الاحتلال يحول «القرارة» من ملاذ للباحثين عن حياة وادعة في القطاع إلى جحيم

TT

قبل شهر عاد عادل، 38 عاما، وزوجته وأولادهما الخمسة الى منزلهم عند المدخل الغربي لقرية القرارة شمال مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة، بعد ان امضى ثلاث سنوات مستأجرا لمنزل يقع في طرف معسكر المغازي للاجئين، وسط القطاع.

ترك عادل الذي يعمل في الاتجار بالماشية منزله عند اندلاع الانتفاضة قبل حوالي 3 سنوات و9 اشهر، خوفا من ان يتعرض هو وعائلته لاذى جنود الاحتلال، لا سيما ان المنزل يقع قرب محور كيسوفيم الذي يشق القرية الى نصفين، ويستخدمه مستوطنو التجمع الاستيطاني «غوش قطيف»، غرب القرية.

عاد عادل الى القرارة، بعدما لم يعد قادرا على تسديد اجرة البيت في ظل ركود الحركة التجارية، وبعدما تقدم الجيران بشكوى لقيامه بتربية الماشية في حي سكني. شعر عادل بالضيق اذ انه يضطر لاستئجار منزل رغم انه يملك منزلا بمواصفات جيدة وعلى قطعة ارض تبلغ مساحتها 750 متراً مربعاً في وسط ريفي يسمح له بالاعتناء بماشيته، فقرر العودة الى هناك. وما ان مضت ثلاثة ايام على عودة العائلة، وبينما كان عادل وعائلته يتحلقون حول شاشة التلفزيون، اذا بالارض تتزلزل من حولهم، هدير الجرافات والدبابات افزع حتى الماشية في الحظيرة، اضواء كاشفة حولت ظلمة الليل الدامس في محيط المنزل الى نهار.

«معك عشر دقائق لتخرج من بيتك»، صرخ احد الجنود بلكنة عربية ركيكة. بسرعة انطلق عادل الى حظيرة الاغنام الملاصقة للمنزل وفتحها، فانطلقت الماشية في بستان البرتقال الذي يتاخم المنزل من ناحية الشرق، في حين كانت زوجته تجر اولادها لتخرجهم من نطاق المنزل، وعاد اليها عادل ليساعدها في حمل ابنائه مبتعدين عن المنزل. وها هو عادل الان يسكن في منزل اخيه الاكبر عودة الذي يقطن في الطرف الشرقي من القرية.

ما حدث لعادل حدث للعشرات من سكان القطاع الذين اكتشفوا قبل عقدين من الزمن تلك القرية الزراعية ليفروا من الازدحام في المدن ومخيمات اللاجئين. العديد من المنتمين الى الطبقة الوسطى الفلسطينية من اطباء ومدرسين ومحامين، الباحثين عن بيئة ريفية خلابة وجدوا في القرارة تجسيدا لاحلامهم، وهكذا تضاعف عدد سكان القرية عدة مرات، وقفز من الفي نسمة في مطع الثمانينات الى عشرة الاف الان. الكثير من الفلسطينيين العاملين في دول الخليج والمغتربين في دول الغرب اشتروا اراضي وبنوا منازل فارهة في هذه القرية. وهناك من اقام مشاريع اقتصادية مثل مزارع حيوانية كبيرة، ومزارع للدجاج ومناحل، فضلا عن اقامة معامل لانتاج الطوب. وهكذا اشتعلت القرية الوادعة بالحياة.

ظل هذه الانطباع متكرسا في اذهان سكان القطاع عن تلك القرية حتى قبل عامين، عندما قسمت سلطات الاحتلال القرية الى نصفين وحظرت على سكان كل قسم الانتقال الى القسم الاخر. واصبح الانتقال السري بين قسمي القرية يحتاج الى سبع ساعات، اذ انه يتوجب على شخص يسكن في القسم الشمالي من القرية ان يتوجه الى مدينة دير البلح ومنها الى مدينة خان يونس، ومن خان يونس الى القسم الجنوبي من القرية.

بالطبع ليس دائما يكون شارع صلاح الدين الذي يربط دير البلح وخان يونس مفتوحا للحركة، اذ يتم اغلاقه في كثير من الاحيان من قبل جنود الاحتلال، وهكذا فان الرحلة تستغرق اكثر من يوم، مع انها في الوضع الطبيعي لا تزيد عن دقائق. لكن الامر الذي جعل الحياة مستحيلة بشكل اكبر هو قيام قوات الاحتلال بتدمير عشرات المنازل في هذه القرية بحجة تحسين مجال الرؤية لجنود الاحتلال الذين يتمركزون على محور كيسوفيم الذي يسلكه المستوطنون. وهكذا تحولت هذه القرية من ملاذ للباحثين عن حياة وادعة الى جحيم لا يطاق.