أسى وحسرة هي كل زاده الذي حمله الى اهله بعد ربع قرن من الفراق.

بصوت متهدج وكلمات يتلفظها بصعوبة امام الرجال الذين تركهم شبابا يافعين، قال عبداتي بنوع من الاسى والحسرة «يحز في نفسي إني تركت والدي في نفس البيت المتواضع، وبعد مرور 25 سنة ما زالا في نفس البيت بينما تغير كل شيء حولهما». كان عبداتي يشير الى البنايات التي ارتفعت شاهقة الى جنبات بيت والديه، فخلال ربع قرن تغيرت ملامح المدينة التي غادرها ذات يوم قائظ وعاد اليها يحمل صفة لاجئ ليجد كل شيء من حوله غريبا. نظرات الزوار والمعايدين ترمقه بغرابة، وبقايا وميض يلمع في عيني الوالد الغائرتين بعد أن بلغ من العمر عتيا، تتطلعان اليه ايضا في غرابة.

في بيت الاسرة الذي يتكون من طابق ارضي واحد، وجد عبداتي نفسه يجلس في غرفة محت الايام طلاء جدرانها، غريبا بين اهله. اصوات النساء تتعالى في فناء البيت الصغير سائلات اياه عن حاله، تجعل الكلمات تخرج من فمه مرتبكة وخجولة.

يشرد تفكير عبداتي عندما نسأله عما هو فاعل، هل سيبقى الى جانب الاهل الذين قال ان أمله الوحيد كان هو رأيتهم قبل ان يودعوا الحياة، أم العودة من حيث أتى ليخفي حسرته بعيدا عن غربة النظرات التي لم تزده الا غربة رغم حرارة اللقاء. وعندما نعيد السؤال يجيب عبداتي في كلمات مقتضبة «احمد الله اني وجدتهم على قيد الحياة» قبل ان يستطرد «تركتهم ضعفاء الحال وعدت اليهم وهم كذلك، الزمن هو الذي غيرهم، احمد الله انهم لم يصابوا بأي أذى، ولم يضايقوا من قبل اي احد طوال فترة غيابي عنهم مدة ربع قرن ونيف».

احدى شقيقات عبداتي التي غادرت البيت صبية قبل ربع قرن عادت الى مسقط رأسها عام 1997، واستقرت الى جانب العائلة بعد ان فتح المغرب الباب لاستقبال كل الراغبين من لاجئي مخيمات تندوف، في العودة الى موطنهم الاصلي، لكن شقيقتيه الاخريتين ما زالتا تعيشان هناك في المخيمات في انتظار ساعة اللقاء بالاهل التي طالت، لذلك يعبر عبداتي عن امله في ان تتواصل الزيارات العائلية التي قال ان الآلاف في مخيمات تندوف ينتظرونها بشوق كبير، قبل ان يضيف «اتمنى ان يبقى هذا الجسر متواصلا لصلة الرحم بين افراد اسر تفرقوا لازيد من ثلاثين سنة».

لكن برنامج الزيارات العائلية الذي بدأ اول من امس بتنفيذ اول رحلة بين مخيمات تندوف ومحافظات الصحراء المغربية لن يستمر سوى ستة اشهر حسب البروتوكول الموقع بين الاطراف المعنية بنزاع الصحراء والمفوضية العليا لغوث اللاجئين. ويحدد البروتوكول مدة الزيارة في خمسة ايام ولا يحرم الاشخاص من البقاء بين ذويهم ان هم اختاروا البقاء طواعية. وبعد خمسة ايام عندما تحلق طائرة المفوضية العليا للاجئين بعبداتي ورفاقه ،عائدة الى مخيمات تندوف، سيكون هو هذه المرة من اختار فراق الاهل، يلاحقه وجه والده الذي عجنته التجاعيد، وشوق الشقيق المتلهف للقاء جعله يفقد صوابه بعد طول انتظار، والدموع المحتبسة في مآقي الام التي اعياها سهاد ليالي الانتظار الطويلة.