العراقيون أحرار من القمع وسلطة المخابرات ولكنهم خائفون وغير سعداء

TT

يتظاهر العراقيون كل يوم تقريبا للمطالبة بشيء ما او للاحتجاج على شيء آخر. وأول من امس نظموا مظاهرة شيعية ـ سنية مشتركة للقول متحدون في مواجهة اولئك الذين يسعون الى دفعهم الى الغرق في اتون حرب طائفية، ولكنهم طالبوا بزوال الاحتلال وخروج القوات الاميركية من العراق.

احتجاجات مثل هذه كانت مستحيلة في ظل نظام الرئيس السابق صدام حسين. ويعرف العراقيون، وخاصة من الاكراد والشيعة، ماذا كان ثمن ابسط الاحتجاجات التي خاضوها حتى لو اندلعت بصورة عفوية. ولكن من الواضح ان العراقيين ينظمون احتجاجاتهم وينشئون منظمات واحزابا وجمعيات بحرية لم يسبق لهم ان عهدوها منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة. ولكنهم مع ذلك ليسوا سعداء.

فعندما تسمع سكان هذا البلد الذي دمره الحرب والارهاب والاحتلال والمقاومة يتحدثون اعرف فورا: انها اسوأ الاوقات.

ويشعر العراقيون بالقرف من كل هذه الفوضي والعنف والافتقار الى الامن - وفي معظم الاوقات فإن حالة الاحباط المريرة تغطي على أي امل او احساس بالراحة في حياتهم اليومية. وبالرغم من ذلك فإن العديد يعتقدون ان مستقبلهم سيكون افضل.

ويقول علاء سالم وهو صاحب غاليري «المشكلة الاساسية هي اننا كنا نتوقع شيئا ما، ووجدنا انه وهم. فلا توجد انتخابات ولا حكومة. والناس لا يمكنهم الخروج ليلا. ومن الطبيعي شعور الناس بالتوتر».

لقد ولى صدام حسين. ولم تعد المخابرات تسيطر على البلاد عن طريق بيروقراطية ضخمة من القهر. والصحف وائمة المساجد يطرحون العديد من الافكار، والناس يشترون الاطباق الفضائية، والسيارات المستوردة المستعملة والاجهزة المنزلية. والشيعة يمارسون شعائرهم الدينية بلا خوف من الدولة. ولا احد مضطر للتغني والاشادة بالزعيم. وحريات لم يكن يحلم بها احد من قبل اصبحت في حكم الواقع.

وبالرغم من كل ذلك فإن قلة هي السعيدة. فالشعور بالحرية اصبح مثل الفوضى. وبدلا من قمع الحاكم، فإن الناس يعانون من المجرمين، والمتمردين والبلطجية وسطوة رجال الدين. والبعض يتخذ موقفا ويرد من اجل الاسلام او من اجل السلطة او للانتقام او لمجرد غضب اعمى. والبعض الاخر قد تبنى الاحساس بالقدرية، ويرفض الخنوع، ويصمم على العمل من اجل الديمقراطية حتى تعرض لخطر القتل باعتباره «متعاونا» مع الولايات المتحدة.

والقوات الاميركية والبريطانية ناشطة في ملاحقة المتمردين ولكنها تقضى وقتا اقل في مواجهة الجريمة او في الدوريات الاعتيادية. وفي اطار الحرص ضد الهجمات - التي تصل الى 20 يوميا - فإنهم يقللون من تعاملهم مع السكان.

ويعتمد العراقيون الذين يعانون من الجريمة على اسلحتهم الخاصة وحماية اسرهم، او يطلبون المساعدة من مراكز الشرطة التي اعيد تشكيلها مؤخرا. ويبيع التجار الان نوعيات متعددة من الاسلحة الدفاعية، من الكلاشنيكوف الى كاميرات الاستطلاع الي المجسات الكهربائية. ولكن الشرطة نفسها غير مجهزة تجهيزا جيدا وتشعر بالخوف. وفي بعض المناطق، تظهر اشارات الى العودة الى العادات القديمة من الفساد والتعامل مع المجرمين.

وبعد عام واحد، ينظر العراقيون الى العاصفة التي احاطت بنظام صدام حسين بمزيج الفزع والامل.

وفي ذلك الوقت كان جليل كاظم واسرته يخشون الحديث عن كراهيتهم لصدام، ولكنهم اعربوا عن خشيتهم من احتمال عدم نجاتهم من القصف الاميركي. وكان اولاده الاربعة خائفين الى درجة ان زوجته سهاد رعد التي انهارت وبكت خلال المقابلة، كانت تخزن الحبوب المهدئة.

وبعد عام، وفي نفس غرفة المعيشة المزدحمة (ولكن بدون كهرباء) مرت الاسرة بفترة الحرب بلا مشاكل،الا ان مستوى القلق لم يتغير.

وقالت سهاد انها تفكر في اخراج ابنتها مينا، 6 سنوات، من المدرسة بعد العثور على شحنة متفجرات بالقرب من هناك. وقال كاظم انه يذهب الى محله بحثا عن لقمة العيش، لمدة ثلاث ساعات فقط يوميا، لانه يخشى ترك اسرته وحدها.

وذكرت سهاد ان اللصوص اقتحموا منزل اصدقاء والديها، وعذبوا الزوجين واولادهما لمدة 8 ساعات اعتقادا منهم انها اسرة تعمل في مجال استبدال العملات. واوضحت «انهم قطعوا اذانهم وضربوهم». وقالت لصحافي من صحيفة «لوس انجليس تايمز»: «اكتب اننا في حاجة الى رئيس. ولا نشعر بالامان، نشعر بالخوف».

ولم يصدق الناس، الذين اعتادوا على التحذيرات وانصاف الحلول والمواجهات الدبلوماسية، ان القوات الاميركية والبريطانية ستنفذ تهديدها بغزو البلاد واسقاط الدكتاتور. وبعدما حدث، لم يتوقع احد ان الحياة بعد صدام ستكون صعبة. وكان حي عرصات الهندية، ارقى احياء العاصمة، حيث توجد فيه افضل المطاعم والمحلات التجارية. اما اليوم فمعظمها مغلقة. وبعضها دمره القصف. وتنتشر القمامة على الارصفة خلال الليل. ويخشى الناس السير ليلا.

ويدير سالم، 45 عاما، وهو فنان ونحات، غاليري الفنون الشرقية الحية مع زوجته. غير ان الزبائن لا يحضرون للغاليري. وفي زيارة بعد ظهر احد الايام، كان المكان هادئا مثل الضريح.

ويقول سالم اذا لم تنتشر الحضارة، فلن توجد اعمال جيدة في العراق. هذا الشارع على سبيل المثال - كان حيا. اما الان....». واذا كانت الاحصائيات صحيحة، فإن معدل القتل في العراق اعلى من نيويورك ومعدلات الخطف اعلى من كولمبيا. وقد اختفى العديد من الاشخاص المقتدرين او غادروا البلاد.

وخلال قيادة السيارة في شوارع العاصمة التي كانت نظيفة، تنتشر هياكل المباني في كل مكان - متى دمرت؟ خلال الحرب؟ خلال السلب والنهب؟ عن طريق عمليات ارهابية؟ او عن طريق الاهمال خلال 12 سنة من الحظر الاقتصادي؟ اصبح كل شيء قبيحاً. وتنتشر البضائع الاستهلاكية على الارصفة وفي كل شوارع بغداد، دليلاً على الاسواق المتحررة وعدم وجود سيطرة على التجار.

ويشير المسؤولون في قوات الاحتلال الى المدينة باعتبارها مدينة ناشطة، واشارة على تغير الامور. ولكن العراقيين لا يشعرون بذلك. فكل اسرة تقريبا مات لها شخص ما او لديها قصة مرعبة ترويها في العام الماضي، ويسلح السكان انفسهم ويراقبون الشوارع من النوافذ بحثا عن اغراب.

لقد تحقق النصر على صدام، ولكن النصر على الخوف لم يتحقق في قلوب العراقيين.