لا تغيير جوهريا في السياسة الفرنسية الخارجية مع انتقال دو فيلبان الى الداخلية وحلول بارنيه مكانه

TT

قد يكون من الصعب بالنسبة لوزير الخارجية الفرنسي الجديد ميشيل بارنيه أن يملأ سريعا الفراغ الذي أحدثه انتقال الوزير السابق دومينيك دو فيلبان من الخارجية الى وزارة الداخلية التي لا يفصلها عن قصر الإليزيه سوى شارع واحد. ذلك أن دو فيلبان «استفاد» من ظروف استثنائية هي الحرب على العراق وما سبقها ولحقها ليبرز بقوة على مسرح السياسة والدبلوماسية الدوليتين.

وما زال خطاب دوفيلبان المدوي في قاعة اجتماعات مجلس الأمن الدولي يوم 14 فبراير (شباط) من العام الماضي حاضرا في أذهان الجميع. وقد حصد حينها تصفيقا حادا من الحضور وهو ما يعد حدثا استثنائيا في هذا المحفل الدولي.

و«خاصية» دو فيلبان هي أنه «جسد» الرفض الفرنسي داخل مجلس الأمن وخارجه لمسعى واشنطن من أجل فرض رؤياها وسياستها على مجلس الأمن بخصوص الموضوع العراقي. وقد نجح الوزير، الذي لوح باللجوء الى الفيتو (حق النقض) لمنع واشنطن من تأمين الأصوات اللازمة لتمرير قرار في المجلس يتيح اللجوء الى الحرب ضد العراق في حفز أكثرية مجلس الأمن على تبني الموقف الفرنسي رغم الضغوط الأميركية والبريطانية مما جعله «العدو المعلن» للأميركيين.

وخلال عامين من قيامه بمهام وزير الخارجية، دار دو فيلبان عدة مرات حول الأرض، منتقلا من قارة الى قارة ومن عاصمة الى أخرى، ومن لقاء ملك الى الاجتماع برئيس، الى درجة أنه كان يقضي وقتا أطول في طائرته الرسمية من الوقت الذي كان يمضيه في مكتبه. فالوزير ـ الشاعر والأديب، الذي يتمتع بصداقة بعض المثقفين العرب بينهم الشاعران أدونيس وصلاح ستسيتية، وصل الى منصبه وفي ذهنه تصور طموح لدور الدبلوماسية الفرنسية ولرغبة باريس في أن تكون لها كلمة مسموعة في العالم الذي أراده متعدد الأقطاب ولا تسيره الولايات المتحدة الأميركية بالعصا.

ورغم أن ما حدث في العراق أظهر أن تحليلات فرنسا ومواقفها كانت مصيبة، فقد أخذ عليه أنه غالبا ما كان ينسى الحجم الحقيقي لفرنسا كقوة متوسطة، بدأت بالذوبان في قارورة الاتحاد الأوروبي الذي سيضم بداية شهر مايو (يار) 26 دولة. كما أنه يتهيأ لضم المزيد في السنوات القادمة. وإذا كانت حسابات شيراك في السياسة الداخلية وحاجته الى شخصية واعدة يهيئها للانتخابات الرئاسية القادمة ولتقف في وجه الوزير سركوزي الطامح للجلوس في الكرسي الرئاسي قد دفعته لوضع دو فيلبان في وزارة الداخلية، فإن اختياره المفوض الأوروبي ميشيل بارنيه خليفة له يعد بمثابة «ضربة معلم».

واختيار بارنيه، الذي يترك بروكسل ليلتحق بمقر وزارته في الـ«كي دورسيه» يعود لأكثر من سبب. فقد رفضت وزيرة الدفاع ميشال أليو ـ ماري الحلول محل دو فيلبان وفضلت البقاء في منصبها. وكان شيراك بحاجة الى رجل له معرفة بالملفات الدبلوماسية ويكون من أوفيائه. وهذه بالتحديد، حال بارنيه الذي شغل ما بين 1995 و1997 حقيبة وزير الشؤون الأوروبية قبل أن يرسل الى بروكسل، مفوضا لشؤون السياسة الإقليمية والإصلاح الدستوري. ومن الواضح أن تمكن بارنيه من الملفات الأوروبية يشكل ورقة رابحة لفرنسا في زمن توسيع الاتحاد وبلورة دستور له والتوصل الى قواعد واضحة تضمن انسجام ونجاعة عمل الاتحاد.

وتفيد السيرة الذاتية لوزير الخارجية الجديد أن الرجل «يعرف ما يريد» وأن وصوله الى الخارجية «سعى إليه منذ سنوات». فبارنيه، 53 عاما، انتخب نائبا للمرة الأولى عن منطقة سافوا الجبلية الواقعة عند سفوح جبال الألب، وهو في سن السابعة والعشرين، وانتخب رئيسا للمجلس الإقليمي لهذه المنطقة وهو في الحادية والثلاثين، وأصبح وزيرا للمرة الأولى في الثانية والأربعين.

غير أن بارنيه، قبل ذلك، أحد أوفياء الرئيس. وهذا القرب من رئيس الجمهورية هو بالذات إحدى الصفات المطلوبة من وزير الخارجية. فالسياسة الخارجية، في الجمهورية الفرنسية الخامسة، تقع كما الدفاع، في دائرة سلطات رئيس الجمهورية. ومهمة وزير الخارجية، بمعنى ما، هي تنفيذ السياسة التي يرسم الرئيس خطوطها الكبرى.

انطلاقا من ذلك، لا ينتظر أن يترافق وصول بارنيه الى وزارة الخارجية مع تغيير جوهري في توجهات الدبلوماسية الفرنسية. وإذا كانت ثمة تغييرات، فإنها ستمس «الأسلوب» أكثر مما تطال ثوابت السياسة الخارجية الفرنسية. وقد ظهرت هذه التوجهات في تصريحاته الصحافية الأولى عقب تشكيل الحكومة الجديدة. فقد أعلن مساء أول من أمس لإذاعة «فرانس أنتير» أنه يضع في قلب مهمته الجديدة «البناء الأوروبي الذي يجتاز مرحلة دقيقة وخطيرة»، مضيفا أنه سيسعى الى «زيادة التأثير الذي تمارسه فرنسا على المشروع الأوروبي».

أما الأولوية الثانية لبارنيه فهي «الاستمرار في التحرك من أجل المساعدة على حل الأزمات في العالم»، مشيرا الى أن فرنسا «كانت نشطة وحاضرة بقوة في العامين الأخيرين» في التعاطي مع هذه الأزمات وأنها «أسمعت صوتا قويا، متميزا ولكنه محترم»، في إشارة الى مواقف فرنسا من الحرب في العراق. وفي ما يخص العلاقة مع واشنطن، فقد أشار بارنيه الى أنه سيتبنى الخط الذي سار عليه دو فيلبان. وقال الوزير الجديد: «يتعين أن يكون هناك تنظيم مختلف للعالم إذ لا يمكن قبول وجود قوة كبرى وحيدة». ومع ذلك، فقد التزم بارنيه بالسعي الى إقامة «شراكة» مع واشنطن. لكن الشراكة، كما قال، «لا تعني التبعية ولكنها تحالف متوازن».