التهريب عبر الحدود المغربية ـ الجزائرية يحول بلدة «بني درار» إلى «بني دولار».. والجزائر تمنع بضائع مليلية من السوق

TT

رغم أن الحدود المغربية ـ الجزائرية مغلقة رسميا منذ 10 سنوات، إلا أن الحركة فيها لم تتوقف من الجانبين. ففي غياب حركة تجارية عادية بين الجارين نشطت تجارة التهريب مستفيدة من العرض والطلب بين السوقين المغربي والجزائري. وساهم تغاضي سلطات البلدين عن ظاهرة التهريب، نظرا لدورها في التخفيف من الأزمة الاجتماعية في المناطق الحدودية خاصة مع ارتفاع معدلات البطالة، وانكماش الاقتصاد الزراعي لهذه المناطق بسبب الجفاف، في استفحال الظاهرة التي بدأت تأخذ أبعادا كبيرة. ففي المناطق الحدودية شرق المغرب، لم يعد التهريب يشكل نشاطا سريا يمارس في الظل، وتحولت أسواق المنطقة إلى معرض مفتوح للسلع المهربة من الجزائر ومراكز للبيع بالجملة وإعادة توزيع هذه السلع باتجاه باقي مدن البلاد وإلى مدينة مليلية المحتلة من طرف اسبانيا في شمال المغرب، التي بدأ دورها كمصدر للمنتوجات المهربة إلى المغرب يتراجع أمام تنامي دور الجزائر. قبل سنوات كانت مدينة مليلية المحتلة تشكل النواة المركزية لنشاط التهريب إلى المغرب وعبره في اتجاه الجزائر. وكانت السلطات الإسبانية خلال فترة احتلالها لشمال المغرب تستعمل ميناء مليلية لنقل معدن الحديد نحو أوروبا. لكن بعد استقلال المغرب واسترجاعه لمحافظاته الشمالية تحول نشاط تصدير الحديد إلى ميناء مدينة الناضور المغربية، فيما تحول نشاط المعمرين الاسبان بمدينة مليلية المحتلة إلى استيراد كميات هائلة من السلع المختلفة من اسبانيا وتسريبها إلى المغرب عبر حدوده المشتركة مع المدينة المحتلة والبالغة نحو 10 كيلومترات. وساهم في ازدهار هذا النشاط غير القانوني سماح السلطات الاسبانية لسكان منطقة الناضور بدخول المدينة المحتلة بدون تأشيرة أو جواز سفر، واستقرار بعض هؤلاء في مليلية وإقامتهم لمحلات تجارية. وارتبط اقتصاد مدينة الناضور المغربية بشكل قوي بهذه التجارة التي أصبحت تشكل المورد الأول للدخل بالنسبة لسكان المدينة التي لا تفصلها عن مليلية المحتلة سوى 12 كيلومترا. وأصبحت مدينة الناضور، عبر شبكتها التجارية الكثيفة التي تضم نحو 3000 محل تجاري متخصص في تجارة السلع المهربة من مليلية، مركزا لتزويد الأسواق المغربية بهذه السلع.

وخلال العامين الاخيرين تغير اتجاه التهريب. فقد تراجع دور مدينة مليلية في تزويد الأسواق المغربية بالسلع المهربة لفائدة الجزائر، وتراجع دور مدينة الناضور كمركز استقبال وإعادة توزيع هذه السلع داخل المغرب لفائدة مدينة وجدة وضواحيها. ومع هذا التحول تم إغلاق العديد من المحلات التجارية في الناضور ومليلية، ونقل العديد من التجار نشاطهم من مدينة الناضور إلى مدينة وجدة حيث ارتفعت أسعار العقارات بشكل صاروخي في أسواقها التي اكتسحتها السلع المهربة من الجزائر، مثل سوق الفلاح، وسوق مليلية، وقيسارية «أنجاد» التي يجري الآن توسيعها ببناء طابق جديد، وسوق الطلحاوي، وسوق طنجة، والأحياء المحيطة بهذه الأسواق التي بدأت تظهر فيها المراكز التجارية العصرية ومتعددة الطوابق، مثل الفطر. وأصبحت الطريق الرئيسية رقم 6 الرابطة بين الدار البيضاء ووجدة عبر مدينة فاس الشريان الرئيسي لهذه التجارة المزدهرة.

وقدرت دراسة ميدانية أنجزتها غرفة التجارة والصناعة لمدينة وجدة عدد السلع المهربة المتداولة في أسواق وجدة بنحو 422 بضاعة مختلفة، مصنعة في أوروبا وآسيا وبعضها مصنع في الجزائر. وكشفت الدراسة أن 100% من قطع غيار السيارات المروجة بهذه الأسواق مقبلة من الجزائر، وكذلك 91.4% من الأجهزة المنزلية و73.4% من الأدوية و72.7% من المنتجات الكهربائية، و71% من المواد الغذائية المصنعة و68.4% من مواد التجميل و40% من الملبوسات والأنسجة. والحصة الباقية مصدرها بالطبع مدينة مليلية التي ما زالت تحفتظ بحصة كبيرة من السوق بالنسبة للعقاقير الفولادية (84.6%) والتجهيزات الصحية كالحنفيات والحمامات المنزلية (75%) رغم المنافسة الصاعدة للجزائر.

* «بني درار» تصبح «بني دولار»

* ففي مدن وجدة وتاوريرت وبني درار وبركان أصبح نشاط السوق السوداء يمارس علانية وبشكل سافر وجريء وأخذ يكتسح كل جوانب الحياة الاقتصادية معرضا مكونات الاقتصاد المصنف لمنافسة كبيرة وغير متكافئة.

ويمكن للمتجول في شارع محمد الخامس بمدينة وجدة أن يلاحظ ازدحام سماسرة العملة الصعبة في السوق السوداء أمام أبواب الوكالات المصرفية، وكيف يعترضون سبيل الزبائن على عتبة الوكالات ليعرضوا عليهم خدمات الصرف بشروط أفضل من تلك التي تتعامل بها الوكالات المصرفية المرخصة. كما تمكن ملاحظة هؤلاء السماسرة وهم يتهافتون في مفترقات الشوارع وعند إشارات المرور على السيارات المرقمة بالخارج لعرض شراء العملات الصعبة التي يدخلها أبناء المنطقة العاملون بأوروبا، والذين لم يعد وجودهم بالمنطقة يقتصر على فصل الصيف نتيجة النظام الجديد للعطل في الدول الأوروبية والذي يعطي حق الاستمتاع بالعطلة السنوية في الصيف للعائلات ويفرض على العزاب الاستمتاع بعطلهم في باقي الفصول.

أما في مدينة بني درار الصغيرة الواقعة إلى الشمال الشرقي من مدينة وجدة، فإن الأهالي أصبحوا يطلقون عليها اسم مدينة «بني دولار» بسبب موقعها البارز في تجارة البترول المهرب من الجزائر وفي تجارة العملة وتخصصها في صرف الدينار الجزائري مقابل الدرهم المغربي، خاصة وأن العملة الجزائرية غير قابلة للتحويل في المصارف المغربية.

ويعكس هذا النشاط المالي واقع استفحال التهريب من الجزائر إلى المغرب عبر الحدود، والذي أصبح يضم كل أنواع السلع، حتى تلك التي كانت في السابق تصدر من المغرب إلى الجزائر، مما دفع بعض الأوساط الاقتصادية والسياسية بالمغرب للحديث عن حرب اقتصادية وعن سياسة متعمدة لإغراق السوق المغربية وتخريب اقتصاده، فيما يرى آخرون أن السبب الرئيسي لتنامي الظاهرة هو كونها مصدرا للعملة الصعبة بالنسبة للجهات الجزائرية التي تقف وراءها.

فمن قبل كان التهريب من الجزائر يقتصر على بعض المنتجات المدعومة من طرف الدولة الجزائرية، وعلى رأسها الوقود. وكان الأداء يتم في الغالب عن طريق المقايضة بمنتجات مغربية أو سلع مهربة من مدينة مليلية المحتلة، مثل الخضر والفواكه المجففة والتوابل والملبوسات والسجائر والمشروبات الغازية والكحولية، كما تشير تقارير الجمارك والدرك حول العمليات التي يتم ضبطها في الحدود. أما الآن ومنذ سنتين تقريبا فقد أصبح الأداء بالعملات الصعبة وأصبح التهريب من الجزائر يشمل عددا كبيرا ومتنوعا من المواد المستوردة من عدة دول والتي يعاد تصديرها إلى المغرب.

ففي مدخل سوق الفلاح بمدينة وجدة يمكن شراء، بالقطعة أو بالجملة، نحو 72 صنفا من الأدوية ضمنها مواد خطرة ومحظورة، وبأسعار تقل بنحو 40% إلى 80% عن أسعارها في الصيدليات المصنفة. ويقف عشرات من السماسرة، رجالا ونساء، وسط الممر الضيق لمدخل السوق أو يجلسون على السور، يعترضون سبيل زوار السوق ويسألونهم إن كانوا يبحثون عن أدوية، وعندما يتفاهم السمسار مع الزبون حول نوعية الدواء والكمية والسعر يطلب منه الانتظار ويختفي للحظات في زحمة السوق ليعود ومعه التلبية.

ومن غريب مفارقات هذه السوق إمكانية شراء أكياس من الدقيق الجزائري لا يتجاوز الفرق بين تاريخ عرضها في أسواق وجدة وبني درار وتاريخ تعبئتها في الجزائر، يومين أو ثلاثة، مما يؤشر على أنها جاءت مباشرة من المصنع الجزائري إلى السوق المغربية.

* الوقود يتصدر المواد المهربة

* تقدر حصة الوقود (بنزين وغازول) من إجمالي تجارة التهريب على الحدود المغربية ـ الجزائرية بنحو 50%. ويبدو أنه يشكل من الجانب المغربي المادة الوحيدة التي لا يشتكي أحد من تسريبها من الجزائر، إذ أصبح الوقود المهرب الوحيد المستعمل في المنطقة الشرقية للبلاد، سواء من طرف الأشخاص أو مختلف المؤسسات. وقد أدى انتشار استعمال الوقود المهرب على نطاق واسع في هذه المنطقة إلى انقراض محطات توزيع البنزين في مدنها وقراها. ففي مدينة وجدة، التي يقدر عدد سكانها بنحو 600 ألف نسمة، نزل عدد محطات توزيع الوقود من 36 محطة خلال الثمانينات إلى 6 محطات فقط حاليا، وحتى هذه المحطات الست التي استطاعت البقاء أصبح نشاطها ينحصر في تقديم خدمات الصيانة والتشحيم وغسيل السيارات. أما البنزين فيتم التزود به لدى باعة منتشرين على أرصفة الشوارع وجنبات الطرقات حيث يعرضون مختلف أنواع الوقود في أوعية من سعة 5 ليترات و30 ليترا. ولا يقتصر الأمر على وجدة، ففي مدن أحفير وبني درار لا توجد أية محطة للتزويد بالبنزين. وعلى طول الطريق من وجدة حتى فكيك لا توجد سوى ثلاث محطات تصارع من أجل البقاء في ظروف صعبة.

وتعود بداية تجارة الوقود المهرب من الجزائر إلى عام 1988، وهو تاريخ آخر مرة فتحت فيها الحدود بين البلدين قبل أن تغلق من جديد عام 1994. ومنذ ذلك توسعت تجارة الوقود المهرب لتشمل كل مدن وقرى المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية للمغرب. وأصبحت مدينة بني درار المغربية بسبب قربها من الحدود وتعدد المسالك المؤدية لها مركزا لتجارة الجملة في الوقود المهرب من الجزائر إذ تأتيها الشاحنات المزودة بخزانات إضافية من مختلف مناطق المغرب لشحن الوقود الجزائري المهرب بأسعار تقل بما بين 60% و70% عن الأسعار المعتمدة في المغرب.

ويلعب الوقود المهرب دورا أساسيا في توسع شبكات تسويق باقي السلع المهربة من خلال استعماله في تموين الشاحنات التي تنقل هذه السلع من المنطقة الشرقية إلى باقي مدن المغرب، الشيء الذي يخفض كلفة نقل هذه البضائع ويسمح بالحفاظ على ميزتها التنافسية الرئيسية المتمثلة في أثمانها المنخفضة مقارنة بمنافساتها في السوق الرسمية.

* في انتظار اتحاد جمركي

* رغم أن الحدود الدولية المرسومة بين المغرب والجزائر تمتد على نحو 500 كيلومتر من السعيدية على الشاطئ المتوسطي في الشمال حتى فكيك جنوبا قبل أن تضيع في رمال الصحراء، إلا أن الجزء الشمالي من الحدود هو الأكثر نشاطا بسبب كثافته السكانية وقربه من الشبكات الطرقية والمراكز الحضرية.

ويتركز نشاط التهريب أساسا في شريط حدودي طوله نحو 75 كيلومترا من السعيدية شمالا حتى جبل رأس عصفور جنوبا. ويتكون هذا الشريط من منطقتين جغرافيتين مختلفتين، تمتد الأولى على نحو 33 كيلومترا من السعيدية حتى الكربوز وتتميز بوعورة وتعقد تضاريسها، وتستغل أساسا لتهريب مختلف أنواع الماشية من الجزائر إلى المغرب (غنم وماعز وبقر وجمال وغيرها من الدواب). وتلعب الماشية في عملية التهريب دورا مزدوجا، إذ زيادة على كونها سلعا مهربة يتم استعمالها كوسائل نقل لحمل بضائع أخرى.

أما الشطر الجنوبي لهذا الشريط الذي يمتد على أرض منبسطة بين سهل أنكاد وسهل مغنية حتى سفوح جبل رأس عصفور فتستعمل فيه السيارات والدراجات لنقل المواد المهربة ويعرف ذروة رواجه خلال الليل.

ورغم أن حركة التهريب عبر هذا الشريط الحدودي ليست حديثة، إذ كان يستعمل خلال الفترة الاستعمارية لتسريب السلاح من المغرب لدعم المقاومة الجزائرية، إلا أن مصير هذه الظاهرة في شكلها الحالي يتعلق بمدى قدرة دول المنطقة المغاربية على تجاوز معوقات التقدم في بناء الاتحاد الجمركي المغاربي، كخطوة ضرورية على طريق بناء اتحاد مغاربي متضامن ومندمج اقتصاديا. وشكلت الحرب الباردة في الماضي وامتداداتها في المنطقة ومخلفات الفترة الاستعمارية أهم عامل في اضطراب العلاقات السياسية بين دول المنطقة. فمنذ استقلال الجزائر عام 1962 حتى الآن، بلغ العدد الإجمالي للسنوات التي بقيت خلالها حدود البلدين مغلقة 23 عاما مقابل 19 سنة فقط كانت خلالها هذه الحدود مفتوحة.

وقبل أيام أعاد الإجراء المغربي أحادي الجانب بإلغاء تأشيرة الدخول للجزائريين، الأمل في إمكانية إحراز تقدم في مسار الاتحاد المغاربي لما فيه مصلحة شعوب المنطقة التواقة لتحقيق النماء والتكامل والازدهار المشترك. ويبقى تجسيد هذا الأمل رهينا بمدى التقدم في مسار الحل السياسي لقضية الصحراء التي تشكل حجرة عثرة في العلاقات السياسية الجزائرية ـ المغربية.