ماذا وراء استعداد فرنسا للدفاع عن ألمانيا بأسلحتها النووية؟

سياسة باريس الحالية هي: احتضان برلين وتحييد موسكو وابعاد واشنطن عن أوروبا

TT

كانت العلاقات الالمانية ـ الفرنسية ودية ووثيقة على طول الزمن منذ سقوط دكتاتورية الرايخ الثالث الهتلرية عام 1945. وحافظت هذه العلاقة على وشائجها بالرغم من تداول الحكم في البلدين بين الاشتراكيين والمحافظين طوال العقود الستة الماضية.

فكان المستشار المحافظ هيلموت كول يعتبر الاشتراكي فرانسو ميتران صديقه الشخصي. ولاحظ الالمان كيف ذرف كول «القاسي» الدموع علنا عند وفاة الرئيس الفرنسي الاشتراكي. ويعتبر المستشار الاشتراكي غيرهارد شرودر الرئيس الفرنسي المحفاظ شيراك صديقه الشخصي وتكفي جلسات العشاء الخاصة والمتكررة بين الاثنين للكشف عن هذا الود.

في المقابل ادت فرنسا دورا حاسما في انتصار الشمال الاميركي على جنوبه ابان الحرب الاهلية الاميركية، وما يزال تمثال الحرية المنتصب قبالة نيويورك يشهد على تلك العلاقة الخاصة. ولم يقصر الاميركيون في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي اذ سقط اكثر من 20 ألف جندي اميركي في المعارك التي اعقبت انزال النورماندي الشهير عام 1944.

مع ذلك علا الصدأ هذه العلاقة الفرنسية ـ الأميركية الحميمة في السنوات الاخيرة ودشنت اكثر عصورها الجليدية قساوة بسبب الحرب الاخيرة على العراق. وقد التقت وزيرة الدفاع الفرنسية ميشيل ايلو ـ ماري بنظيرها دونالد رمسفيلد في محاولة لرأب الصدع في العلاقات الثنائية. لكنها عبرت عن قناعتها لاحقا بأنها لم تحقق تقدما يذكر. بل ان الذكرى الستين ليوم الحسم في النورماندي في 6 يونيو (حزيران) الماضي، ووضع اكليل الزهور على نصب الجنود الاميركيين الذين سقطوا في معارك تحرير فرنسا من المانيا، لم يفلح في بعث بعض الحرارة بين شيراك وجورج بوش اللذين تصافحا ببرود. وسرعان ما ثارت ثائرة شيراك ضد «الاخ الاكبر» بعد اجتماع حلف شمال الاطلسي (الناتو) الاخير في اسطنبول بسبب تدخل بوش في قضية عضوية تركيا في الاتحاد الاوروبي.

فالعلاقة بين فرنسا والمانيا تتحسن وتتعمق بمقدار ما تتعقد وتسوء العلاقات بين فرنسا والولايات المتحدة. وتركز فرنسا على سياستها الاوروبية وعلى تحالفاتها في القارة الاوروبية بمقدار ما تتزايد المسافة بين تمثال الحرية في نيويورك وبرج ايفل في باريس. واذا كانت كوندوليزا رايس، مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي، قد عبرت عن سياسة اميركا تجاه معارضي الحرب ضد العراق بالقول انها مسامحة روسيا، متجاهلة المانيا ومعاقبة فرنسا، فإن لسان حال وزيرة الدفاع الفرنسية، في مقابلتها مع صحيفة «برلينر تسايتونغ»، يقول ان سياسة فرنسا الحالية هي: احتضان المانيا، وتحييد روسيا وابعاد الولايات المتحدة عن اوروبا.

ووصلت الوزيرة الى حد قولها ان الحكومة الفرنسية «مستعدة لاستخدام اسلحتها النووية دفاعا عن المانيا». ودعت بشكل مبطن الى «تعزيز القوة النووية الاوروبية في مواجهة العدوان من خلال زيادة مخصصات وزارات الدفاع وعدم احتسابها ضمن نسبة عجز الميزانية».

ويذكر ان «اتفاق الاستقرار» الاوروبي لا يجيز ان يتعدى عجز الميزانية نسبة 3% من اجمالي الانتاج في كل دولة. وتسبب الميزانيات العسكرية اشكاليات كبيرة امام التزام بلدان الاتحاد بهذه النسبة. وتبجحت الوزيرة ايلو ـ ماري بأن فرنسا تخصص 10% من ميزانيتها للمجهود الحربي وقالت ان دولا عظمى مثل المانيا بحاجة الى حماية لأنها لا تخصص الكثير لميزانيتها العسكرية.

وعن مصادر الخطر النووي ضد فرنسا والمانيا اشارت الوزيرة الى ان العديد من دول العالم تسعى لحيازة اسلحة الدمار الشامل، وان فرنسا مستعدة للدفاع عن نفسها باستخدام الاسلحة النووية ضد اي هجوم كيماوي او بيولوجي. وذكرت ان الخطر يتأتى من دول «على حافة الديمقراطية وعلى حافة القانون الدولي احيانا».

واضافت قولها: «يمكننا ان نقول لمثل هذه البلدان: «حذار! اذا حاولتم تنفيذ تهديداتكم فسندمركم من دون ان تتاح الفرصة لكم للدفاع عن انفسكم». وتمتلك فرنسا 4 غواصات نووية تحمل كل منها 16 صاروخا عابرا للقارات اضافة الى طائرات «ميراج» و«سوبرايتندر» وصواريخ جو ـ ارض.

وتساءلت صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية قبل بضعة اشهر عما ان كانت حكومة شيراك قد اعادت النظر في استراتيجيتها النووية وقررت الانتقال الى انتاج القنابل النووية المصغرة «الرادعة لعدوانية الدول الشقية». الا ان الصحيفة لم تجد اي مؤشر الى ان فرنسا قد انتجت هذه القنابل التكتيكية الرادعة واستنتجت بالتالي ان باريس ما زالت تحتفظ بخزانتها النووية التدميرية الكبيرة. وهو الامر الذي يشي بأن التهديدات الفرنسية النووية ليست موجهة للارهابيين فقط.

فمن هو المقصود بهذا التهديد اذا استثنينا الارهابيين؟ هل هي روسيا، التي تعمل السياسة الفرنسية على تحييدها، ام الهند التي اكتسبت تقنيتها النووية من المانيا، ام الولايات المتحدة التي تواصل فرض «العقوبات الصامتة» على فرنسا؟

الجواب يأتي عبر الحقائق التالية: ان الولايات المتحدة لم تكتف بمقاطعة النبيذ والجبنة الفرنسية، وانما شلت حركة الخطوط الجوية الفرنسية الى الولايات المتحدة بحجة مكافحة الارهاب. ثم نقلت مشروع المحطة النووية العصرية من جنوب فرنسا الى اليابان التي ارسلت 600 جندي الى العراق، وفرضت عقوبة مالية قدرها مليار دولار على المصرف الفرنسي الحكومي «كريديت ليوني» بسبب اعمال بورصة غير مشروعة واعادت تطبيع العلاقات مع ليبيا بدون استشارة باريس.

وقد نجد في ما كتبه الصحافي الاميركي توماس فريدمان في صحيفة مرموقة مثل «نيويورك تايمز» ما يعبر عن مستقبل العلاقات الفرنسية ـ الاميركية حيت قال: «فرنسا ليست حليفنا المزعج، وليست منافسنا الحسود فحسب، فرنسا تتحول الى عدونا».