جراحون أميركيون يعيدون الأيدي المبتورة ويزيلون الوشم الأسود على جباه عراقيين عوقبوا في عهد صدام

TT

قبل تسع سنوات في سجن ابو غريب وفي الليلة التي سبقت قيام الأطباء ببتر يده اليمنى كتب نزار جودي رسالة الى زوجته. وكان ذلك آخر عمل يقوم به بيده التي كان مقررا بترها بناء على أوامر نظام صدام حسين كعقاب له على جريمة التعامل التجاري بالدولارات الأميركية.

وكتب جودي الى أم فوقان تلك الليلة «لا تكوني حزينة. سيعوضني الله بيد أحسن منها. سيجازيك الله على الوقوف الى جانب زوجك لتكوني يده اليمنى».

وبفضل مخرج الفيلم الذي يسكن في منطقة فيرفاكس، وستة من موظفي الرعاية الصحية، ومشاريع تجارية في هيوستن، تحقق وعد جودي لزوجته يوم الاثنين الماضي.

وقد انهى الأطباء وجراحو الأعضاء الصناعية المتأثرون بمأزق جودي وستة تجار عراقيين آخرين ممن بترت اياديهم اليمنى في أبو غريب، تهيئة يد لكل واحد من الأشخاص الستة بقيمة 50 ألف دولار. كما أزيل الوشم الأسود الذي اتخذ شكل صليب على جبهة كل رجل لوصمه كمجرم من قبل طبيب جراحة بلاستيكية في هيوستن قبل اسابيع. وقد جرى التبرع بكل الخدمات والمنتجات.

وبينما يتزايد السخط على الأميركيين في العراق كل يوم فان هؤلاء العراقيين السبعة يشعرون بامتنان عميق ليس فقط لامتلاكهم أيادي جديدة وانما أيضا لدور الولايات المتحدة في انهاء ما يسمونه «عهد الرعب» الذي حصد أرواح 2.5 مليون من أبناء بلادهم.

وقال صلاح زناد «أبلغوا الشعب الأميركي ما يريد جميع العراقيين ابلاغهم به. قولوا لهم: شكرا، شكرا، وألف شكر لكم».

وكان العراقيون الستة الآخرون مفرطين أيضا في امتنانهم، ولم يؤثر على مشاعرهم ما عكسته فضيحة أبو غريب الأخيرة بحق السجناء العراقيين. وقال زناد «لدينا الآن حرية في البلاد. نستطيع قول كل ما نريد، بينما في عهد صدام كنا نتكلم همسا».

وفي مقابلات اجريت معهم مؤخرا كان العراقيون السبعة غير مترددين في ثقتهم بمستقبل العراق ودور الولايات المتحدة فيه.

وقال زناد بشأن اساءة معاملة بعض السجناء العراقيين ان «بعض الجنود الأميركيين يخلقون مشاكل. وهذا هو ليس حال كل الأميركيين. وسيعاقب الأميركيون الذين اقترفوا افعال اساءة المعاملة. وفي عهد صدام كانت مثل هذه الانتهاكات موضع مكافأة وتقدير. ان العراقيين يدركون الفارق بين الحالين».

وقال قاسم كاظم عن الأميركيين الذين يعتقدون ان غزو العراق كان خطأ «أعتقد ان أولئك الناس يرتكبون خطأ ذلك أن الناس جميعا أشقاء في نظر الله. يجب علينا أن نساعد بعضنا البعض اذا كنا نواجه المشاكل. كيف نستطيع فعل ذلك اذا لم يساعدنا أحد؟».

وقال باسم الفضلي عن سبب غضب كثير من العراقيين ان «لديهم مبررات مقبولة للغضب. كانت هناك أخطاء كثيرة بسبب الفوارق الثقافية. ان العراق بلد مختلف عن أميركا. كنا تحت حكم صدام لمدة 35 عاما. ولكن ذلك لا يعني ان العراقيين لا يريدون الديمقراطية. الناس يحبون الحرية، ومع الحرية يحتاجون الى الحياة».

وقد اصبح العراقيون السبعة مشاهير في هيوستن وهم يتعلمون كيفية استخدام أعضائهم الصناعية ويتلقون بعضا من ضيافة تكساس عندما يكونون خارج المستشفى. وفي الأسبوع الحالي قاموا بزيارة الى واشنطن ليستخدموا أعضاءهم الجديدة وهم يصافحون أيادي المزيد من الأميركيين ممن يرغبون في تقديم الشكر لهم وبينهم جنود في المركز الطبي العسكري في والتر ريد الذين عانوا من التشوهات الجسدية. وهم يعتزمون أيضا وضع اكليل من الزهور على ضريح الجندي المجهول.

وقال كاظم «صدام هو الماضي. يجب علينا الآن أن نقيم صلات عمل تجاري مع أميركا».

وتبرع المستشفى الميثودي ومعهد التأهيل والبحوث ومعهد العظام والأعضاء الاصطناعية بغرف لإجراء العمليات الجراحية ولإعادة التأهيل والتدريب في مقر الخطوط الجوية الأوروبية بهيوستن ودفعت لسبعة من العراقيين أجور نقلهم.

وجاء استقبال العراقيين بالدهشة في الأيام الأولى بتكساس وكان احتمال وقوع جولة من العمليات الجراحية لتقصير أذرعهم أكثر فأكثر. وقرر الجراح أغريس وآخر اسمه فريد كيستلر أن العمليات الجراحية في أبو غريب قد تركت الرجال مع ألم حقيقي أكثر منه مجرد وهم فهناك تحسس بالألم في الأطراف التي أجريت عليها عمليات سابقا وهي بحاجة إلى عمليات لإصلاح الأعصاب لتشكيل سطح ناعم جديد قادر على استقبال الأيدي الاصطناعية.

في الأسبوع الماضي استرجع الرجال صحتهم إلى درجة جعلتهم جاهزين لتثبيت أياديهم الاصطناعية التي تتحرك بواسطة الأعصاب، وهذا باستخدام جهاز ميكروسكوبي يعين على تسلم الأوامر من الدماغ باتجاه الأقطاب الكهربائية المشدودة إلى أعصاب الذراع. والعراقيون يدربون أنفسهم لتحريك العضلة المناسبة للسيطرة على حركات اليد وهي عملية ستحتاج إلى أشهر للإتقان. وهم حاليا بدأوا بالتمكن من رمي الكرات ومصافحة الأيدي ورفع الكؤوس.

وسيعود الجراح أغريس ونورث إلى بغداد مع السبعة المعالجين في أوائل يونيو لضمان أن يكون لهم دعم طبي مناسب ورتب أغريس وضعه لزيارة آخرين فقدوا أذرعا أو سيقانا وهو سيساعد مستشفيات بغداد لتطوير معارفها حول عمليات قطع الأطراف والأطراف الاصطناعية.

وقال أغريس «الشيء الذي جعلني أكسب عقول وقلوب الناس هو الجهد الانساني لا البنادق. أنت تعتني بطفل شخص وهذا لا يؤدي إلى مساعدة الطفل فقط بل أنت تكسب حب أسرته أيضا. والأسرة تتكلم للجيران وأنت تكسب الجيران أيضا. إن ذلك سيضاعف من كسب الناس».

ويظن أغريس أن السبعة الذين تعالجوا في الولايات المتحدة سيؤثرون على عراقيين آخرين. وقال أغريس «نحن سنبدأ بمشاهدة صدى ما قمنا به خصوصا من خلال شخص مثل الفضلي الذي لديه عمل في محطة التلفزيون الجديدة فهؤلاء سيجلبون نظرة وسلوكا مختلفين».

ولم يرفض أي طرف رسمي ما طلبه الجراحون أغريس ونورث وزيندلر حينما كانوا بحاجة إلى مساعدتهم لجلب المرضى إلى الولايات المتحدة. فبول بريمر رئيس إدارة سلطة الاحتلال كتب مذكرة تسمح بإجراء الرحلة ومنحت وزارة الأمن الداخلي سبع تأشيرات دخول طارئة ثم قامت القوة الجوية الأميركية بنقل المصابين العراقيين إلى ألمانيا ومن هناك أخذوا طائرة تعود إلى الخطوط الجوية «كونتيننتال» إلى هيوستن. قال أغريس «هذا هو ما نحن عليه حقا كبلد».

بعد مرور شهرين على معالجة العراقيين في هيوستن شعر هؤلاء بالحنين للوطن. فعكار بدأ بالشوق للعودة إلى محل صياغته وجميعهم استهلكوا ما قيمته 6 آلاف دولار على المكالمات الهاتفية وغسل الملابس في الفنادق.

ويسعى نورث ببيع فيلمه الوثائقي حول الرجال السبعة إلى شبكات التلفزيون. وهو قلق من أن يكون الإعلان عن أن المصابين العراقيين الذين تلقوا أذرعا باهظة الثمن قد يكونون هدفا للقتل عند عودتهم إلى بلدهم وقال نورث «كل شخص محترم ومنتج في المجتمع أصبح هدفا داخل العراق».

لكن العراقيين أنفسهم غير قلقين. يقول أغرّ «أصدقاء صدام لا يمتلكون سلطة الآن. العراق يتكون من ملايين كثيرة من الناس بينما هم بالمئات إنهم هم الذين يعيشون خائفين الآن».

وأضاف كاظم «الله سيرعانا حالما تتم محاكمة صدام سينتهي كل شيء إن شاء الله سيكون ذلك سريعا».

وحينما يعود الفضلي إلى بلده فإن الشيء الأول الذي سيقوم به مع يده الجديدة هو تحريكها بقوة أمام أصدقائه وجيرانه. أما خطط كاظم فهي حضن أطفاله السبعة بذراعه دفعة واحدة. قال عكار إنه يريد أن يصافح بشكل مناسب يد صديق ظل يهتم ببيته وأسرته أثناء وجوده في السجن.

وفي الأسبوع السابق لم يجب جودي الموجود في مستشفى ديناميك أورثوتكس حينما سئل عم سيفعل أولاً فهو الآن مشغول باستخدام يده الاصطناعية في عمل شيء بدأه قبل أن يفقد يده. إنه يكتب رسالة إلى زوجته.

وكانت تجربتهم قد بدأت قبل عام عندما سمعوا حديثا في واحدة من مقاهي بغداد. فقد كان دون نورث وهو مراسل سابق لشبكتي تلفزيون ايه بي سي وان بي سي، وهو الان منتج يعمل لحسابه، في بغداد في شهر يونيو الماضي للمساهمة في تأسيس شبكة الاعلام العراقية عندما تلقى شريط فيديو من واحد من الصحافيين العراقيين الذي يعمل لحسابه. وظهر فيه اطباء يبترون ايادي 9 سجناء عراقيين في سجن ابو غريب عام 1995. وقال نورث «لقد شاهدت الكثير من اشرطة الفيديو، ولكن هذا الشريط كان فظيعا». وكانت الشرطة السرية قد طلبت في عام 1995 من صاحب محل فيديو صغير اعداد عشر نسخ من الشريط. وقد اعد نسخة اخرى واحتفظ بها دليلا على الفظائع. وهذه هي النسخة التي وصلت الى نورث.

وقال الفضلي انه بعد عام في السجن و5 اشهر في سجن ابوغريب، شعر بالراحة عندما سمع انه سيتم الافراج عنه وعن باقي التجار الثمانية بالرغم من بتر ايديهم.

واضاف الفضلي «كنا محظوظين. لقد بقي البعض في السجن لفترات اطول. لقد تم اعدام 30 الفاً في ابوغريب». وقد استمرت المحكمة لمدة 30 دقيقة. وقال الفضلي ان المجموعة كانت تعتقد انها كبش فداء لصدام حسين لان الاقتصاد كان قد انهار بعد حرب الخليج. واكد فرهاد طه ان ايديهم المبتورة ارسلت الى صدام حسين للتأكد من تنفيذ الحكم. وطه كان واحدا من الجراحين الذين حضروا عملية البتر والذي اجرى معه الفضلي، الذي يعمل الان مع شبكة الاعلام، حديثا. ويشير نورث الى ان بغداد هي «مدينة البتر» واوضح «انه بين بناية واخرى يمكنك مشاهدة مابين شخصين الى ثلاثة اشخاص بيد او ساق مبتورة او اذن مقطوعة». وقد تمكن واحد من المجموعة من الهرب الي اوروبا بعد الافراج عنه ومات اخر. وخلال السنوات التسع الماضية، ابتعد باقي اعضاء المجموعة الاحياء عن الانظار وعاشوا حياة الخائفين. كما اصبحوا يدعمون بعضهم البعض تربط بينهم علاقة ابدية بسبب الوقت الذي قضوه في السجن.

وبعد مشاهدة الشريط صمم نورث على تصوير فيلم وثائقى عن الرجال. واوضح «لقد كانت قصة مشهورة في بغداد».

وقرر نورث التخلي عن دوره كمراقب محايد و«عدم الانتظار لكي يشاهد طبيب الفيلم ويعرض المساعدة. وسمع حديثه مهندس نفط من هيوستن هو روجر براون، يتحدث عن الموضوع في احد مقاهي بغداد. واقترح ان يتصل نورث بالمذيع التلفزيوني الشهير مارفين زيندلر. وزيندلر مذيع اخبار شهير من تكساس يؤيد دائما حقوق الطرف الضعيف. وبالرغم من ان مجال زيندلر هو الصحافة الشعبية، فإنه يستخدم برنامجه المعروف باسم اخبار الشهود لكي يريح المبتلى، بدلا من اشعار الشخص المريح بالالم.

وتجدر الاشارة الى ان زيندلر في الثانية والثمانين من عمره ولكنه يبدو اصغر بكثير بسبب 30 عملية تجميل. وقد ادت هذه العمليات الي صداقة قوية مع جو أغريس جراح التجميل. وبعد الحديث مع نورث اتصل زيندلر بأغريس لتحريك الموضوع.

وجمع أغريس، الذي تطوع لاجراء جراحات ترميمية في فيتنام ونيكاراغوا على الاطفال، الاطباء والممرضات والمستشفيات والعيادات الطبية لحصول المجموعة على ايادي جديدة. وقضى نورث عطلاته يعد الترتيبات. واستغرق الامر عدة شهور لتجميع كل المتبرعين، ومع حلول شهر ابريل كانت المجموعة في طريقها الى هيوستن.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»