مقبرة النجف: صور الصدر تشارك الموتى قبورهم وأفراد ميليشياته ليسوا ممن يصحون مبكرا

TT

كان الوقت الثالثة صباحا. وكان الضوء الوحيد في تلك المقابر هو ذلك المنبعث من القبة القائمة فوق ضريح الإمام علي، والتي تشع كشمس أشرقت في منتصف الليل، ملقية بضيائها على القباب القديمة والنصوص المزخرفة. وأمر الكابتن وارين كيتاي، وهو يجلس داخل عربته العسكرية من طراز همفي، أحد الجنود بتغطية المقدمة، حتى لا يكتشف العدو موقعهم على الضوء الخافت الذي يضيء داخل السيارة.

قبل دقائق فقط وصل كيتاي و85 من الجنود إلى مقابر النجف، التي يسمونها مدينة الموتى، للحلول محل فصيلة أخرى، في واحدة من أعنف الجبهات في المواجهة بين القوات الأميركية و«جيش المهدي» التابع للزعيم الشيعي المتطرف مقتدى الصدر. وقد صار الجنود يكرهون هذا الموقع. وهو هادئ الآن كعادته دائما في مثل هذه الساعة من الصباح. ويقول الأميركيون أن جنود «جيش المهدي» ليسوا ممن يبكرون في الصحو. وبعد أقل من ثماني ساعات من دورية هذه الفصيلة، ستطلق النار (اول من امس) على اثنين من جنودها وتشتعل الحرائق على بعد عدة أمتار من المسجد، ويبدأ هجوم القوات الأميركية على قوات الصدر.

بمبانيها العالية والمزدحمة، أصبحت المقبرة مكانا مناسبا لقوات الصدر للاختباء فيه، وبعد أن انقسمت إلى مجموعات صغيرة من أربعة أو خمسة، صارت تشن هجماتها بمدافع المورتر على القوات الأميركية ثم تختفي في الزحام أو تنسحب إلى المسجد حيث لا ترغب القوات الأميركية في متابعتها إلى هناك خوفا من تدمير المسجد وما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج سياسية خطيرة. قال كيتاي «ليس من الممكن أن تحارب إذا لم يكن بمقدروك إطلاق النار على بعض الأشياء».

وقتل أربعة جنود أميركيين منذ بداية القتال في هذه المقبرة قبل أسبوع تقريبا. ويعيش بعض أعضاء «جيش المهدي» داخل المقابر، ويخزنون أسلحتهم وينامون هناك ويعلقون صور الصدر على حوائط القبور. وقد اضطر أحد جنود الميليشيا إلى الهرب تاركا وراءه ملابس لم تنشف بعد، وبطانية ولحما مشويا. وقال كيتاي إن من أشق الأشياء على النفس القتال فوق القبور «ليس لائقا العبث بقبور الناس. ليس صحيحا أن تمشي فوق القبور. نحن لا نرغب في وجودنا هنا. ولكن ليس لدينا أي بديل».

أثناء النهار يزول السحر والغموض الذي يضفيه الظلام على المكان، ويسود الهدوء لبعض الوقت، ويشغل الجنود أنفسهم بالأنس والمحادثات. ولكن سرعان ما ينفجر المكان ويلعلع الرصاص. كانت النيران كثيفة بصورة خاصة هذا الصباح لان فصيلة جديدة من القوات الأميركية تحركت لأول مرة لمهاجمة الجانب الجنوبي من المدينة. ويبدو أن ذلك اضطر قوات «جيش المهدي» إلى الهرب ناحية الشمال، مما كثف النيران على كتيبة كيتاي. وقد انفجرت إحدى القذائف على بعد 50 مترا من موقع كيتاي نفسه، وجرح جنديان كانا داخل الهمفي التي استهدفتها القذيفة. يأمر كيتاي بإخلاء الجنديين إلى المستشفى. وقال إن أصعب ما يمكن أن يحدث للقائد هو رؤية أحد جنوده جريحا.

«أنا أعرف شيئا عن كل واحد من هؤلاء الشباب. إنهم أولادي». ويتحدث في الجهاز: «أحد جنودنا أصيب بقذيفة مورتر. عليكم الآن أن تردوا».

ويبدأ هجوم عنيف من الجنود الأميركيين، وتحلق الطائرات فوق المقبرة مرسلة قذائف مرعبة. وضرب أحد الصواريخ عددا من جنود «جيش المهدي» كانوا يستقلون شاحنة، وفجر الشاحنة مرسلا دخانا يمكن رؤيته على بعد أميال. كما انفجرت قذائف اخرى على بعد 400 أو 500 متر من قبة الإمام علي، وهي أقرب مسافة وصلها القذف حتى الآن. ويبصر احد الرماة مجموعة من جيش المهدي تهم بالفرار فيطلق عليهم النار، وتتبعه في ذلك كل المدافع الموجودة في المقابر، مطاردة مجموعة الميليشيا في انسحابها غير المنتظم.

وبعد دقائق يتعرف أحد القادة على مجموعة مختبئة داخل أحد الأضرحة فيقصف الضريح لينهار عليها مخلفا سحابة من الدخان الأبيض. وعند المساء يسلم كيتاي قيادة المنطقة إلى قائد فصيلة أخرى ويذهب بجنوده بعيدا عن ميدان المعركة. وهكذا يمر يوم آخر من أيام المعارك المستمرة.

* خدمة«لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»