قصة السلام السوداني (2) ـ قرنق بعد أيام من انقلاب يونيو89: البشير متمرد مثلي وأنا أكثر منه خبرة في هذا المجال

نيجيريا قادت جهود السلام السودانية لكنها فشلت قبل أن تخطف كينيا والإيقاد الأضواء

TT

في متابعتنا الاولى لمسيرة السلام السودانية، ذكرنا ان الحرب الاهلية في السودان بدأت بتمرد قادة جنوبيين في اغسطس (آب) عام 1955 قبل شهور فقط من اعلان استقلال السودان في الاول من يناير (كانون الثاني) 1956. وقد شهدت الفترة الاولى من اندلاع شرارة الحرب جهودا سلمية سارت جنبا الى جنب مع موجات العنف وإراقة الدماء، وظلت المسيرة تتعثر الى ان جاء انقلاب مايو (ايار) 1969 الذي اتى بالرئيس جعفر نميري الى السلطة. ولم تمض 3 أعوام على الانقلاب حتى وقع النميري مع حركة تحرير الجنوب التي كان يقودها جوزيف لاقو اتفاقية سلام دامت 10 سنوات، وأنهت 17 عاما من القتال في الجنوب. لكن الحرب اشتعلت مرة اخرى في عام 1983 في دورتها الثانية وأشعلها هذه المرة الدكتور جون قرنق فائد الجيش الشعبي لتحرير السودان، تلك الحرب التي دامت 20 عاما وراح ضحيتها حتى الآن اكثر من مليوني شخص بين قتيل بالحرب، او بـ«المجاعة» التي ضربت المنطقة، كما تم تشريد مليونين آخرين او يزيد. وابرزنا في التقرير الاول بعدد امس المحاولات الاولى للسلام التي بدأت بمؤتمر المائدة المستديرة في عام 1965، وتطرقنا الى اول اتفاقية سلام في اديس ابابا عام 1972 والى ظهور حركة قرنق، واشتعال الحرب الثانية وإعلان كوكادام، الذي ارسى اولى خطوات السلام، والى اتفاقية الميرغني ـ قرنق 1988، وانقلاب البشير ـ الترابي. وفي هذا التقرير نبرز المحطات الاخرى البارزة في مفاوضات السلام السودانية.

رفض البيان الأول لانقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989 الذي جاء بالبشير والترابي الى السلطة اتفاقية السلام التي ابرمها الميرغني مع قرنق، كما رفض اعلان كوكادام. وأمر ببداية المفاوضات من نقطة الصفر. ووجه نداء الى قرنق لإلقاء السلاح والبدء في حوار. وقال «هم جنود.. ونحن جنود ولذلك فنحن نتحدث بلغة مشتركة». لكن قرنق رفض التفاوض. وبعد شهرين من الانقلاب وتحديدا في 10 اغسطس 1989 قدم قرنق تحليلا لخطاب البشير، انتقد فيه إلغاء الاتفاقيات السابقة وسخر من عرض العفو. وقال ان «العرض يتميز بالسذاجة والسخف ولا يجدر ان يصدر من البشير». وقال «من الواجب على البشير ان يعي جيدا اننا نعمل ونحارب داخل السودان، ولكن ليست هذه هي النقطة. فالنقطة هي ان البشير ما هو الا متمرد تماما مثل متمردي الحركة، وفي هذا المجال هو حديث عهد بالتمرد». ورفض قرنق ان يكون ممثل اقلية، وقال «كلنا سودانيون وحسب». وحدد شروطا للتفاوض من بينها التخلي عن الفكرة الخاطئة حول طبيعة الازمة السودانية باعتبارها مشكلة جنوب، والتعاطي المجدي مع جذورها بحسبانها مشكلة السودان كله، وإلغاء قوانين الشريعة. وسأل البشير عن موقفه من الاتفاقيات السابقة، وإلغاء حالة الطوارئ.

* مفاوضات أديس أبابا 1989

* ارسل الرئيس البشير موفدين الى اثيوبيا للقاء الرئيس منغستو هيلي مريام، والتشاور معه في موضوع استضافة محادثات سلام سودانية واقناع الحركة الشعبية بالجلوس الى طاولة المفاوضات. وسرعان ما تم عقد هذا اللقاء في اديس ابابا في 19 اغسطس. وترأس وفد الحكومة عضو مجلس القيادة العقيد محمد الامين خليفة وعضوية 10 آخرين من بينهم العقيد حسن ضحوي وكمال علي مختار والسفير علي عبد الرحمن نمر وعمر يوسف بريدو والبروفيسور مدثر عبد الرحيم، ومثل جانب الحركة الدكتور لام أكول وعضوية 10 آخرين من بينهم لوال دينق ول وستيفن ديوال والدكتور منصور خالد ودينق ألور ونيال دينق نيال وطالبت الحركة في اللقاء بفصل الدين عن السياسة، وقيام حكومة وحدة وطنية تفضي الى عودة الديمقراطية، وعقد مؤتمر دستوري جامع. وطالبت الخرطوم بوقف اطلاق النار ووقف الحملات الاعلامية، وتقاسم السلطة مع الحركة واستبعاد القوى الاخرى وعقد الجانبان عدة لقاءات وجلسات واختلفا بعد وقوف الحكومة عند وجوب تطبيق القوانين الاسلامية، وقبلت الحركة بحد ادنى هو تجميدها الى حين عقد المؤتمر الدستوري.

* مؤتمر نيروبي 1989

* في اوائل ديسمبر (كانون الاول) 1989 دعا الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر الى مفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية تحت رعايته. وزار كارتر قبل المفاوضات الخرطوم في ابريل (نيسان) 1989 والتقى الصادق المهدي رئيس الوزراء، كما زار اديس ابابا والتقى قرنق ثم دعاه لاحقا لزيارته في مقر اقامته ومسقط رأسه في بليز ـ جورجيا، لاجراء مزيد من المشاورات.

وكانت الخرطوم قد عقدت قبيل ذلك مؤتمرا للحوار بهدف وضع اجندة للسلام، وقدمت توصيات المؤتمر في المفاوضات في نيروبي. وأصرت الحركة في تلك المفاوضات على تعليق العمل بالقوانين الاسلامية واسترداد الحريات العامة، وتكوين حكومة وحدة وطنية. واقترح كارتر تعليق القوانين الاسلامية لمدة ثلاثة أشهر ينعقد على اثرها المؤتمر الدستوري. كما اقترح الربط بين وقف اطلاق النار وتعليق العمل بالشريعة على النحو التالي: «بعد وقف اطلاق النار والى ان يضع المؤتمر الدستوري قوانينه الدائمة يتوقف العمل بقوانين سبتمبر». وذكر قوانين سبتمبر بدلا من القوانين الاسلامية تفاديا لرفض الحكومة. لكن الخرطوم رفضت الاقتراح.. وفشل اللقاء رغم الضجة الاعلامية الكبرى حوله في السودان.

* جهود نيجيريا:

* في اعقاب اجهاض جهود جيمي كارتر انبرى الجنرال اوليسيغون اوباسانغو الرئيس النيجيري الحالي في الدفاع عن السودان ووحدته وكان يقول دائما ان قلبه يعتصر وهو يرى اكبر دولة في افريقيا تدمر نفسها. ويتمتع اوباسانغو بمهارة دبلوماسية من الطراز الاول الى جانب خبرة عسكرية، وكان قد جمع معلوماته حول هذا الموضوع خلال حقبة الثمانينات عندما عقد في فبراير (شباط) 1987 اجتماعا حول قضايا السودان بمشاركة مركز وودرو ويلسون للباحثين، وكرر ذلك في مارس (آذار) 1988، كما استضاف محادثات في هراري بزمبابوي للتعرف على المشكلة السودانية.

* أبوجا 1

* خلال مؤتمر القمة الافريقية الذي انعقد في صيف عام 1991 بأديس أبابا، ابدى الرئيس النيجيري ابراهيم بابنجيدا رغبة في التوسط في القضية السودانية التي بلغت قمة تعقيداتها في تلك المرحلة، وقررت المنظمة وقتها ان تفيق من غفوتها عن اطول حرب شهدتها منذ انشائها في عام 1963، وظل 3 رؤساء أفارقة فقط في المنظمة يذكرون القضية السودانية في خطاباتهم باشارات عابرة وهم كينث كاوندا (زامبيا) وجوليوس نيريري (تنزانيا) وروبرت موغابي (زمبابوي)، الا ان بابنجيدا فاجأ الجميع وقتها باعلان رغبته في التوسع بين الفرقاء السودانيين، ودعا طرفي النزاع للاجتماع في بلاده، ورحبت الحكومة والحركة بالدعوة. وبعد عدة اسابيع اجتمع الطرفان في ابوجا وتناولت القضايا نفسها في اجتماعات نيروبي. وبدأت الجولة بتعثر شديد، وقد قلل الانقسام الداخلي الذي تشهده الحركة الشعبية بخروج رياك مشار والانتصارات التي حققتها الحكومة ميدانيا، فرص الخروج بنتائج مرضية، لكن اهم ما خرجت به هذه المفاوضات هو «وضع الهوية السودانية» في قلب النقاش. ودعت المواقف المتشددة في المفاوضات الى ان يطلب لام أكول احد قادة الحركة (انشق عنها ثم عاد اليها اخيراً) من المفاوضين التوقف عن الحديث عن الوحدة، ودعا الى اعلان اتحاد كونفدرالي تتبعه ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير، ورد وفد الحكومة على ذلك الطرح بعنف بأن الانفصال لن يتحقق الا بالسلاح.