مثقفون وسياسيون يجمعون في ختام ندوة «العرب والأميركان» في أصيلة المغربية على حاجة أميركا مثل العرب لإصلاحات

TT

جدد محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، دعوته لإحداث مراكز للدراسات الأميركية في الجامعات العربية على غرار مراكز البحث الموجودة في نظيراتها الأميركية التي تهتم بقضايا العالم العربي والإسلامي، متمنيا أن تتحول المراكز المأمولة إلى مشتل لتفريخ الأفكار وإنتاجها.

وأضاف بن عيسى، الذي كان يتحدث الليلة قبل الماضية في ختام أعمال ندوة« العرب والأميركان وجها لوجه.. قضايا وتحديات» التي استمرت على مدى يومين «إن قلة من الساسة العرب يعرفون كيف يصاغ القرار السياسي في الولايات المتحدة، كما لا تدري الغالبية العظمى من الناس أن الكونغرس هو الذي يحكم في تلك البلاد ويقرر في صرف كل دولار».

وأعرب بن عيسى عن سعادته بمواصلة الحوار بين نخبة من الباحثين والأكاديميين، مذكرا أن مدينة أصيلة المغربية كانت السباقة منذ 26 سنة خلت إلى إثارة قضايا مماثلة في ندوات موسمها الثقافي، لم تخطر ببال أحد آنذاك، مشيرا إلى أن مصطلح العولمة ربما جرى تداوله بين الألسن في هذه المدينة الصغيرة التي تحولت ندواتها مع مرور الزمن ونضج التجربة إلى ما يشبه البرلمان الثقافي الأول من نوعه في المغرب والعالم العربي والذي يقوم بدور تربوي، ساهم في خلق جيل من الشباب يؤمن بقيم التسامح، ويصغي إلى الآخر.

وأضاف بن عيسى، إن الندوة هي حلقة ضمن مسلسل طويل من النقاش والحوار، مشيرا إلى أنه ينبغي النظر إلى أميركا كحضارة ونهضة وليس كقوة مسيطرة فقط، ذلك أنها تدخل البيوت من جميع الأبواب والمنافذ، متمنيا ألا يعود العرب إلى إغلاق أبوابهم كما فعلوا حيال النهضة الأوروبية التي لم يستفيدوا كثيرا من منجزاتها الحضارية والعلمية، باستثناء بلدان قليلة.

وألح بن عيسى على ضرورة التمييز بين العلم والثقافة والقرارات السياسية التي تتخذها الحكومات بما فيها الأميركية لأسباب ظرفية، من دون نسيان أن المجتمع الأميركي متعدد الأعراق والثقافات، مما يشكل مزيجا مجتمعيا فريدا من نوعه، لم يستقر بعد على شكله النهائي بسبب استمرار الهجرات إلى الولايات المتحدة.

وتميزت الجلسة الأخيرة من ندوة «العرب والأميركان»، بكم هائل من المداخلات والتعقيبات والتوضيحات والردود المتبادلة بين المشاركين، لكن الحوار الهادئ طبع كل مراحلها، على الرغم من المناطق الساخنة التي اقترب منها النقاش الذي تابعه الجمهور، لا سيما ما يتعلق بقضية الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وكيفية تعاطي القوة العظمى معه وانحيازها التام الذي لاحظه أغلبية المتدخلين بمن فيهم الأميركيون الذين لم يكونوا معبرين عن وجهة النظر الحكومية بقدر ما حاولوا تعرية جذور القرار السياسي الأميركي حول مجمل قضايا السياسة العالمية.

وأخذ موضوع الإصلاح السياسي في الدول العربية وموقف الولايات المتحدة منه، الذي يصل الى درجة التدخل وفرض الوصاية على مجتمعات وأنظمة تحرص على التوفيق بين ضرورة الإصلاح وحتميته وإكراهات الحاضر التي تحد في كثير من الحالات من سرعة سير التطوير المبتغى. وفي هذا السياق، أثار المغربي، الحسان بوقنطار، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس في الرباط، مسألة الخصوصية والتعميم، حين اعتبر أن الدول العربية لا تواجه مشكلة الحداثة بطريقة واحدة بل بأساليب شتى حسب خصوصيات كل بلد. وضرب مثالا على ذلك بالحالة المغربية حيث لاحظ أن بلاده قطعت أشواطا مهمة في مجال الإصلاحات الديمقراطية، لكن التحدي الذي يواجه المغرب هو المشكلة الاقتصادية والاجتماعية، بينما لا يمكن في نظر الباحث ترسيخ الديمقراطية من دون تحقيق درجة من الرخاء، لكنه استدرك قائلا إن قضية الخصوصية تصبح أحيانا عائقا يتعلل به خصوم التقدم لعرقلة الإصلاح. وختم بوقنطار مداخلته بالتساؤل عن إمكانية نقل التجربة الديمقراطية وتعميم نموذج واحد على سائر المجتمعات.

وربط أكثر من متدخل بين الإصلاح السياسي وصيرورته وتأثره بالوضعية الاقتصادية. وهكذا ذهب الوزير اللبناني الأسبق، جورج قرم، إلى أن البطالة هي القضية الأولى في العالم العربي. ولو أن الاقتصادات العربية دخلت فعلا ما أسماه بمرحلة الحداثة الاقتصادية، لما وقعت أحداث سبتمبر (أيلول)، مضيفا أنه لو توفرت كذلك فرص عمل للشباب العربي، لما خرج منه انتحاريون. وعزا قرم أسباب فشل الإصلاحات إلى عوامل داخلية وخارجية متشابكة. فالاقتصادات العربية تعتمد الريع منذ عهد السلطنة العثمانية التي اعتمد اقتصادها على ما سماه قرم «الاقطاعية الضريبية»، موضحا أن مجيء الاستعمار حافظ على ما يشبه النظام الاقتصادي العثماني بخلق احتكارات لصالح الشركات الأوروبية الكبرى. وبعد الاستقلال، حدث فراغ، سعت الدول الوليدة لملئه بتأميم القطاعات الاقتصادية الأساسية. وزادت الفورة النفطية في تعزيز الطابع الريعي للاقتصادات الناشئة، مما يمنع المجتمع العربي من الدخول إلى عصر الحداثة. وفي نظر الباحث، فإن النسق الاقتصادي العربي لم يتغير في عهد الخصخصة، بل استمر على نفس المنوال مع نقل الاحتكار من الدولة إلى مجموعات مالية كبرى.

ونوه روبرت هولي، مدير مركز العلاقات المغربية الأميركية بواشنطن، بالتجربة المغربية في الإصلاح السياسي، معتبرا أن المغرب يملك مشروعه الخاص الذي لم يفرض عليه بل صاغه طيلة 15 سنة الأخيرة. ورغم تشاور المغرب مع الولايات المتحدة وأوروبا، فإن منتوجه الإصلاحي، جاء مغربيا خالصا، مزج بين الخصوصية المحلية وقيم الحداثة العالمية، لكن ذلك لا يعني أن النموذج المذكور قابل للتصدير إلى باقي الدول العربية. وناشد هولي الدول المعنية القيام بالاصلاح، والاحتذاء بالتجربة المغربية.

وفي جلسة صباح اول من أمس التي خصصت لمناقشة محور الإصلاحات الديمقراطية، رأى مثقفون عرب وأميركيون كانوا يتحدثون خلال الجلسة المخصصة لمحور «مفهوم الاصلاحات الديمقراطية لدى العرب والاميركان» ان النظام الاميركي بحاجة هو الآخر لإصلاحات عميقة حتى يتم تصحيح نظرته للآخر وأسلوب اتخاذه للقرار، وحتى يستطيع التحرر من هيمنة اليمين المحافظ الجديد الذي يريد نشر نوع من التفكير يستند الى الأصولية المسيحية والصهيونية. واعتبر المثقفون العرب الحاضرون ان الاصلاح في العالم العربي يجب ان ينبع من الداخل وأن ينتج عن دينامية تاريخية محلية لا أن يفرض بالقوة. وانطلق ريتشار روفن، نائب رئيس المركز الدولي للمبادرات البديلة بواشنطن، من كون الديمقراطية مفهوما نسبيا جدا، ومن أن الديمقراطية الاميركية بدورها ما زالت رهينة التطور وأسيرة عدد من النقائص على رأسها الدور المتعاظم الذي يلعبه فيها المال واللوبيات المنظمة التي تبسط هيمنتها على ارادة الناخبين الاميركيين وعلى العديد من مراحل صنع القرار.

واعتبر المتدخل ان «هناك تهديدات حقيقية تطال درجة احترام الدولة الاميركية للديمقراطية وحقوق الانسان. ومن نماذج ذلك ما حدث في غوانتانامو وسجن ابو غريب (العراق)، وعندما ترفع بعض الاصوات للتنديد بهذه الخروقات والاحتجاج على خرق الحقوق المدنية يصفها بعض الاميركيون بكونها اصوات افاع وعلامة على الخيانة». واستنتج روفن انه «ونظرا لمجموعة من النقائص تشوب ديمقراطيتها فان على الولايات المتحدة الا تسعى لفرض الديمقراطية بالقوة على الشعوب الاخرى، خاصة ان نبرة الديمقراطية لا يمكن ان تستنبت إذا غابت ظروف الرخاء الاقتصادي». مشيرا الى أن على الولايات المتحدة ان تسعى لتشجيع هذه الدول من دون الضغط عليها ولرعاية المؤسسات الاهلية المنتمية للمجتمع المدني في منطقة الشرق الاوسط.

واضاف روفن: «اعتقد ان هناك خطوات على الولايات المتحدة القيام بها لتغيير الامور لدى جميع اطراف المعادلة: اي داخل اميركا نفسها وداخل الدول العربية، فكلاهما بحاجة للاصلاح، العالم اصبح قرية صغيرة، وما يحدث هنا ينعكس على الوضع في العالم اجمع، الذي يحتاج بدوره لإصلاح شامل، لذا يجب اعادة ترتيب الامور داخل بلداننا لاعادة الطابع الحضاري والحواري لعلاقات العرب والاميركان، وبدلا من حصر جهودنا داخل دوامة التطاحن الكلامي والهجومات الخطابية، يجب ان نبحث تعاون وتنسيق اكبر لتعزيز الحوار الهادئ العميق والايجابي».

واختتم المتدخل ورقته بالتعبير عن الاسف لكون الجالية الاسلامية بالولايات المتحدة (6 ملايين نسمة) لا تنخرط بالقدر الكافي في العمل السياسي بأميركا، مما يحرمها من امكانية نقل خبرائها الى بلدانها الأصلية والمساهمة في القيام باصلاحات ديمقراطية في هذه البلدان.

وواصل عبد الوهاب بدرخان نائب رئيس تحرير جريدة «الحياة» في ورقته عملية تفكيك ميكانيزمات انتاج المفاهيم داخل الحقل الاعلامي والسياسي في اميركا بعد احداث 11 سبتمبر (أيلول) التي اعتبرها منعطفا حادا في مسار الوعي الاميركي بالآخر، وبصورة الاسلام والمسلمين على وجه الخصوص. واعتبر بدرخان ان احداث 11 سبتمبر (ايلول) شكلت صدمة لوعي الاميركيين وفسروها بكون «الارهاب الاسلامي» قد وصل الى قلب اميركا ليتم استخلاص مجموعة من المسلمات المغلوطة هي: المسلمون يكرهون الولايات المتحدة، بداية حرب ضرورية وشاملة على الارهاب، ضرورة تغيير البيئة التي خرج منها هذا الارهاب، امكانية تجميد كثير من قيم الحرية والديمقراطية الاميركية خلال هذه الحرب على الارهاب. واضاف بدرخان: «لقد قاد هذا الجو الى وضعية عامة غير لائقة بالولايات المتحدة ولا بالعصر الذي نعيشه. والتحليل التسطيحي الذي قاد الى هذه الاستنتاجات ـ المسلمات المغلوطة غير كاف. كما انه أثر على مدى تطبيق القانون وحماية الحقوق المدنية في الغرب بسبب تصاعد الاعتداءات العنصرية على العرب والمسلمين، واسهم في تأكيد التمييز بين الاسلام والارهاب. كما اننا اصبحنا نشاهد اليوم حملات تبشيرية حقيقية تتحدث عن الخطر الاسلامي المقبل، الشيء الذي يؤكد ان اميركا لم تفهم الدرس لكونها هي التي تسببت في ما جرى، ولكونها شجعت ظاهرة المجاهدين في افغانستان ثم تركتهم في صحراء سياسية نجم عنها انقلابهم عليها، وبدلا من السعي لاصلاح اعمق للوضع تصرفت الولايات المتحدة بطريقة عالمثالثية حين قامت بمحاولات بائسة لتغيير العقول والقلوب بواسطة وسائل الاعلام وخلق قنوات اذاعية وتلفزيونية تمارس دعاية فجة، كأن اطلاق محطة راديو يمكن ان يغير عقليات المسلمين».

واسترسل بدرخان: »ما زالت اميركا ترفض ان تفهم ان مخاطبة قلوب وعقول العرب لا يمكن ان تتم وتنجح الا بتغيير سياستها في منطقة الشرق الاوسط. لقد كان على الولايات المتحدة عوض الانفعال ان تحتفظ بشيء من هدوء القوة العظمى وان تستفيد من مساعدة اصدقائها العرب بعد احداث 11 سبتمر (ايلول) بدلا من المسارعة لوضعهم جميعا في قفص الاتهام، ولتسليم رخص القتل والابادة لاسرائيل». واختتم مداخلته: «كما نعتقد ان العرب بحاجة لاصلاحات، فاميركا هي ايضا بحاجة لاصلاحات عميقة في وعيها وسياستها الداخلية والخارجية. وهي نفسها محتاجة لخريطة طريق تساعدها على العودة الى رشدها».

من جهته، تناول محمد غانم الرميحي (الكويت) خلال ورقته فكرة الاصلاح في العالم العربي من خلال استعراض معوقات هذا الاصلاح ومطالب الشعوب العربية في اللحظة الراهنة. فأشار الى كون هذه الفكرة ليست شيئا طارئا على منطقة الشرق الاوسط بل طرحت بنفس الحدة قبل ازيد من قرن، ثم تجددت مع الفورة الحالية في اقتراحات ومشاريع استنبات الديمقراطية في بلداننا. واوضح الرميحي ان انتظارات الشعوب العربية الآن تتلخص في:

1 ـ تحقيق الامن الوطني وتجاوز المشاكل الحدودية والعسكرية بين الدول العربية نفسها.

2 ـ تحقيق الامن الاجتماعي بالتحرر من القمع وسيادة القانون.

3 ـ ضمان الحرية الفردية والجماعية والحق في حرية التعبير وانشاء وسائل الاعلام.

4 ـ ضمان الامن الشخصي اجتماعيا بالتحرر من الفقر والحاجة والعوز واتاحة فرص تعليم متساوية امام الجميع.

5 ـ تحقييق الامن البيئي بحماية المواطن من التلوث بكافة اشكاله.

واعتبر الرميحي ان تحقيق هذه المطالب لا يمكن الا بايجاد حكومات ديمقراطية في البلدان العربية، مشددا على ضرورة فهم احداث 11 سبتمبر (ايلول) كرسالة موجهة اساسا للانظمة الشمولية العربية. فيما لخص معوقات الاصلاح في المنطقة العربية في ثلاثة عناصر:

1 ـ الماضوية التي لاتنظر الا الى الماضي الذهبي للأمة بينما نحتاج للتفكير في المستقبل.

2 ـ ظاهرة رفض الاختلاف والتعدد في الثقافات العربية.

3 ـ كون الاصلاحات التي نحتاجها تتطلب وجود مؤسسات مهيكلة تسعى اليها بينما لا يتحرك على هذا المستوى الا افراد معزولون.

وفي سياق الانتقادات الحادة التي وجهت للسياسة الاميركية ولطريقة صياغة المفاهيم والصور والوقائع في الاعلام الاميركي، تدخل حسن عبد الرحمن، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، الذي اوضح انه في اعقاب احداث 11 سبتمر (ايلول) ثار نقاش قوي بالولايات المتحدة حول كون ما جرى ناجما عن دعم اميركا لاسرائيل. وكان هذا هو الاتجاه السائد في الايام الاولى. لكن، وخلال اسبوعين، برز اتجاه ثان في التفكير ملخصه ان السياسة العربية ليست مسؤولة عما جرى بل السبب هو ثقافة العرب والمسلمين. لذا استنتج الاميركيون ان على العرب ان يغيروا انفسهم بالقيام باصلاحات بنيوية في بلدانهم.

واضاف عبر الرحمن: «كان هذا هو التوجه الذي نجح في فرضه دهاقنة اليمين المحافظ الاميركي، الذي ركز على ضرورة تغيير الانظمة العربية وتغيير القيادة الفلسطينية بدلا من الحديث عن تغيير اسرائيل لسياستها العدوانية. واذا كنا مع اصلاح اوضاع العالم العربي، فاننا ننظر الى هذا الامر بقلق حينما تندرج مشاريع هذا الاصلاح في اجندة اليمين المحافظ الاميركي التي تخدم في النهاية اليمين الاسرائيلي. ان موقف الادارة الاميريكة الحالي لاينطلق من قواعد سياسية بل منطلقات آيديولوجية انجيلية مرتبطة بالاصولية المسيحية والصهيونية».