ضحايا صدام يتعافون ولا يبالغون في طلبات التعويض

أحدهم يريد توفير فرصة عمل له وثمن 11 طلقة نارية أرغم على دفعه لإعدام شقيقه

TT

كانت ليلى مهدي تقلب بكفها المغطى بقفاز اسود في كومة من الاوراق والصور داخل ملف بلاستيكي بحثا عن الماضي. وعثرت خلال بحثها عن صورة فوتوغرافية قديمة لشقيقها نعيم الذي اعدم عام 1991، ثم عثرت على صور شقيقيها الآخرين سعدون وعزيز، اللذين اعتقلا واجبرا على السير داخل حقل ألغام أمام الجنود الآخرين خلال الحرب العراقية الايرانية. من ضمن الوثائق الاخرى داخل ملف الوثائق والصور الخاص بليلى مهدي شهادة تسجيل المنزل الذي يملكه في الاصل والداها اللذان اجبرهما نظام صدام حسين على الفرار من البلاد.

كانت ليلى مهدي، 48 سنة، تقف وسط بهو مقر«منظمة الاحرار». تريد ليلى استرجاع منزل الاسرة، فقد عاد والدها بعد عشرين عاما قضاها في ايران لكنه وجد شخصا يحتل منزله. تريد ليلى تعويضا عن اشقائها، انها تريد بالتأكيد ان يكون هناك تعويض للمعاناة التي كانت طابعا ملازما لحياتها تحت ظل حكم النظام العراقي السابق. هناك ملايين مثل ليلى مهدي، اذ ان الحكومة العراقية الجديدة التي تعمل جاهدة للوقوف على قدميها في ظل تواصل اعمال العنف، تواجه ايضا عبء معالجة آثار الماضي، ذلك ان الكثيرين عانوا من نظام صدام حسين ومن حزب البعث ويسعى كثيرون الى العدل والإنصاف. يقول وزير حقوق الانسان العراقي بختيار امين ان ما حدث من انتهاكات خلال فترة حكم النظام السابق لا يمكن تجاهله لأن الماضي موجود الآن، على حد قوله، وأضاف بختيار معلقا ان صدام حول العراق الى متحف ومعرض للجرائم والمقابر الجماعية، مؤكدا انه يتوقع الكثير من طلبات التعويض عن الأضرار الفردية والجماعية، إلا ان الطريقة التي سينظر من خلالها الى هذه الطلبات لم تتضح بعد، رغم ان سلطة التحالف المؤقتة بقيادة الولايات المتحدة أنشأت لجنة عراقية في مايو (ايار) الماضي للنظر في هذا الامر. وقال الحاكم المدني السابق للعراق بول بريمر خلال الكلمة التي القاها بمناسبة تشكيل اللجنة ان «الحكومة لا يمكن ان تمسح الانتهاكات السابقة او تزيل التشوهات التي تركتها»، لكنه اشار الى ان تعويض ضحايا هذه الانتهاكات والمعاناة يمكن ان يوفر لهم بعضا من العدالة والإنصاف. يشار الى ان الجهات المسؤولة لم تنشء حتى الآن نظاما لتسلم هذه الشكاوى والتظلمات، اذ ان الشخص الذي عينه بريمر مسؤولا عن هذا الجانب جرى تعيينه في وقت لاحق وزيرا للعدل لينصرف الى التحضير لمحاكمة صدام حسين على جرائم الحرب التي ارتكبها. وكان بريمر قد رصد مبلغ 25 مليون دولار كجزء بسيط من الميزانية الكاملة التي يحتاجها هذه المشروع حسب التقديرات التي وضعت اعتمادا على مجهودات مماثلة بعد حرب الخليج الثانية عام 1991. فعلى مدى 13 عاما دفعت لجنة التعويضات التابعة للامم المتحدة 18.4 مليار دولار لـ1.5 مليون شخص تضرروا من حرب الخليج. إلا انه لا توجد آلية مماثلة لتعويض العراقيين. وفي هذا السياق يقول بختيار امين ان بعض اصحاب الاعمال في الكويت حصلوا على تعويض عن الاضرار التي لحقت بأعمالهم التجارية، فيما هناك اسر فقدت ستين من افرادها ولم تحصل على أي شيء. ويقول امين ان العالم يعتبر مسؤولا ايضا عما ارتكبه صدام حسين في العراق، فصدام كما يقول امين، «ليس صنيعة عراقية فقط وإنما جاء الى السلطة من خلال الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي والدولي له، في وقت كان فيه الشعب يبكي ويعاني»، على حد قوله. وتابع امين قائلا ان «صدام عندما شن حربه ضد ايران ابتداء من عام 1980 حتى عام 1988 كان ابنا مدللا للمجتمع الدولي».

اما عبد الامير الياسري، فلا ينتظر مساعدات من الاجانب. قضى الياسري 10 سنوات في السجن، من بينها 18 شهرا قضاها ويداه مقيدتان خلف ظهره. وتعرض الياسري للاعتقال والتعذيب بتهمة تحريضه عمالا اجانب على ترك العمل في المصنع الذي كان يعمل فيه. فقد الياسري احدى كليتيه نتيجة للضرب والصعق بالكهرباء، كما ان نظام صدام حسين اعدم 50 من اعضاء اسرته. ويقول الياسري ان ما يريده هو فرصة عمل من الحكومة العراقية الجديدة وقيمة 11 طلقة نارية استخدمت في إعدام شقيق له. جدير بالذكر ان نظام صدام حسين كان يجبر اسر الاشخاص الذين كان يحكم عليهم بالإعدام بدفع قيمة الطلقات النارية التي تستخدم في اعدامهم. يعتقد الياسري ان على الحكومة العراقية الجديدة الاضطلاع بواجباتها وحل المشاكل التي خلفتها الحكومة السابقة. جدير بالذكر ان مئات الآلاف من العراقيين توجهوا الى رابطة تحرير السجناء العراقيين الطوعية، التي بدأت عملها بعد الحرب مباشرة، بغرض تسليم التقارير الخاصة بظروف فقدان ذويهم. بعضهم، مثل ليلى مهدي، التي تسعى للحصول على تعويض، كان يحمل قصصا طويلة مكتوبة بخط اليد او بعض الوثائق الرسمية التي حصلوا عليها. وجاء الكثير من هؤلاء حرصا على تسليم الرابطة بما يستجد من معلومات لديهم. ويقول عبد الفتاح الادريسي، نائب مدير منظمة السجناء الاحرار، ان المنظمة فتحت ملفات لحوالي 200000 قتلوا في عهد صدام حسين، بالاضافة الى 40 ألف مسجون سياسي. ويعتقد الادريسي ان هذا الرقم لا يمثل سوى 5 في المائة فقط من العدد الكلي. فقد مات ملايين تحت حكم نظام صدام حسين وحزب البعث، ذلك ان النظام الذي كان يسيطر عليه المسلمون السنة مارس اضطهادا ومضايقات مستمرة ضد الشيعة داخل العراق واضطرتهم للفرار من العراق، كما زجت بمئات الآلاف منهم في الحرب ضد ايران، فضلا عن قتل آلاف منهم عام 1991 في انتفاضة الشيعة التي شجعتها الولايات المتحدة. قتل النظام ايضا آلاف الاكراد بالغاز في حلبجة عام 1988، فضلا عن تجفيف منطقة الاهوار التي يسكنها من يطلق عليهم «عرب الاهوار». وكان كل من يشتبه في معارضته للحكومة يعتقل ويخضع للتعذيب او يقتل، اما ممتلكات هؤلاء، فمصيرها المصادرة وكانت تمنح عادة للموالين لحزب البعث. من المتوقع ان تأتي طلبات تعويض من خارج العراق. فقد اشارت ايران الى ان لها مطالب متعلقة بالحرب العراقية ـ الايرانية، كما ان يهود العراق، الذين كان يقدر عددهم بحوالي 150000 عام 1947، اجبروا على مغادرة العراق تدريجيا وترك ممتلكاتهم، فيما يفكر منفيون اخرون في التقدم بطلبات تعويض ايضا، بل حتى بعض الاميركيين الذين وقعوا اسرى لدى الجانب العراقي في حرب الخليج الثانية عام 1991 يعتزمون التقدم بطلب للتعويض. وكانت محكمة استئناف في واشنطن قد رفضت قرار محكمة اميركية اخرى بدفع مبلغ 959 مليون دولار كتعويض لـ17 اسير حرب اميركيا. وقال عادل عبد المهدي، وزير المالية العراقية، ان بلاده تعاني من ديون خارجية تبلغ 120 مليار دولار، لكنه اكد ان الحكومة الجديدة لن تتجاهل المطالبات بالتعويض. ويأمل المهدي في ان تعفي بعض الدول ديونها المستحقة على العراق وتساهم في إعادة الإعمار، وأشار الى ان الثروة التي استولى عليها صدام حسين وأسرته ستساعد في هذا الجانب. من جانبه قال وزير حقوق الانسان، بختيار امين، ان شركات كثيرة حققت ارباحا من حكومة صدام حسين وزودته بأسلحة ومواد كيماوية والامكانيات التي استخدمت في قمع العراقيين. وقال أمين انه مثلما رفع اليهود دعاوى تعويضات ضد الشركات التي تعاملت مع النظام النازي خلال الهولوكوست سيرفع العراقيون دعاوى ضد هذه الشركات إلا اذا بادرت بعرض مساعدتها للعراق والعراقيين. جدير بالذكر ان السيناتور الجمهوري سابقا جيسي هيلمز، كان قد نشر قبل وقت قصير من حرب الخليج قائمة بأسماء 131 شركة كانت تتعامل تجاريا مع العراق، وتضم هذه القائمة 86 شركة ألمانية و10 شركات اميركية و10 شركات بريطانية مع تفاصيل العقود التي زودت بموجبها النظام العراقي السابق باجهزة متنوعة وبضائع ومواد استخدمت في صناعة الذخيرة والاسلحة الكيماوية. وعلق امين قائلا ان الشركات التي ساعدت النظام العراقي السابق في انتاج اسلحة كيماوية وبيولوجية حققت من وراء ذلك ارباحا طائلة، مؤكدا ان العراق سيرفع دعاوى ضد هذه الشركات عاجلا او آجلا. يقول هيثم شمخي، 29 سنة، انه لا يتوقع تعويضا من أي شخص، فقد اعتقل النظام العراقي السابق شقيقيه احمد وعلي، عام 1982. نفذ الاعدام في أحمد على وجه السرعة، اما مصير علي فظل مجهولا منذ ذلك الوقت حتى عثر هيثم على اسمه في قائمة خاصة بسجناء جرى اعدامهم في وقت سابق عثر عليها ضمن وثائق اجهزة الأمن العراقية عقب سقوط النظام، إلا ان هيثم لم يبلغ والديه لأنهما لا يزالان يأملان في عودة علي ولن يتحملا مثل هذا الخبر. يدور حديث حول منح الافضلية في شغل الوظائف لافراد اسر الاشخاص الذين تعرضوا للإعدام، ويقول هيثم، الذي يبيع الخضر في شوارع الأحياء من على عربة تدفع باليد، اذ يعتقد هيثم ان دفع الحكومة لأية تعويضات مهما كانت محدودة سيساعد الكثير من الاسر. لكنه يؤكد ان أي تعويض لن يعيد له اشقاءه الذين اعدموا، لكنه يريد فقط ان يشعر بأن الحكومة العراقية الجديدة مهتمة على الاقل بذوي الذين اعدموا.

*خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»