تحركات أنصار مقتدى الصدر تهدد الأميركيين بما يخشونه من توسيع دائرة صراعهم في العراق

TT

بتنظيمه مظاهرات وهجمات كبيرة في بغداد وجنوب العراق أول من أمس يكون رجل الدين الشيعي الشاب مقتدى الصدر قد حقق ما كانت تخشاه الادارة الأميركية أكثر من أي شيء آخر منذ بدء احتلال العراق قبل عام واحد، وهو انتفاضة شيعية.

وباندلاع هذه الاحداث نشأ شعور عارم بين أهالي بغداد بأن اختبار الإرادة الذي استغرق عاما بين التحالف وأنصار مقتدى الصدر قد أصبح حاسما ونتائجه سيكون لها صدى في شتى أنحاء العراق.

ويشير الوضع المضطرب إلى أن الجيش الأميركي يواجه مقاومة مسلحة على جبهتين: في المدن السنية المضطربة، مثل الفلوجة، وفي المناطق ذات الأغلبية الشيعية التي كان سكانها قد أظهروا قدرا من الإذعان المتوتر للدور الأميركي. وإذا تم إنهاء هذه المواجهة بالقوة فإن انتفاضة شيعية ـ بما تتضمنه من صور ورموز دينية مأخوذة من ماضي العراق الكولونيالي ومع النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ـ ربما ستتمكن من تحقيق دفعها الداخلي لوحدها.

خلال السنة المنصرمة ظل الصدر يسعى لكسب الأكثرية الشيعية إلى جانبه من خلال اطلاق رسائل معارضة للاحتلال. وخلال عام بأكمله ظل نفوذ مقتدى الصدر الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره أقل بكثير مما يتمتع به آية الله العظمى علي السيستاني أبرز الشخصيات الدينية في العراق. وهذا ما جعل الصدر وأنصاره غير مقبولين في مدينة النجف حيث يحقق رجال الدين نفوذهم الاقوى. مع ذلك فإن مقتدى الصدر ظل يتمتع بنفوذ بين أنصاره في بغداد وفي المدن التي عرفت إهمالا لفترة طويلة، وتنامى شيئا فشيئا نفوذ وقوة رجال ميليشياه في العراق.

بعد بدء أعمال العنف بساعات اول من امس طالب الصدر علنا بوقفها، ولم يكن واضحا ما إذا كان أتباعه سيستمرون في الاشتباك مع وحدات أقوى منهم بكثير. لكن يبدو أن حسابات السياسة في العراق قد تغير اتجاهها. هتف أنصار مقتدى الصدر صائحين «اعطنا الأمر يا مقتدى ونحن سنكرر ثورة 1920»، في اشارة الى الانتفاضة التي حدثت ضد الاحتلال البريطاني والتي أصبحت جزءا من الأسطورة السياسية في العراق. وخارج مقر قوات التحالف حذر الشيخ حمزة الأعرجي من ان «الناس مستعدون للشهادة».

وجاءت الاضطرابات الاخيرة بعد عدة مبادرات محسوبة قام بها الطرفان لاختبار قوة كل منهما. ووقعت آخر تلك المبادرات يوم 28 الشهر الماضي عندما أغلقت قوات التحالف جريدة «الحوزة» التابعة للصدر. وهذا الجريدة الأسبوعية توزع ما يقرب من 10 آلاف نسخة وهي مخصصة بالدرجة الأولى للمساجد المناصرة للصدر. ولعدة أشهر ظلت هذه الجريدة تنشر مقالات اعتبرها المسؤولون الأميركيون تحريضية. وأطلق إغلاق الصحيفة احتجاجات بين آلاف من الاشخاص سار الكثير منهم وفق إيقاع عسكري في شوارع بغداد والنجف وارتدوا بدلات سوداء موحدة خاصة بميليشيا الصدر المعروفة باسم «جيش المهدي».

ظن أتباع الصدر أن عرضا لقوتهم سيجبر المسؤولين الأميركيين على التراجع عن توسيع الإجراءات الصارمة. وفي خطبة يوم الجمعة الماضي بدا الصدر كأنه يدعو إلى هجمات على القوات الأميركية. وبهذا يكون قد تجاوز خطا ظل يتجنبه بعناية لعدة أشهر. وفي هذه الخطبة طالب أنصاره بمواجهة «المحتلين» حيث قال لهم «كونوا على أتم الاستعداد واضربوهم حيثما قابلتموهم».

وفي وقت مبكر من صباح يوم السبت الماضي تم اعتقال مصطفى اليعقوبي أكبر مساعدي الصدر الذي يعد وجها مألوفا في مكتب الصدر بالنجف. وقال مسؤولون أميركيون إنه اعتُقل مع 12 آخرين بتهمة ضلوعهم بقتل عبد المجيد الخوئي رجل الدين المعتدل المنتمي لواحدة من ابرز العوائل العراقية الشيعية. وكان الخوئي قد قُتل طعنا يوم 10 أبريل (نيسان) من العام الماضي بعد يوم واحد من سقوط بغداد. وقال المسؤولون الأميركيون إن مذكرات باعتقال المتورطين في ذلك القتل قد صدرت قبل عدة أشهر لكنهم لم يقدموا تفسيرا عن سبب تنفيذهم للقرار يوم السبت الماضي.

وأثار اعتقال اليعقوبي احتجاجات شارك فيها آلاف الناس يوم الأحد الماضي في شتى أنحاء العراق. ومع حدوث معارك في بغداد وبعض المدن الجنوبية مثل النجف والعمارة أصدر الصدر بيانا دعا فيه أتباعه إلى إيقاف الاحتجاجات قائلا إنها غير مجدية. لكنه أضاف في بيانه «ارهبوا عدوكم.. إنه ليس ممكنا الالتزام بالصمت أمام تجاوزاتهم».

وأصر المسؤولون الأميركيون اول من امس على أنهم لم يقرروا ما إذا كان يجب اتخاذ الإجراءات الصارمة ضد حركة الصدر. لكن بول بريمر رئيس الإدارة المدنية لقوات التحالف أشار إلى أن العنف ستكون له نتائج. وقال بريمر في مؤتمر صحافي «مجموعة من الناس في النجف تجاوزوا الخط الأحمر. وهذا لن يتم التسامح معه من جانب قوات التحالف، ولا من جانب الشعب العراقي، ولا من جانب قوات الأمن العراقية».

وظلت سلطات التحالف لعدة أشهر منقسمة حول ما يجب فعله لتحديات الصدر. فحتى الصيف الماضي ظلت السلطات الأميركية تحاول إقناع أكثر رجال الدين اعتدالا بلجم جماح الصدر الذي وصفه مسؤول أميركي رفيع في بغداد آنذاك بأنه « شعبي وانتقادي ومحرض للغوغاء». وأضاف هذا المسؤول «نحن بقينا نراقبه وبعض كبار آيات الله ظلوا يراقبوننا وكلانا كان يأمل في أن يقوم الطرف الآخر بشيء ما».

وكان احد أسباب التحفظ هو الخوف من ردود فعل بين أوساط الشيعة. فمنذ بدء الاحتلال ظلت الرغبة في الحفاظ على الدعم الشيعي أو على الأقل درجة من تقبل الشيعة للاحتلال هدفا أساسيا.

كذلك ظل حضور الصدر يتضاءل خلال الأشهر الأخيرة على المستوى الشعبي. فالسيستاني لعب دورا أقوى في السياسة العراقية وانتقد عددا من خطط الولايات المتحدة المتعلقة بتحقيق نقل السلطة السياسية للعراقيين. ونظرا للموقع الكبير الذي يتمتع به السيستاني بين شيعة العراق امتنع مقتدى الصدر عن انتقاده علنا. لكن في الجلسات الخاصة ظل أنصاره يعبرون عن استيائهم من نفوذ السيستاني. فهم يعتبرون حركتهم عربية ووطنية ويؤيدون دورا أكبر لرجال الدين في السياسة والقضايا الاجتماعية مما يريده السيستاني.

وتعود هذه المنافسة بين الطرفين إلى محمد صادق الصدر والد مقتدى الذي كان يتنافس مع السيستاني على النفوذ، وقد اغتيل سنة 1999. ويحاول الصدر الابن أن يحتل موقع أبيه الذي يحظى بتقدير شعبي كبير.

وظل الصدر يتجنب الأضواء بعد الصدامات التي وقعت في أكتوبر (تشرين الاول) الماضي بين القوات الأميركية وأتباعه في بغداد لكن ميليشيا حركته ظلت تتنامى حجما ونفوذا. وإذا كان عددها في شهر أغسطس (اب) الماضي لا يتجاوز الخمسمائة شخص، وغالبا ما ظلت موضع سخرية لرثاثة ملابس أفرادها فإنها زادت إلى 10 آلاف رجل مسلحين بقاذفات «آر بي جي» ومدافع الهاون والأسلحة الخفيفة الأخرى.

ومع تدهور الأمن في الجنوب راحت هذه الميليشيا تطمح لانتزاع السلطة جنبا إلى جنب مع منظمة بدر التي يديرها حزب شيعي هو المجلس الإسلامي الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، كذلك هناك ميليشيا شيعية أصغر من الاثنين تعود لحزب الدعوة الإسلامية الذي له تاريخ طويل في العراق ويقودها رجل دين اسمه سرخي حساني. كذلك يُعتقَد أن أحد ممثلي السيستاني وهو عبد المهدي السلامي يقوم بتنظيم أتباع مسلحين في كربلاء.

ومع تصاعد نفوذ «جيش المهدي» وتصاعد الاتهامات بقيامه بعمليات ترهيب وإصداره تهديدات بالقتل وتنفيذه لاعتقالات غير شرعية، تنبه المسؤولون الأميركيون الذين يخافون من أن جماعة الصدر ستبدأ بالتنافس لتسلم السلطة بعد تسلم العراقيين للسيادة يوم 30 يونيو (حزيران) المقبل. وفي الأسابيع الأخيرة تصاعد الضغط داخل إدارة التحالف لفرض إجراءات صارمة على الميليشيات وخصوصا على جماعة الصدر قبل أن تكسب قوة أضافية أخرى.

وقال أبو حيدر غالب الغراوي قائد «جيش المهدي» في مدينة الكوفة القريبة من النجف «كنا صبورين جدا والآن يمكنك أن ترى النتيجة. أنت تستطيع أن تتلمس سخط الناس. ماذا تظن؟ هل سترد سلطات الاحتلال بالقمع أم ستستجيب لمطالبهم؟».

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»