ندوة أصيلة تناقش الديمقراطية والحرية وعلاقتهما مع الجوع في أفريقيا

وزير خارجية مالي: «الجائع لا يسمع» والمشاركون يدعون إلى إحداث معهد أفريقي للثقافة والتنمية

TT

أعلن محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، أنه برز توجه بين المشاركين في ندوة «أفريقيا والآمال الضائعة» نحو إحداث مؤسسة بحثية في مدينة أصيلة ارتأوا أن يطلقوا عليها مؤقتا اسم «معهد أصيلة الأفريقي للثقافة والتنمية» يعمل على مدار السنة، ويلتقي فيه المفكرون والباحثون الأكاديميون والسياسيون والمبدعون الأفارقة، لدراسة القضايا الملحة التي تعرقل عملية التنمية في القارة. ويكون المعهد عنوانا لمشروع هائل يندرج ضمن أبعاد ومفاهيم ما أصبح يسمى دوليا «التنمية المستدامة».

وقال بن عيسى، الذي كان يتحدث الليلة قبل الماضية، في أصيلة، مختتما الندوة التي استمرت يومين على مدى 3 جلسات: «إن المدينة، (أصيلة) أصبحت تتوفر على هياكل ارتكازية هامة تستطيع أن تفي بالحاجة، في إشارة إلى البنيات الثقافية الموجودة فيها، مثل مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية وقصر الثقافة، ومكتبة الأمير بندر بن سلطان، المجهزة بأحدث التقنيات ومستلزمات البحث العلمي.

وأضاف بن عيسى، أن مؤسسة منتدى أصيلة، ترحب بالمقترح الذي تقدمت به نخبة من رجال الفكر والسياسة في القارة، وستتولى وضع الصيغة القانونية له، ليكون مؤسسة غير حكومية علمية تهتم بالدراسات الأفريقية، مفتوحة أمام كافة الانتماءات والمشارب الفكرية وحتى الإيديولوجية.

وتركزت مداخلات الجلسة الأخيرة على استكمال وتعميق النقاش في القضايا المثارة خلال الجلستين السابقتين، وتمحورت عموما حول الأشكال والنماذج الديمقراطية الملائمة للقارة حتى تنهض اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وهل تستعار من الغرب أم يتم تطوير أشكال مستقاة من تراث القارة؟ وفي هذا السياق، تساءل أكثر من متدخل عن العلاقة بين التنمية والاقتصادية والحرية، واشتراطها لإقامة الديمقراطية. وتم التطرق إلى تجارب بلدان عدة نجحت في تحقيق نمو اقتصادي وضمنت رغد العيش للمواطنين، مضحية أو مؤجلة الديمقراطية، خاصة أن مدارس ومذاهب اقتصادية تِؤمن بإمكانية التفريق بين الهدفين وتأجيل التحول الديمقراطي إلى حين تحقيق الرفاهية، إذ لا يمكن تصور الديمقراطية والحرية مع الجوع والأمية والتخلف الشامل. وقد لخصت ذلك النقاش عبارة أطلقها عمر ديكو، وزير خارجية جمهورية مالي، حين قال «الجائع لا يسمع»، دون أن يعني كلامه انتقاصه من الديمقراطية كهدف أسمى للشعوب، مضيفا أن الفلاح الفقير في أفريقيا أو في بلده، لا يهمه الحديث عن فضائل الديمقراطية وتعدد الأحزاب وانتشار الإذاعات والصحف الحرة، وهي أشياء أصبحت متوفرة في بلده، لا يهمه كل ذلك إذا كانت المحاصيل الزراعية ضعيفة والسماء شحيحة، مستنتجا أنه لا توجد ديمقراطية غير قابلة للتحسن.

وشاطر ديكو الرأي بعبارات مختلفة، أحمد ماهر وزير خارجية مصر السابق، حين قال ان الديمقراطية ليست نموذجا محدد الملامح والسمات، قابلا للتطبيق على جميع الشعوب، إذ المهم، يقول ماهر، هو الاتجاه نحو حل المشكلات، ولا توجد ديمقراطية تخلو من عيوب، ضاربا مثال الولايات المتحدة التي لا تخلو ديمقراطيتها من شوائب، إذ تكفي الإشارة إلى أن المواطنين في ذلك البلد لا يقبلون على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية بمثل الكثافة المفترضة في ديمقراطية القوة العظمى البالغة الرفاهية.

وتدخل في الجلسة الأخيرة، الشيخ تيديان كاديو، وزير خارجية السنغال، الذي لام الأوروبيين والغربيين لأنهم يعيرون القارة الأفرقية بنماذج حكام سابقين من أمثال الراحلين، جان بيديل بوكاسا، رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، وعيدي أمين، الرئيس الأوغندي، اللذين أطاحهما على التوالي انقلابان عسكريان. وفي هذا الصدد دعا الشيخ تيديان، الأفارقة إلى عدم الشعور بالخجل والذنب لأن قارتهم عرفت أنماطا من أمثال الديكتاتورين السابقين، مشيرا إلى أن البلدان الأوروبية بدورها، توالى على حكمها حكام أفظع من بوكاسا وعيدي أمين، اللذين لم يرتكبا مثل الجرائم التي اقترفها النازي أدولف هتلر، في ألمانيا، وموسوليني في إيطاليا، مضيفا أن على الأفارقة أن يتحملوا مسؤولية وتبعات مرحلة من تاريخهم، ملمحا على ضرورة عدم إغفال السياق التاريخي الذي رافق أنماطا من الحكم ظهرت في أفريقيا. فعلى سبيل المثال، يوضح وزيرخارجية السنغال، كان الرئيس الغيني الراحل أحمد سيكوتوري إنسانا مستقيما، ولكنه خلف تركة من الكوارث لبلاده.

وحذر الشيخ تيديان، الأفارقة من استمرارهم في تحميل الغربيين مسؤولية تخلفهم، بل دعاهم، بدل ذلك إلى ممارسة نقد ذاتي، فعوض انتقادهم للأميركيين، عليهم أن يتساءلوا على سبيل المثال: لماذا لا توجد تجارة مزدهرة بين بلدانهم، لكنه في ذات الوقت لم يستثن من نقده وسائل الإعلام الغربية التي تبالغ وتعمم حين تتناول مظاهر التخلف في أفريقيا، فما يقع مثلا في، زيمباوي، من تزوير للانتخابات تحمل مسؤوليته كل القارة، من وجهة نظر وسائل الإعلام الغربية، التي تنسى أن دولا تنتسب إليها تلك الوسائل، تؤيد وتشجع أنظمة ديكتاتورية في القارة. ونفى المتدخل وجود علاقة آلية ميكانيكية بين الديمقراطية والتنمية، ففي أميركا المتقدمة اقتصاديا، استمر السود في المطالبة بحقوقهم المدنية إلى غاية عقد الستينيات، متسائلا: أين كانت الديمقراطية؟

وحذر رئيس الدبلوماسية السنغالية في ختام تدخله، مواطنيه الأفارقة من استنتاج مغلوط يؤدي إلى إهمال الديمقراطية، التي اعتبرها قيما شمولية يتطلع إليها الناس في كل مكان، معربا عن يقينه أن العالم أجمع بات مقتنعا بمساعي القارة السمراء نحو إقامة الديمقراطية، التي ستنهض وستزدهر بها في غضون القرن الحالي.

ولفت جان لويس كورو، الصحافي الفرنسي المعروف ورئيس التحرير السابق لمجلة «جون أفريك» (افريقيا الفتية)، في مداخلته، الانظار في الجلسة الثانية من ندوة «افريقيا والاحلام الضائعة»، بفضل مساءلته لعنوان الملتقى وربطها بين ما تشهده حول افريقيا وما يحدث في أنحاء أخرى من العالم.

وحذر كورو من اتباع الدول الافريقية لوصفات العالم الغربي التنموية مرة اخرى. فبعدما باع نفس هذا العالم كثيرا من الحلول الفاشلة للقارة السمراء، ها هو يحاول اليوم تسويق فكرة أن تطبيق الاصلاحات الديمقراطية يمكن ان تشكل عاملا اساسيا في عملية التنمية، مع اغفال اخطار الديمقراطية ومطباتها في قارة ذات مجتمعات على درجة عالية من التنوع الاثني واللغوي والديني بحيث يصبح البدء في الاصلاحات السياسية مسارا متفجرا ومحفوفا بالمخاطر.

وركز وزير الخارجية المالي، عمر ديكو، تدخله على تحليل ظاهرة الهجرة وتأثيرها على الاقتصادات والمجتمعات الافريقية بين الماضي والحاضر. هذه الهجرة التي كانت في الماضي اجبارية مرتبطة بالنخاسة، أصبحت فيما بعد إرادية بسبب وضعية الاقتصاد الافريقي وأزمته التي تحولت الى معطى بنيوي دائم.

وتحدث الوزير ديكو كذلك عن ضرورة صياغة استراتيجية واضحة للاستفادة من ظاهرة هجرة الافارقة الى الخارج، مستعرضا ايجابيات وسلبيات ذلك على الاقتصادات الوطنية بالقارة السمراء، حيث اعتبر ان هذه الهجرة سمحت للبلد الأم بالاستفادة من العقليات والخبرات والكفاءات الاقتصادية والثقافية لأبنائه المهاجرين، وسمحت لهم بإقامة مشاريع ومبادرات ومقاولات في البلدان المصدرة للهجرة.

وخلص ديكو الى ان العولمة وشيوع وسائل الاتصال سمح للمهاجرين بالحفاظ على روابط أقوى مع بلدانهم، لكن استفادة هذه البلدان من عمالتها العادية يجب الا تخفي نزيف هجرة الادمغة والكفاءات باتجاه الغرب، الشيء الذي يطرح اشكالية تدبير هذه الحركية البشرية في الاتجاهين بواسطة انشاء مراكز ترصدها وتفكر فيها، وفي أساليب الاستفادة منها.

وذهب الباحث السوداني محمد أبو القاسم الحاج حماد الى ان آمال افريقيا لا يمكن اعتبارها ضائعة، لانها لم تتحدد بعد حتى الآن، وانتقد عنوان الندوة الذي لم ينتبه الى خصوصية وضعية هذا الجزء من العالم، قبل ان يرجع مشاكل افريقيا الى مجموعة من العناصر لخصها في: التفصيل الاستعماري للخريطة الافريقية وترسيم الحدود الموروثة عن الاستعمار، مساهمة هذا التقطيع في خدمة مصالح المجموعات المالية والاقتصادية الغربية، إخلال الساكنة البيضاء المستوردة الى جنوب افريقيا بالتوازن السكاني والقيمي، طريقة حكم النخب التي صعدت الى سدة الحكم بعد الاستعمار، وهي نخب مستلبة بالنموذج الغربي في التنمية وإقامة الدولة الحديثة ولا تملك حلولا ناجعة ومناسبة لظروف أوطانها.

وأرجع الحاج حماد مشاكل افريقيا الى كون هذه النخب السياسية التي تولت الحكم نخبا سلطوية سلبية لم تتعلم المنهجية الفكرية الاوروبية، ولم تطبقها لفهم جدل وتركيبة الواقع، ولم تنقل من اوروبا الفهم الاستراتيجي للواقع، فاستمرت في التسيير بعقلية استعمارية، مع محاولة التغطية على فشلها بصياغة الدساتير الشكلية والافراط في الخطابات الدعائية، وهذه الوضعية لا يمكن حلها، حسب رأي الباحث، إلا بصياغة خطاب يقوم على توظيف الحس والفكر النقدي الجدلي لفهم الواقع.

وتناولت ورقة الباحث خالد شكراوي (المغرب) تاريخ العلاقة بين المغرب وبعض دول جنوب الصحراء عبر تقديم صورة للعلاقات التجارية والانسانية التي كانت قائمة في الماضي بين أطراف القارة، والتي تعززت بدخول الاسلام الى المغرب، وبنشوء تجارة مزدهرة كانت القوافل اداتها بين فاس ومراكش وسجلماسة من جهة ودول حوض السنغال وغانا من جهة ثانية، قبل وصول الاوروبيين الى هذه المناطق بواسطة السفن في القرن 15، وبروز مفهوم جديد للمكان والفضاء.

وتحدث الكاتب الليبي احمد ابراهيم الفقيه بدوره ، عن الصحراء كرابط بين طرفي القارة الافريقية، وعن الحوار الثقافي بين اطراف القارة. كما ذهب الكاتب التونسي عز الدين المدني، والباحثة المغربية فاطمة الجامعي الحبابي في نفس الاتجاه.

وعدد الباحث والاديب المغربي الدكتور مبارك ربيع مجموعة من العناصر التي أدت للوضعية الحالية للقارة، وهي عوامل متداخلة ومتشابكة بينها، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبشري، مما يتطلب، حسب رأي المتدخل، نموا شاملا لا تسجل فيه أسبقية لمجال على آخر يتعاون عليه الجميع، ويتم بجهود الأفارقة والجهود الأممية والدولية في إطار شراكة عامة، واستراتيجية تنموية تعتمد على الرفع من أداء العنصر البشري، وتحسين وجوده المادي والمعنوي، وخاصة بالنسبة للفئة الشابة والعالم القروي في نطاق نظام ديمقراطي متكامل.