أعظمية أبي حنيفة النعمان في زمن الاحتلال الأميركي: الدبابات تهدر في «شارع الإرهاب» وبيوتها الكالحة لا تدفع فواتير الماء والكهرباء

عسكر فيها الانجليز مرتين في الحربين العالميتين ويعسكر فيها الاميركيون على مبعدة كيلومتر عن جامع الامام الأعظم * جمع القمامة غدا قطاعاً خاصاً وفاتورات الكهرباء والماء لا تصل السكان ولا يعلم احد عن خدمات البريد

TT

مشاعر الرضا لانزياح كابوس صدام الاسود تمتزج بمشاعر الغضب ضد قوات الاحتلال... وانفجارات ليلية شبه يومية، ووساخة دائمة لا تليق بأي بلدة في القرن الحادي والعشرين... هذا ما يميز اغلب مناطق بغداد التي عدت اليها في فبراير (شباط) الماضي بعد فراق امتد لاكثر من 24 عاما.

ولا تختلف الاعظمية التي اقمت فيها خلال زيارتي عن باقي المناطق. وهذه المدينة التي يرقد فيها ابو حنيفة ثابت بن النعمان الكوفي، الامام الاعظم، مؤسس مدرسة الرأي والقياس في الاسلام، وصاحب احد مذاهب الاسلام الخمسة، اضحت مغبرة موحلة مليئة بالمياه الآسنة، وطرقاتها اسوأ حالاً عما كانت عليه قبل 50 عاما. وكل ما فيها من بيوت متهالك وآيل للسقوط.

وتشهد الاعظمية التي يحتل الاميركيون قصر صدام فيها، يوميا، هدير الدبابات ليلاً في ازقتها، وأزيز الطائرات والهليكوبترات بحثا عن افراد يصوبون قذائف الهاون نحو القصر او الشاطئ الآخر لنهر دجلة، حيث يقع مقر للجيش الاميركي في مقر سابق للاستخبارات العسكرية لنظام صدام، الذي تتشمس فيه المجندات الاميركيات فيه صباحا على ضفة النهر.

وعندما تتحرك في شوارع المدينة بالسيارة عليك الانتباه الى احتمال مرور رتل عسكري صغير او كبير، والا تعرضت الى سباب كما حدث لسائقنا الذي كان يقود سيارته القديمة ولم يتمكن من ايقافها او ابعادها الى الرصيف في الوقت المناسب عند دخول رتل صغير من المدرعات الاميركية في شارع فرعي نحو الشارع. وحمدنا الله ان الجندي القابع فوق المدرعة الاولى اكتفى فقط بالصراخ «موف يو ستيبوبيد» (تحرك ايها الغبي!).

وتشهد الاعظمية، المدينة التي تأسست في القرن الخامس عشر ثم اندمجت مع بغداد، اول عملية «خصخصة» لجمع القمامة، حيث، ومع انهيار مؤسسات الدولة العراقية بكاملها، اخذ الزبالون القدامى بممارسة مهنتهم بحرية وجمع الاوساخ مقابل اجرة! عندما يعود المرء الى واقع الطفولة البعيدة يحلم بفضاءات جديدة تتمم اعماق ذاكرته وتطعمها بكل ما هو حديث ومعاصر، الا ان الاعظمية بدت للناظرين اكثر تخلفا. وقد حول الزمن بيوتها الى بيوت كالحة في مدينة لا يسمع فيها احياناً اذان الجوامع بسبب انقطاع الكهرباء. وتبدو علامات الاحتلال في كل مكان، حيث تهدر الدبابات في «شارع الارهاب» وهو الشارع الذي بناه الاتراك، شارع قديم متعرج يبدأ من جامع الامام الاعظم مروراً بجزء صغير من سوق الاعظمية المليء بالمياه الآسنة ليتعرج ثم يصل الى مقربة من ضفة دجلة على بعد نحو كيلومتر. ومن هذا الشارع تطلق القذائف على ضفة النهر المقابلة.

وقد احتل الانجليز البساتين التي كانت تقع عند نهاية الشارع مرتين الاول لدى احتلال بغداد عام 1917 بعد ان استولوا على جنوب العراق اولاً، والاخرى لدى احتلالهم بغداد للقضاء على التمرد الوطني العراقي عام 1941، بعد ان دخلوا بغداد من الغرب.

وفي عام 2003 تسنى للمحتلين الاميركين احتلال الاعظمية، وشاءت الاقدار ان يضربوا جامع الامام الاعظم بعد سقوط بغداد بيوم، لتظهر آثار القصف على مدخل الجامع وساعته والمباني المقابلة له.

* شعارات وسفارات

* على جدران بيوت الاعظمية ظهرت شعارات متباينة، ثم تعديل بعضها بخط اليد مرات، ربما لتتناسب مع الوضع الجديد. ويبدو اغلب الاعظميين فرحين او راضين على الاقل بازاحة الطاغية صدام ونظامه الذي تشهد مدينتهم انه لم يقدم لهم شيئا، رغم ان الرئيس المخلوع بنى لنفسه قصراً على ضفاف دجلة.

وقال لي اكثر من شخص ان صدام لم يزر الاعظمية عندما اصبح رئيساً ولم يزر في حياته قبر الامام الاعظم ابي حنيفة لان جده كان فارسياً (افغانياً)! قال لي اثنان من اصدقاء الدراسة الثانوية لم ارهما منذ اكثر من 40 عاما، ان الشيء الذي تغير في العراق اننا كنا لا نستطيع التكلم اطلاقا، والآن وهبت لنا هذه الحرية النادرة.

واختلف الزميلان وهما اقرباء لبعضهما حول مسألة مقاتلة الاميركيين في جامع الامام الأعظم، اذ قال احدهما بان المقاتلين كانوا مرتزقة مأجورين، فيما استنكر الاخر قائلاً ان المرتزقة كانوا سيهربون بعد سقوط بغداد، للنجاه بأنفسهم، وان المقاتلين، الذين كانوا من العرب، قاتلوا عن حق وبطولة مشرفة ادت الى استشهادهم.

ويختلف هؤلاء المقاتلون عن الجبان الاكبر الذي فر من بغداد، ومر بالاعظمية يحيي بعض اعوانه فيها وكأنه بطل. وقال لي لواء ركن متقاعد هرب بجلده الى كردستان العراق في منتصف التسعينات بعد ان نزع صدام رتبته، وهو من اهالي الاعظمية القدماء الذين تمتد شجرة عائلتهم الى اربعة قرون مضت، ان صدام اراد بقدومه اثناء فراره الجبان جلب نقمة الاميركيين على الاعظمية! الشعارات تختلف في مضمونها، فأحدها يقول «ما نريد الخبز والماي (الماء) بل نريد ابو عداي (نسبة الى صدام).. الا ان الشعار حور، بعد ان لطخت كلمة «أبو عداي» بكلمة «الكرامة».

ويقول شعار آخر «عاش القائد صدام المجاهد» ليتغير بعد تلطيخ «القائد صدام» ويصبح «عاش المجاهد». كما تجد شعارات افضل مثل «عاشت المقاومة».

ومن الاشياء المثيرة حقاً ان يتناقل اهالي الاعظمية فيما بينهم اخبار «المقاومة» او التفجيرات المعلنة وغير المعلنة. وعندما يقتل العراقيون، يجمع الرجال والنساء بأن الاميركيين وراء الحادث ، وكأنهم يرفضون «المقاومة» التي يقتل فيها العراقيون.

يشعر الاعظميون بالاستفزاز عندما يتحدث احد ما عن «السنة والشيعة» او عن «المثلث السني» على وجه الخصوص. وهم يعتبرون التسمية طائفية مقيتة ومسمومة.

تمتاز الاعظمية بـ«السنية الليبرالية»، فقد كانت تتمتع دوما، في الماضي على الاقل، بنوع من التعايش بين الاديان.

في منطقة «البصيرة» التي سميت تصغيراً لـ«البصرة» لكثرة نخيلها، والتي تحولت الى بيوت كبيرة مطلة على شاطئ دجلة، كانت توجد، وعلى مبعدة كيلومتر واحد من جامع الامام الاعظم، «توراة» وهي معبد لليهود قبل مغاردتهم العراق نهاية الاربعينات كما كانت هناك كنيسة للنصارى في منطقة السفينة المحاذية للمقبرة المجاورة لجامع الامام الاعظم، وذلك في الثلاثينات من القرن الماضي. اما سينما الاعظمية فقد كانت تعرض الافلام من الخمسينات من القرن الماضي على بعد عدة مئات من الامتار من الجامع.

* «رائحة النفط»

* مشكلة الاعظمية انك تشم رائحة النفط فيها، حال دخولها. وهي لا تقع بالطبع على بحيرة من النفط، بل ان الرائحة تفوح من المدافئ المنزلية او من مولدات الطاقة الكهربائية التي تعمل على المنتجات النفطية. والتي يسارع الناس الى تشغيلها عند انقطاع الكهرباء وعندما يحدث لك ان تدخل احد البيوت الفقيرة التي لا تشترك بمولد كهربائي اهلي (مقابل اجور اضافية او لا تملك صحناً فضائياً، فانك تجد نفسك مضطراً لمشاهدة قناة «العراقية» التلفزيونية التي يقول اصحاب البيت انها افضل من تلفزيون صدام. لكن «العراقية» فقيرة وبائسة حقا! ولكي تشتري الجرائد في الاعظمية عليك السير لمئات من الامتار وربما لكيلومتر او اكثر. وان عادت الشبكة الهاتفية الى بعض عملها في بعض مناطق المدينة الآن (ونحن في شهر مايو (ايار) فانها كانت مدمرة تماما عند زيارتي للمدينة ولذلك يمشي الناس عدة كيلومترات للوصول الى مكتب هاتفي للاتصالات. شوارع الاعظمية جزء من شوارع بغداد التي تملؤها الفوضى، وفي يوم السبت تزدحم شوارعها بحيث يصعب التقدم متراً واحداً، لان ذلك اليوم هو موعد زيارة مراقد مدينة الكاظمية التي يفصلها عن الاعظمية جسر الائمة.

الشوارع تدل على فوضوية العراقيين «المنظمة»، حيث يتسابق جميع السائقين الى التحرك في اتجاهاتهم المطلوبة من دون وقوع اي حوادث. هذا من جهة ومن جهة اخرى فهي تدل على هزيمة «الدولة»، حيث لا قانون ولا ممثلين للقانون يعترف بهم.

* انطباعات عابرة

* لا يعرف احد ان كانت مكاتب البريد عاملة او متوقفة في بغداد. اما ان حدث خلل في شبكة الكهرباء فيقول الاهالي انهم يتوسلون الى عمال الخدمات ويجمعون الاموال لهم لازالة الخلل

* الزبالون نجحوا في تحصيل ارزاقهم بعد انهيار الدولة العراقية، اذ اخذوا يجمعون اكياس القمامة وفق مبلغ يزداد كلما زاد حجم الكيس، ويرمونها في المواقع المخصصة لها.

* قال لي سائق اجرة وخط الشيب شعره نقلني بين ضفتي النهر «لا تزعل مني، لو يذهب الاميركيون فسوف يحدث تقاتل». وسألته عن مدينته فقال انه رجع حديثا من الخارج. وقال لي سائق آخر في عمر الشباب، وهو يشير الى الجامع «لقد وقعت هنا آخر معركة مع الغزاة» في بغداد.

* من التعابير الجميلة التي يتداولها بعض الكتاب تعبير «الاطياف السياسية» الذي يغطي حقا على لعبة الطائفية السياسية والدينية البغيضة في العراق. ويقول طلاب من عدة جامعات ان التيارات الطائفية قوية بين صفوف الطلبة وانها تغذي الانشقاقات، بينما يقول موظفون في الدولة ان افراد الميليشيات يتدخلون في دوائر الدولة.

* سائقو سيارات الاجرة تتفاوت آراؤهم حول المقاومة. فمن قائل بأنهم من «الناقمين» وقائل بانهم «وطنيون» او «اسلاميون» وينتقد الكثير منهم البعثيين الذين يقولون عنهم انهم هربوا بجلودهم.

* قناة تلفزيونية وحيدة ونوعان من الأذان

* اصبح نص الأذان الداعي المسلمين الى الصلاة، موضع اهتمام خاص في العراق، اذ يستمع مشاهدو قناة التلفزيون العراقي الوحيدة «العراقية» الى نوعين من الأذان، تكريسا لمبدأ المحاصصة الطائفية: شيعي وسني! الآذان المعروف لدى كل مسلمي العالم، او هذا هو اعتقادي، هو نفسه الأذان الذي قرأه بلال الحبشي، ينادي بالشهادتين لكل مسلم «اشهد ان لا اله الا الله، اشهد ان محمدا رسول الله». وتبث «العراقية» أذانين من هذا النوع، وأذانين من النوع الآخر الذي يضيف شهادة اخرى هي «اشهد ان علياً ولي الله» وكأن علياً، كرم الله وجهه، احد العشرة المبشرين بالجنة اصبح واحدا من اولياء الله، الكثيرين. ثم تضاف شهادة اخرى، هي «اشهد ان اولاده المعصومين حجج الله».

ويقول مصدر مسؤول متخصص في وزارة التربية العراقية، ان نص الأذان المقرر في كتب المدارس الابتدائية لا يدرس حاليا، او بالاحرى، يدرسه نصف المدرسين والمدرسات تقريبا، ولا يدرسه الآخرون الذين لا يكتفون بشهادتين فقط!

* الأعظمية وجامعها!

* يعود تاريخ مدينة الاعظمية الحالية الى عام 1638 حينما جاءت عشائر العبيد (تلفظ بضم العين وفتح الباء وتسكين الياء والدال) من شمال العراق مع السلطان مراد الرابع لتوطينها قرب ضريح ابي حنيفة النعمان بن ثابت الذي دفن عام 150 للهجرة في المنطقة التي كانت تعرف باسم بساتين الخيزران زوجة الخليفة المنصور، ام الهادي وهارون الرشيد.

وقامت عشائر العبيد التي تتحدر من قبائل قحطانية من اليمن، بحماية الضريح من هجمات الفرس. وتوسع جامع الاعظمية، خصوصا في نهاية الخمسينات، حيث وسعت باحته الخارجية، ونصبت فيه ساعتان، افرنجية وعربية، وضعتا على الجهات الاربع للبرج الذي يحملها. وقد صنع الساعة واحد من اهالي الاعظمية وهو عبد الرزاق محسوب. وشجعت حكومة الزعيم عبد الكريم قاسم اول رئيس للوزراء في الجمهورية العراقية على اقامة الساعة وبرجها رغم امتناع دائرة الاوقاف في العهد الملكي عن تنفيذ هذا المشروع.

وبنيت الساعة بالكونكريت المسلح على شكل اسطواني ويرتفع برجها 15 مترا وقد كسي بالفسيفساء الايطالية ذات اللون الازرق والابيض وانتهت اعمال انشائها عام 1961، ثم جددت باكساء البرج بصفائح من الالمنيوم المضلع ذي اللون الذهبي بعد عام 1973 .