إسرائيل والانتفاضة: لماذا سكتت أصوات دعاة السلام الإسرائيليين؟

TT

على عكس الانتفاضة الفلسطينية الاولى (1987 ـ 1990) التي نجحت في التأثير الايجابي في المجتمع الاسرائيلي وافرزت تعاطفا واسعا معها، انعكس في سقوط حكم اليمين برئاسة اسحق شامير، فان الانتفاضة الثانية (1999 ـ 2004) لم تنجح في استقطاب تأييد اسرائيلي، بل يلاحظ ان الجمهور اليهودي في اسرائيل (والعالم) اتجه نحو اليمين بشكل حاد واستحكم لديه العداء للفلسطينيين وبات اداة سهلة لمخططات اليمين الحربية العدائية ولدعايته الديماغوغية. وبحسرة نرى هذا الجمهور بغالبيته الساحقة يقبل كل رواية للقيادة السياسية او العسكرية بلا نقاش تقريبا، ويستسيغ بعض ما يقال كأنه مقدس.

ففي حين ان 58% من الاسرائيليين كانوا يؤيدون إقامة دولة فلسطينية على غالبية اراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة قبل الانتفاضة، فان 48% يقولون اليوم انهم يرفضونها (حسب استطلاع رأي اجراه «مركز ابحاث الأمن القومي» التابع لجامعة حيفا) ونشرت نتائجه قبل يومين.

ومع ان الانتفاضة كلفت اسرائيل ثمنا باهظا، اذ قتل فيها 948 مواطنا وجرح 5800، كما كان ثمنها الاقتصادي هائلا (خسائر تقدر بـ22 مليار دولار حسب تقديرات بنك اسرائيل)، فان غالبية الاسرائيليين يؤيدون سياسة الحكومة المتشددة حيال القضية الفلسطينية. 79% يؤيدون استمرار الاغتيالات ضد الفلسطينيين، مع العلم بأنهم يعرفون ان الاغتيالات تقود الى ردود فعل فلسطينية ولا توقف الصراع.

ومع ان الاسرائيليين يعرفون ان خطة الفصل التي يطرحها رئيس الوزراء، ارييل شارون، وتقضي بالانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية وازالة المستوطنات في المنطقتين، لن توقف الصراع، وقد تترافق مع تصعيد فلسطيني (لأن الخطة اعدت وستنفذ بلا تنسيق مع الفلسطينيين)، فان الاسرائيليين يتعاملون معها كما لو انها الحل السحري. 69% منهم يؤيدونها، و59% يؤيدون ان يتم الاسراع في تطبيقها من اجل تقليل حجم الخسائر الاسرائيلية.

ومع ان شارون، يعتبر من حيث النتائج الملموسة، من اسوأ رؤساء الحكومات الاسرائيلية، حيث انه لم يحقق أي شيء مما وعد به ناخبيه مرتين، خصوصا الأمن والسلام والرخاء الاقتصادي، وفي عهده يشهد المجتمع الاسرائيلي تدهورا اقتصاديا وشروخا اجتماعية، فانه لم يسبق ان حظي رئيس قبله بمثل ما يحظى به هو من تأييد شعبي. فالجمهور يرى فيه قائدا قويا حازما وقادرا، ويؤمن به ويمنحه الثقة، مع ان المعسكر الذي انتخبه (معسكر اليمين) والحزب الذي قاده (الليكود) فقدا الثقة به وصوتا ضد برنامجه السياسي وخطة الفصل. فما هو سر هذا التناقض؟ وهل يوجد دور للانتفاضة الفلسطينية فيه؟

من الواضح ان هناك مشكلة في المجتمع الاسرائيلي نفسه. فهو غارق في اجواء الغطرسة العسكرية وسُكر القوة ويعتبر ان نجاح الكفاح الفلسطيني بمثابة مساس لهيبته. والاوساط السياسية اليمينية في المجتمع الاسرائيلي، ما زالت متمسكة بشعاراتها القديمة حول السيطرة على كل فلسطين «ارض اسرائيل»، ان لم يكن عسكريا فعلى الأقل من ناحية النفوذ والتأثير. وهي تقول لنفسها ان اسرائيل لم توافق على انهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية في فترات سابقة كان فيها العرب اقوى وموحدين (مثلا بعد حرب اكتوبر) وكان هناك توازن قوى دولي (قبل انهيار المنظومة الاشتراكية)، فكيف توافق على ذلك اليوم، حيث العرب مفككون وقدراتهم العسكرية ضعيفة، والعالم محكوم بدولة عظمى واحدة تناصر اسرائيل وتدعمها بكل قوة وبكل تحيز؟! وأكثر من ذلك، في المجتمع الاسرائيلي تتنامى العنصرية العدائية للعرب عموما وللفلسطينيين بشكل خاص. فلم يعد الكلام عن تهويد البلاد وتهويد الأرض سريا او خفيا. ولعل ابرز تعبير عن ذلك هو كثرة اعمال التعذيب والتنكيل البشعة ضد الفلسطينيين والاغتيالات، لدرجة ان 64% منهم قالوا انهم يؤيدون هجرة العرب من اسرائيل (حسب الاستطلاع المذكور اعلاه)، كما قال 49% انهم يؤيدون حرمان المواطنين العرب في اسرائيل من حقهم في التصويت في الانتخابات العامة.

وأحد اسباب التدهور نحو اليمين في المجتمع الاسرائيلي يعود الى سياسة حكام اسرائيل المتعاقبين، الذين ادخلوا الى عقل ووجدان المواطن اليهودي العادي مفاهيم كولونيالية حول قدسية الأرض وحيوية الاستيطان. واستغل هؤلاء، الى حد كبير، الخوف الحقيقي والتاريخي لليهود (هذا الخوف متجذر عبر 2000 سنة مطاردات وملاحقات في اوروبا بلغت أوجها في زمن النازية، التي خططت لابادة اليهود وبدأت تنفذ مخططها)، واقنعوهم بأن العرب عموما، والفلسطينيين بشكل خاص، هم القادمون بالدور في مسلسل الملاحقة والابادة. فاذا لم تكن اسرائيل قوية فسيقضون عليها. «ومن يبكر لقتلك، بكّر انت لقتله»، كما يقول المتدينون المتطرفون نقلا عن التوراة.

ولكن هذه ليست الاسباب الوحيدة. فالانتفاضة الثانية، على عكس الانتفاضة الاولى، ساهمت في تغذية هذا الخوف وشجعت على ذلك التطرف والانعطاف اليميني. فهذه الانتفاضة، التي اختارت اسلوب العمل المسلح، لم تخطط للتعامل مع الرأي العام اليهودي في اسرائيل. لم تخاطب هذا الرأي العام، ولم تأخذه بالاعتبار في برنامجها النضالي ولم تطرح برنامجا سياسيا واضحا. واختارت طريقا سلبيا (لا لمبادرة الرئيس الاميركي بيل كلينتون ولا لعروض ايهود باراك في كامب ديفيد) وفي كثير من الاحيان قدمت لشارون السلاح للتهرب من التزاماته بموجب العملية السلمية.

الانتفاضة لم تدرك خطورة الوضع العالمي الجديد بعد 11 سبتمبر (ايلول) 2001، ولم تأخذ بالاعتبار الموقف الدولي من «الارهاب» وركوب اسرائيل هذه الموجة بنجاح بالغ. وبذلك استطاعت حكومة اسرائيل ان ترتكب ابشع الجرائم ضد الفلسطينيين وتمارس ارهاب الدولة عليهم، بحرية شبه مطلقة، (اذ بلغ عدد القتلى نحو 4 آلاف والجرحى 16 ألفا)، هدمت اسرائيل 3679 منزلا وشردت حوالي 30 ألف فلسطيني من جديد واعتقلت 7336، ومارست مختلف اشكال العقوبات الجماعية مثل فرض الحصار الخانق معظم ايام السنة على معظم المدن والبلدات والمخيمات وفرضت حظر التجول لعدة ايام متواصلة في كل اسبوع في مناطق جنين ونابلس وطولكرم والخليل وحرمت الفلسطينيين من استخدام 41 شارعا (طولها مجتمعة 700 كيلومتر) في الضفة الغربية، فيما سمحت للاسرائيليين بالسير بها بحرية وانشأت مئات الحواجز (الترابية او العسكرية) لاغلاق مئات القرى والمدن.

الانتفاضة الفلسطينية الاولى، بالمقابل، كانت شعبية (بالمظاهرات والمسيرات وقذف الحجارة والاضرابات). حددت لنفسها، ومن اليوم الاول، برنامجا سياسيا سلاميا واضحا هو: إقامة دولة فلسطينية في المناطق التي احتلت عام 1967 وعاصمتها القدس، الى جانب دولة اسرائيلية تعيش بسلام معها. وقادة الانتفاضة حرصوا على اقامة حوار مع حركات السلام الاسرائيلية. وتحدثوا بصوت عال عن التعاون اليهودي العربي. وبدلا من ان يخافها اليهود، خرجوا بالآلاف في المظاهرات دعما لأهدافها السلمية واحتجاجا على ممارسة قادتهم ضدها.

اما الانتفاضة الثانية، فقد ادارت ظهرها للاسرائيليين، ولم تفتش بينهم عن مساندين.