إيران ترسخ نفوذها في العراق في هدوء بتمويل أحزاب سياسية وجمعيات خيرية .. ولا تتردد عن تقديم السلاح إلى منظمات عسكرية

TT

بارسال أموال الى احزاب سياسية ومؤسسات خيرية ومنظمات مسلحة في حملة شبه سرية لكسب النفوذ والهيمنة، ظهرت ايران قوة فعالة على نحو صامت في عراق ما بعد الحرب، وفقا لما قاله مسؤولون عراقيون ودبلوماسيون غربيون.

وكبلد جار وعدو سابق في حرب طويلة وأحيانا ملاذ لمعارضي صدام حسين، ظلت ايران منذ زمن بعيد عاملا مؤثرا في الحياة السياسية في العراق. وترسم مقابلات أجريت مع دبلوماسيين غربيين ومسؤولين حكوميين عراقيين واشخاص عاديين، صورة عن ايران وهي تسعى الى دور جديد منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة ،لكنها تتحالف، أحيانا، مع قوى متنافسة في العراق.

وأدت انقسامات ايران الداخلية الى تشويش أهدافها في العراق، فبدلا من العمل باتجاه هدف شامل يسعى رجال الدين المتنفذون والزعامة السياسية وجهات عسكرية واستخباراتية مختلفة في الجمهورية الاسلامية الى تحقيق أجنداتهم الخاصة.

فقد سارع زعماء سياسيون كبار في طهران، على سبيل المثال، الى الاتصال بالحكومة العراقية المؤقتة معبرين عن ارتياحهم لاستعادة السيادة وانتهاء سلطة الاحتلال التي تقودها الولايات المتحدة، ومؤكدين ان ايران ستعاني اذا ما حدثت اراقة دماء في البلد الجار لها. وفي غضون ذلك كانت بعض خلايا الاستخبارات الايرانية ترسل الاموال بهدوء الى جماعات المتمردين المسلحة المختلفة في العراق، كما يؤكد مسؤولون عراقيون ودبلوماسيون غربيون.

وقال صباح كاظم المتحدث باسم وزارة الداخلية العراقية ان «ايران تتحدث، لسوء الحظ، بلسان شبيه بشوكة»، فالزعامة السياسية تدعو الى الاستقرار كما يقول و«لكننا ننظر الى ما يحدث في الواقع فنجد العكس. وفي كل يوم نلقي القبض على أشخاص يأتون الى العراق من ايران مع أسلحتهم. وهناك أحزاب سياسية تدعمها ايران».

وهيئات الحكم في ايران مجموعة من هياكل سياسية شبه مستقلة ولديها أجندات مختلفة اختلافا شديدا. وأضاف كاظم انه «يبدو ان هناك مراكز قوى مختلفة ولست متأكدا ما اذا كان الرأي الرسمي الذي نسمعه هو الفاعل. وبمعنى آخر فاننا نواجه القضايا السياسية الايرانية في ميدان العراق. ويستخدم المتشددون والاصلاحيون الايرانيون العراق باعتباره مكانا لصراعهم».

وقد دعت ايران الى اطلاق سراح دبلوماسيها فريدون جيهاني الذي اختطف أخيرا من جانب جماعة اسلامية سنية تسمي نفسها الجيش الاسلامي في العراق. وقالت الجماعة انها اعتقلت جيهاني لأنه «كان متورطا في اثارة الصراع الطائفي وتجاوز نطاق عمله الدبلوماسي»، وفقا لما أوردته محطة «الجزيرة» التلفزيونية الفضائية التي اضاقت ان «الجماعة حذرت ايران أيضا من التدخل في الشؤون الداخلية للعراق».

وذهب وزير الدفاع العراقي حازم الشعلان الى أبعد من ذلك وأبلغ قناة «العربية» الفضائية قبل ايام بأن ايران تتدخل في الشؤون العراقية بارسال أسلحة الى المتمردين الشيعة الذين يقاتلون الحكومة المؤقتة والقوات الأميركية. ورفضت ايران اتهامها بأنها تساهم في اثارة اعمال العنف في العراق. وقال علي شمخاني وزير الدفاع الايراني للتلفزيون الحكومي الايراني انه «ليس هناك مبرر أو دليل منطقي يمكن أن يثبت» اتهامات الشعلان. وردت طهران ايضا على الشكوى عبر دعوة رئيس الوزراء العراقي اياد علاوي للقيام بزيارة رسمية الى ايران في محاولة لاصلاح العلاقات.

وقد حسنت ايران التي تضم أغلبية شيعية صلاتها مع العراق خصوصا في الجنوب، حيث يشكل الشيعة الأغلبية الساحقة. فقد اقامت ايران العيادات الصحية والمعامل وبرامج الرعاية الاجتماعية، مما يوفر شبكة من الضمانات الاجتماعية الاقتصادية بطريقة تذكر بعمل جماعتين أخريين هما «حماس» في قطاع غزة الفلسطيني و«حزب الله» في لبنان.

كما أنفقت ايران ملايين الدولارات في العراق، والكثير منها قدم الى أحزاب عراقية تعترف بذلك، على أمل كسب الولاء والنفوذ وفقا لما قاله دبلوماسيون غربيون طلبوا عدم الاشارة الى اسمائهم.

وفي محافظات العراق الجنوبية الأربع يتمتع اثنان من المحافظين واثنان من مديري الشرطة بأواصر قوية مع ايران، كما قال احد الدبلوماسيين. وغالبا ما تقول الأحزاب الشيعية العراقية الصغيرة ان عليها أن تدقق الأمور مع ايران قبل ان تتخذ اية خطوة سياسية حتى وان كانت بسيطة.

وفي غضون ذلك يخشى دبلوماسيون من ان تكون المخابرات الايرانية قد اقامت وجودا في العراق عبر عملاء يرسلون الأموال والأسلحة الى الميليشيات التي تقاتل الولايات المتحدة. ويقول بعض هؤلاء الدبلوماسيين ان بعض العناصر في ايران تواصل تمويل «فيلق بدر»، وهو الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق، بل ويبدو انها اقامت، أخيرا، علاقات مع قوات رجل الدين الشيعي المتطرف مقتدى الصدر.

وقال دبلوماسي غربي عمل في جنوب العراق ان «الحكومة الايرانية منقسمة على نحو شديد. فبين عناصر الشرطة والاستخبارات المختلفة (في العراق) يمكنك ان ترى كل شيء من أشخاص يقومون بالمراقبة وجمع المعلومات الى أشخاص يقومون بمهاجمة قوات التحالف». ومع سقوط صدام حسين، اصبح في امكان ايران ـ وهي قوة عسكرية اقليمية ـ استخدام حلفائها لكي يصبحوا عنصرا في الخريطة السياسية العراقية، غير ان هناك عقبات. فالمذهب الشيعي، عنصر التوحيد المحتمل، يعاني من المشاكل، ذلك ان مدارس الفكر الشيعي العراقية والايرانية تتنافس من اجل السيطرة على العلماء في النجف وقم. كما ان التطلعات الوطنية والمنافسات التاريخية بين البلدين يمكن ان تعرقل المحاولات الايرانية لتشكيل مستقبل العراق.

ويعترف فؤاد كاظم دركي رئيس فرع حزب الدعوة في كربلاء، بأن حزبه تلقى مساعدات من ايران، ولكنه ينفي التلميحات الى ان المساهمات منحت ايران الحق في توجيه الحزب. وقال «هناك العديد من العراقيين من امثالي نقدر ما قدموه لنا، ولكن لا نسمح لهم بالقيام بأي شيء في بلادنا او اتخاذ مواقف بالنيابة عنا». وخلال 19 سنة عاشها في المنفى في ايران، قال دركي انه لم يتعلم اللغة الفارسية ولم يقم علاقات صداقة مع ايرانيين. والان بعدما عاد الى مدينته المقدسة، يشعر بالامتنان، ولكنه لا يشعر بأي التزام باتباع تعليمات من طهران. وقال «ان العلاقات بين الدعوة وايران معروفة ـ تمول ايران الحزب منذ فترة طويلة»، الا ان دركي يصر على ان العراق الجديد منح الحزب فرصة الاستقلال، وقال ان حزبه «يحصل على مساعدات» من مجموعة من الدول الراغبة في تقديم خدمات للحكومة الجديدة. وقال «نحن لا نعترض على التعاون مع أي دولة تريد المساعدة ما دامت مصالح العراق فوق كل شيء اخر». واضاف «بين العراقيين لا توجد رغبة في قبول الاسلوب الايراني. وتاريخيا نعتبر انفسنا قادة للايرانيين، وليس العكس».

وتساور المسؤولين الاميركيين والعراقيين شكوك قوية حول الدور الايراني في العراق. وذكر مسؤولون غربيون ان ايران التي تخشى من ان يؤدي وجود عراق مستقر وديمقراطي الى دفع الايرانيين الى التمرد من اجل ديمقراطية في بلادهم، تسعى الى افشال خطط الولايات المتحدة في العراق. غير ان بعض المحللين الغربيين قالوا انهم يعتقدون بان ايران لا تريد انهيار العراق ودخوله في مرحلة حرب اهلية يمكن ان تمتد عبر الحدود المشتركة. كما انها لا تريد ان يتحول العراق الى قاعدة لوجود عسكري اميركي ضخم.

وتقع ايران بين افغانستان والعراق، حيث توجد قوات اميركية في الجانبين، وهي تريد التأكد من وقوع الاميركيين في مستنقع في العراق لكي لا يشنون مغامرة جديدة ضد ايران، طبقا لما ذكره المسؤولون.

كما توجد مخاوف ايضا بخصوص مدى طموحات ايران النووية.

وتوجد عدة اجنحة في ايران، ولكنها تنقسم الى قسمين اساسيين: التقليديون الذين يسعون للحفاظ على الجمهورية الاسلامية التي يسيطر رجال الدين الشيعة فيها على كل جوانب الحكومة والمجتمع المدني. والمعسكر الاخر هو العصريون، والبعض منهم ينتمي الى الاجنحة الدينية، والبعض الاخر علمانيون، ولكنهم اقل تشددا في نظرتهم الاسلامية.

ومن بين الجماعات المختلفة مجموعة صغيرة من العناصر الاصولية في اجهزة الاستخبارات الايرانية المرتبطة بالهدف القديم المتمثل في تصدير الثورة الايرانية للعراق وربط الدولتين في دولة واحدة بقيادة رجال الدين الايرانيين، طبقا لما ذكره الدبلوماسيون.

وقال دبلوماسي «لقد تأكدوا (الايرانيون) من انه اذا ما ارادوا اثارة أي متاعب فلديهم سيطرة في الجنوب. ولا يعني ذلك انهم سيستغلون ذلك لتنفيذ انقلاب، ولكن في حالة اذا ما ارادو القيام بشيء».

والمعروف ان العلاقات بين البلدين قوية في الجنوب، حيث يرتبط الناس بعلاقات اسرية ومعتقدات دينية واحدة. وعندما كان الشيعة والاكراد يعانون في عهد صدام كانوا يتمتعون بدعم مالي وبتضامن من طهران.

ويشعر الايرانيون ايضا بواجب تجاه مدينتي النجف وكربلاء اللتين منعوا من زيارتهما في عهد صدام. وبالرغم من ان العديد من الاحزاب السياسية العراقية التي لها ارتباطات ايرانية اعترفت بقبول المال والمساعدة من ايران، فإن زعماء هذه الاحزاب يصرون على وطنيتهم وانهم لن يسمحوا ابدا لايران بإملاء اجندتها، ويقولون انهم يوازنون بين العرفان بالجميل والاستقلال.

* خدمة «لوس أنجليس تايمز» (خاص بـ «الشرق الأوسط»)