الشرق الاوسط في مسرح أزمة دارفور: «السلاح» الذي أغرق به الأجانب والجيران دارفور أصبح «نزعه» عقدة مستعصية في مفاوضات «أبوجا»

TT

«فطور... صار الفطور جاهزا»، صاح أحد العمال في بيت والي الفاشر الذي يستضيفني في جناح يخصصه للزوار غير الرسميين، فأيقظني في التاسعة. كانت الحشرات الطائرة التي تغص به هذه المدينة الخالية من فنادق متواضعة ناهيك من معقولة، مشفقة في الليلة الماضية، فهي لم تشن سوى هجوم واحد قوي اقلقني دقائق عدة قرابة الخامسة.

في باحة البيت الواسع التي تحيط به شجيرات عدة، كانت مجموعة من كبار المسؤولين قد فرغوا من تناول الفطور. الحركة دائبة، وحشد من الضباط الصغار نسبيا، والمدنيين والجنود توزعوا في أنحاء الساحة بانتظار رؤسائهم الذين انهمك بعضهم في محادثات كأنها اجتماعات عمل مصغرة. وقف رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الفريق أول ركن عباس عربي على حدة، فقلت لعل الفرصة تسنح بطرح سؤال او اثنين على أرفع ضباط الجيش السوداني. مد يد مصافحا حين اقتربت معرفا بنفسي، وقال بعبارات الترحيب السودانية التقليدية «مرحب بيك»، لكنه سرعان ما اعتذر بلطف عن عدم الادلاء بأي تصريحات او الإجابة عن تساؤلات. وقد تلقى وقتذاك اتصالا عبر هاتفه الجوال، فلم يعد بوسعي ان احدثه عن الفارق الشاسع بين كبار المسؤولين السودانيين الذين يمكن للشخص العادي ان يتحرك بحرية على بعد خطوات منهم من دون أي صعوبات، ونظرائهم في دول عربية اخرى ممن تصعب رؤيتهم احيانا لبعدهم عن الناس.

في مخيم أبو شوك قرب مطار الفاشر، كانت الزيارة بمثابة جولة في قرى جبل سيت باقليم دارفور. وخلافا لاحدى النازحات التي ابتعدت لدى اقترابي منها وكأنها تخاف التحدث الى غرباء، بدت اخرى مرحبة هي وأطفالها السبعة بالزيارة. وسرعان ما توافد جيران وجارات لها من مختلف الأعمار، اتضح انهم جميعا جاءوا من جبل سيت قبل اشهر. كلامهم بلهجة سودانية مطعمة بألوان أفريقية طاغية، عن الغارات التي شنها الجنجويد عليهم في وضح النهار واجبروهم على الهرب سيرا على الاقدام لعشرة ايام، تخلله بعض المرح احيانا. لكن الابتسامة كانت تخبو بسرعة، حين يذكر هذا ابنه الذي قتل على يد المهاجمين، او تحكي تلك عن ولديها وزوجها الذين راحوا ضحية للجنجويد. الجميع قالوا انهم باقون في المخيم لأنهم يخافون على ارواحهم اذا عادوا الى جبل سيت.

وعلق لاحقا أحد العاملين في المجموعات الاغاثية على رغبتهم بالبقاء بقوله انهم يعيشون هنا حياة افضل من حياتهم هناك. وتحدث عن مخيمات يزيد قاطنوها بالآلاف خلال النهار عنه ليلا، وذلك لأن أبناء القرى المجاورة يأتون الى المخيم للحصول على المعونات بحجة انهم نازحون! كان حمل السلاح في دارفور لعشرات السنين طبيعيا كما الرمل والشمس الحارقة في الاقليم الواقع بغرب السودان. لكنه لم يعد رمزا للبطولة فحسب مع اندلاع «الثورات» والثورات المضادة بين الجيران أوائل الستينات. منذئذٍ صارت للبندقية قيمة اضافية إذ غدت سلعة تباع وتشرى للحصول على لقمة العيش، وكثيرا ما سعى حاملوها الأجانب الى التخلص منها لاتمام هروبهم الكبير من «ورطة» الحرب التي خسروها في الوطن وكانت اسلحتهم أدلة قاطعة على ذنبهم الخطير. والأسلحة التي واصلت تدفقها على المنطقة، وبأنواع أشد فتكاً وتطوراً مع مرور السنوات، باتت وقود العنف الذي يشهده الاقليم منذ فبراير (شباط) 2003. وهي في الوقت نفسه عقدة الأزمة التي تبدو مستعصية على الحل. ففيما يتراشق المتمردون والحكومة الاتهامات حول الأسلحة التي يستعملها كل ضد الآخر، الأولون يرفضون التخلي عن بنادقهم ما لم تحقق اهدافهم السياسية، فيما تؤكد السلطة عجزها عن تجريد الجنجويد من بنادقهم لأنهم خارجون عن القانون لا سبيل للإمساك بهم. هكذا تصل مساعي السلام الى طريق مسدود ويبقى الاقليم ملتهبا يصم فيه أزيز الرصاص وقذائف المدافع والطائرات، كما يقول البعض، الآذان.

قبل نحو أربعين عاما، شهدت تشاد المجاورة نزاعات دامية فر الخاسرون فيها بمدافعهم الرشاشة وبنادقهم الفتاكة من طراز جيم ومنغستو الخ.. الى دارفور القريبة. كما كان الاقليم معبرا لكميات من الأسلحة الذاهبة من ليبيا الى تشاد والتي نقلها ابناء القبائل التي توجد في الدول الثلاث. ولما انتقلت بعض فصائل المعارضة من السودان الى ليبيا، تحولت منطقة دارفور الى ما يشبه مستودعا لأسلحة خصوم النظام السوداني. ويعتقد ان كميات من هذه الأسلحة الوافدة من ليبيا لا تزل حتى اليوم مخبأة تحت رمال دارفور. ولئن حقق الرئيس الأسبق جعفر النميري في ضبط المنطقة بقبضة عسكرية صارمة، فدارفور لم تلبث ان استأنفت دورها كمسرح لـ«الثوار» الأجانب المسلحين وازدهر فيها مجددا النهب بقوة البندقية. وفي غضون سنوات، أضحت معقلا لكافة حركات المعارضة التشادية المسلحة، ومنطلقا لأعمال العنف التي شنها هؤلاء ضد النظام الحاكم في بلادهم. وفي أعقاب انتفاضة 1985 ساد الفلتان الأمني في دارفور ونشط تجار السلاح بحرية غير مسبوقة ليغرقوا المنطقة ببنادق ومدافع جاء ببعضها العائدون من حرب جنوب السودان ومن تشاد. وأخذت هذه الأسلحة تجد طريقها الى أبناء القبائل المحلية الذين تسابقوا للحصول على اكبر قدر منها بغرض تحقيق الغلبة على خصومهم القبليين التقليديين أو لتعزيز مكانتهم وبسط سيطرتهم على قبائل منافسة. وتردد ان بعض هذه الأسلحة والذخائر جاءت بأسعار زهيدة من مخازن حكومية.

وثمة عوامل طبيعية جعلت دارفور منطقة مثالية لتجار السلاح وحامليه من المجرمين أو المعارضين السياسيين. فحدود الاقليم التي يمثل بعضها الخط الفاصل بين السودان وكل من تشاد وجمهورية افريقيا الوسطى، طويلة ليس من السهل مراقبتها ناهيك عن ضبطها. واقليم دارفور وعر تكثر فيه الجبال والوديان والسهول والصحارى على مساحة من الأرض تزيد عن مساحة بلاد الشام بدولها الأربعة، سورية ولبنان وفلسطين والأردن. كل هذا ساهم بفتح الباب على مصراعيه للراغبين بالبعث بأمن الآخرين أو الاستيلاء على ممتلكاتهم في الاقليم الذي وصفه ضابط بريطاني مطلع اعتذر عن عدم ذكر اسمه بأنه «منطقة مجرمين وقطاع طرق مثالية».

ومع تفاقم الصراعات القبلية وازدياد نشاطات عصابات النهب والسلب، أخذ عدد ضحايا الأسلحة الفتاكة المستوردة يرتفع باطراد. وذكرت صحيفة «الرأي العام» الصادرة في الخرطوم ان بلاغات القتل بالأسلحة النارية خلال العام الماضي أشارت الى وقوع ما يزيد عن 40 إلى 60 قتيلا في المواجهة الواحدة. وأضافت ان الأمن انحسر بصورة مخيفة في أرياف ولايات دارفور الثلاث حتى لم يعد المواطن يأمن شر المسلحين خارج رقعة محيطة بالمدن لا تتجاوز مساحتها 5 كيلومترات. كما صار السير على الطرق الرئيسية خارج المدن محفوفا بالمخاطر إن لم يكن مستحيلا على الراغب بالبقاء على قيد الحياة.

ولما اندلع التمرد الذي تقوم به «حركة تحرير السودان» و«حركة العدل والمساواة» منذ 19 شهرا في دارفور، كانت أدوات الحرب متوفرة بكثرة، لا بل كان المتمردون مدججين بالسلاح سلفا. ويقول هؤلاء إن ميليشيات الجنجويد التي يتهمونها بشن حملات الحرق والقتل والاغتصاب على السودانيين الأفارقة قد زادتها الحكومة قوة على قوة، وأسلحة على أسلحتها السابقة.

فالقيادي في «حركة تحرير السودان» الذي يعيش داخل البلاد، قال لـ«الشرق الأوسط» إن «السلطة قدمت السلاح للجنجويد ولديها لوائح بأسمائهم لأنها تدفع لهم رواتب شهرية». وهذا في رأيه يجعل تجريد هذه الميليشيات من بنادقها أمرا ممكنا. وعندما سئل عما اذا كانت حركته مستعدة لإلقاء سلاحها اذا تم ذلك وفق خطة محكمة «تجرد الميليشيات الحكومية» بموجبها من السلاح بصورة متزامنة، اعتبر ذلك أمرا غير وارد بالنسبة للجماعة المتمردة. وأوضح «ان هذا الربط غير واقعي فنحن قمنا بالثورة في وقت لم يكن فيه جنجويد تدفع الحكومات لكل منهم 170 ألف جنيه سوداني شهريا علاوة على الحصان والبندقية التي تقدم اليه أول الأمر». واضاف ان ما يعتبره «ثورة» قد «قامت لأجل اهداف سياسية مشروعة ولن نلقي اسلحتنا حتى تتحقق هذه الأهداف».

غير ان مقربين من الحكومة في عاصمة ولاية شمال دارفور، حيث اندلعت شرارة النزاع الأولى، نفوا اتهامات قيادي «حركة تحرير السودان» جملة وتفصيلا. وقالوا ان السلطات الرسمية لم تبدأ سباق التسلح كما انها لم تشجعه. وأضافوا ان «أبناء الفاشر طالبوا الجيش باعطائهم اسلحة للدفاع عن انفسهم وعائلاتهم من الهجمات التي بدأها المتمردون». وزادوا ان الناس «لم يسعوا الى تسلم البنادق من الحكومة قبل بداية التمرد».

أما السائق المتعلم، فقال في ما كانت سيارته الصفراء المنهكة تتمايل بنا فوق وهاد وهضاب» رملية يسمونها طريقا في الفاشر، إن «المنطقة كانت دائما ملتهبة تعج بالسلاح الذي أتى معظمه من عند (الرئيس الليبي معمر) القذافي». وأضاف ان بقية اجزاء البلاد لم تكن حتى سنوات قليلة خلت في منأى عن تجارة السلاح الرائجة التي ضبطت أخيرا الى حد ما. وذكر ان صديقا له «اشترى في الثمانينات مسدسا من سوق ليبيا في الخرطوم بثمانين جنيها سودانيا ولا يزال معه، وأشك في ان سماسرة السلاح لا يزالون يعملون في العاصمة وان بحرية اقل مما مضى».

ولئن كان ممثل الحركة المتمردة رافضا لمبدأ نزع السلاح من مقاتليها، فالحكومة تبدي رغبتها في تجريد الجميع من بنادقهم مع انها مدركة لصعوبة ذلك. ونقلت صحيفة «الرأي العام» عن والي شمال دارفور محمد عثمان كبر اقتراحه وضع خطة شاملة لتجريد الحركات المسلحة كلها من بنادقها ومدافعها الخ.. بشكل متزامن. ودعا الى «شراء» الأسلحة من المواطنين لقاء مبالغ مادية. إلا انه لفت الى ان نجاح خطة كهذه حاليا لا يزال حلما بعيد المنال. وأقر بأن «هذه مجرد امنية في الوقت الراهن ما لم تحدث اجراءات عملية لبسط الأمن وهيبة السلطة». وتابع «أي تفكير غير هذا يكون غير عملي»، مشددا على ان جمع السلاح يقتضي وجود امكانات مادية كبيرة وخبرات فنية علاوة على مساعدات خارجية. واعتبر ان اللواء الطيب ابراهيم محمد خير والي دارفور السابق، نجح نظريا في جمع الأسلحة بيد ان محاولته أدت الى نتائج عكسية. وقال ان الدولة وقتذاك وعدت المواطنين بتعويضات مالية اذا تخلوا عن اسلحتهم، بيد أنها لم تفِ بوعودها الأمر الذي أثار استياء بين الناس وأدى الى ضياع ثقتهم بالدولة.