سياسات أميركا في عالم ما بعد 11 سبتمبر والعراق تثير الكثير من المخاوف والقليل من الاطمئنان لدى كل شعوب العالم

الناس من اليابان إلى الأرجنتين .. مهتمون بأميركا وأدوارها الجديدة في عالم ما بعد 11 سبتمبر وحرب العراق * العالم لم يفهم كيف أثرت 11 سبتمبر على أميركا وأميركا لم تدرك كيف فقدت ثقة العالم بسبب حربها في العراق

TT

لا يزال الكوخ الأبيض الذي كان يقيم فيه الحراس قائما، لكن الجنود الأميركيين غادروا منذ زمن، وتثير شيئا من الحنين المخلفات الرخيصة من بطاقات وأقنعة واقية من الغاز والسلك الشائك والخوذات وفناجين القهوة. وقد تحولت نقطة تشارلي، وهي شريحة من الاسمنت المسلح والسلك الشائك، وكانت رمزا للحرب الباردة، الى شيء من التاريخ وأثر بريء من مخلفات الماضي في عالم غرق من جديد في سلسلة أخرى من المخاطر.

وقال يورغان ثيل، وهو يقف وسط قطع من حائط برلين تباع الواحدة منها بعشرين دولارا: «مر على الإنسانية زمن كان من الممكن أن تندلع فيه الحرب العالمية الثالثة من هذه البقعة. لكن كل ذلك تغير الآن». وقد تمكن الإرهاب العالمي من خلق خرائب أخرى جديدة. جزء كبير من أوروبا، والعالم لم يعد يشعر بالأمان، لكنه لم يعد ينتظر القيادة من الولايات المتحدة. فالتوجهات الانفرادية لإدارة الرئيس الاميركي جورج بوش، وخاصة في العراق وميلها للعزلة، قللت من ثقة الآخرين فيها في وقت يتعاظم فيه الإحساس بالخطر والضعف في كل العالم. وتشهد على ذلك المقابلات واستطلاعات الرأي في أكثر من ثلاثين بلدا.

زعيم تنظيم «القاعدة» اسامة بن لادن لا يزال حرا طليقا، وصور الرؤوس المقطوعة ما زالت تنتشر على مواقع الإنترنت، والتطلعات النووية لكوريا الشمالية وإيران تثير الفزع. كثير من الدول يشعر بالعجز في إيقاف المجازر القديمة، ويرى أن الولايات المتحدة هي الوحيدة التي تملك القوة العسكرية القادرة على الوقوف في وجه المخاطر القادمة. لكن هذه الدول نفسها تشعر بالعجز في إقناع الولايات المتحدة باتباع استراتيجية أكثر تعددا في الأطراف وأكثر ملاءمة للظروف.

وأكثر الخلافات حدة بين الولايات المتحدة وحلفائها السابقين هو ذلك الذي يتعلق بتوقيت استخدام القوة. ففي استطلاع للرأي أجراه في يونيو (حزيران) الماضي صندوق مارشال الألماني الأميركي، اتضح أن 54% من الأميركيين يعتقدون أن استخدام القوة يمكن أن يحل قضية الإرهاب، مقابل 28% فقط من الأوروبيين يرون ذلك. وقال 73% من الأوروبيين ان حرب العراق زادت من خطر الإرهاب. وتكشف هذه الاختلافات آليتين اثنتين: العالم لم يفهم بعد كيف غيرت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الشعور الأميركي بالخطر، كما أن الولايات المتحدة لم تعرف بعد أي قدر من الثقة قد فقدته بحربها في العراق.

ويقول محللون، ان السياسة الخارجية للولايات المتحدة لن تتغير كثيرا إذا هزم المرشح الديمقراطي جورج كيري، منافسه الجمهوري الرئيس بوش في انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. فالفرق بين الرجلين لا يتعدى في نظر العالم، اسلوب وشخصية الرجلين. ويؤيد مواطنو 30 من 35 بلداً، بينها ألمانيا، والمكسيك، وايطاليا والأرجنتين، جون كيري ويفضلونه على بوش بنسبة 2 إلى 1، وذلك بناء على استطلاع أجرته مجموعة «غلوسكان» الكندية مع جامعة ميريلاند. ويشير الاستطلاع الى أن 58% من الذين استطلعت آراؤهم في تلك البلدان يقولون ان إدارة بوش أعطتهم صورة أسوأ للولايات المتحدة مقابل 19% قالوا انها اعطتهم صورة أفضل.

وفي بوينس ايريس، عبر الروائي توماس إلوي مارتينيز، في صحيفة «لا أوبنيون» المحافظة، عن خشيته من أن يحصل الرئيس بوش على فترة رئاسية ثانية.

واضاف: «ان العالم الذي يمقت بوش بما يشبه الإجماع، سيتعرض على مدى أربع سنوات أخرى إلى مزيد من العنف والظلام وتهديدات الحروب».

وقد أدى وضع الولايات المتحدة كدولة عظمى، ومخاوف العالم المتعلقة بأمنه، إلى تفريخ نظريات المؤامرة، فصارت واشنطن مؤشرا لخيبة الأمل في كل الشؤون، من الحروب إلى ثقوب الأوزون. ويغذي كل ذلك غياب القوة المكافئة للولايات المتحدة. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، صار مصدر الرعب رجال مقنعون ونظم محاصرة، مثل كوريا الشمالية وإيران.

وفي مقالتها «المراحل الخمس في العداء لأميركا» قالت جودي كولب روبين، ان الشكوك في نوايا واشنطن منتشرة للدرجة التي جعلت كثيرا من الصينيين يعتقدون أن الولايات المتحدة هي التي نشرت وباء السارز. وفي نيجيريا منع حكام ثلاث ولايات إسلامية توزيع مصل أميركي للوقاية من شلل الأطفال، معتبرين أنه مؤامرة أميركية لنشر الإيدز والعقم بين المسلمين.

وفي كتابه «مجاري الإمبراطورية»، والذي حاز على أعلى المبيعات في بيونس ايريس مؤخرا، يقول الكاتب الاسباني سانتياغو كاماتشو، ان الديمقراطية الأميركية أكذوبة تديرها الجمعيات السرية والشركات المتعددة الجنسيات و«وزارة للأكاذيب» تعمل خارج البيت الأبيض. ورغم كل هذه النوايا السيئة فإن كثيرا من العواصم تعترف بأن الولايات المتحدة وحدها هي التي يمكن أن تتصدى لـ«القاعدة» وتستأصل أسلحة الدمار الشامل وتسيطر على النظم المارقة. ويقول كيريل دولنيسكي، طالب الدراسات العليا بموسكو: «إذا فكرت في الأمر لجزء من الثانية، فإن الولايات المتحدة تصرف أموالها الخاصة وتعرض حياة مواطنيها للخطر، فقط ليشعر العالم بالأمان وينام في هدوء».

ويقوم جزء من العلاقات اليابانية مع الولايات المتحدة على أساس هذا القلق. فطوكيو تخشى أن يوجه لها الزعيم الكوري الشمالي كيم ايل يونغ، الذي يصعب التنبؤ بأفعاله، قنبلة وهي غافلة. وكان الزعيم الكوري الشمالي قد هدد بتحويل اليابان إلى «بحر نووي من النار» إذا تحركت واشنطن ضده. ويعتقد اليابانيون أن القوة الأميركية هامة جدا في ردع هذا الخطر.

ويشكك آخرون في نوايا الولايات المتحدة وقوتها العسكرية ويقولون ان خطاب بوش محاصر بالمبالغات عندما يوضع في ميزان التاريخ. صحيح أن كوريا الشمالية تمثل خطرا كبيرا، كما يقول الأوروبيون، ولكن صدام حسين واسامة بن لادن، لم يصلوا إلى مستوى هتلر في قدرتهما على الدمار، كما أنهما لم يشعلا شيئا مثل الحرب العالمية الثانية التي بلغت ضحاياها حوالي 50 مليون.

ويرغب الاتحاد الأوروبي في تقوية دور القارة في الشؤون الدولية. ويقول البعض انه يريد أن يفعل ذلك لاحتواء الدور الاميركي، وبعضهم الآخر يقول انه لتكميل ذلك الدور. ويرى 71% من الذين استطلع أراءهم صندوق مارشال، أن على الاتحاد الأوروبي، أن يصبح دولة عظمى. لكن من غير المحتمل أن تتحول هذه الأماني إلى حقائق، لأن 47% يسحبون تأييدهم إذا كانت الفكرة تعني صرفا عاليا على المعدات العسكرية.

وتثير الفكرة القائلة بان الولايات المتحدة تلعب دور «الشرطي العالمي» بالتزكية، غضب الكثيرين من أقاليم ظلت تكن منذ القدم عداء سافرا للولايات المتحدة. فقد رفض 72% من مكسيكيين استطلعت آراؤهم فكرة أن تكون الولايات المتحدة وحدها الحامية للأمن والنظام. وقال طارق رفعت، مهندس الكومبيوتر بالقاهرة: «أعتقد أن أميركا تمثل خطرا أكبر على العالم الإسلامي مما يمثله الإرهاب. إذا كان من اللازم أن تكون لنا شرطة عالمية فلتكن الأمم المتحدة وليس الولايات المتحدة. ما الذي تفيدني به أميركا إذا صارت شرطيا عالمياً؟ ربما أحتاج إلى هذا الشرطي العالمي ليحميني إذا هاجمت إسرائيل بلدي مصر. وهل تعتقد أن أميركا ستسارع إلى حماية مصر إذا هاجتمها إسرائيل حليفتها اللصيقة؟».

ومن المقاهي إلى البرلمانات ، فإن الولايات المتحدة تمثل مصدرا للتشويش كما يمثل بوش مصدرا للغضب. وكثيرون يرون أميركا دولة تدعي إيمانا قويا بالدين، لكنها سرعان ما تخرج سيفها من غمده. يرونها دولة تدعي امتلاك القوة الأخلاقية لكنها تخرق المواثيق الدولية. يرونها امة تثقل كاهلها الانتهاكات في سجن أبو غريب والعجز في إطفاء النار في العراق، لكنها تمدح كذلك باعتبارها أرضا للفرص المتاحة والرخاء الاقتصادي والحريات الشخصية غير المحدودة.

قبل يومين وبعد أن خرج من أحد الأنفاق في بكين، قال هوان جي، وهو يتأمل في الظاهرة الأميركية: «عندما أكون مع أصدقائي، كثيرا ما نتحدث عن أميركا ونتمنى لو أننا نكون مثلها، وأن نرى الصين تتقدم لتلحق بأميركا. لكننا غير راضين عن أميركا من الناحية السياسية، وخاصة في ما يخص الحرب في العراق. ليس من مصلحة أميركا، أن تحقق أهدافها بظلم الآخرين. وحتى عندما تصبح الصين دولة عظمى، فإننا لا نريدها أن تتصرف مثلما تتصرف أميركا».

وعلى بعد آلاف الأميال من بكين كان السائحون يأخذون الصور من محطة تشارلي ويتجولون في متحف الحرب الباردة. وقد قامت المقاهي على جانبي شارع فريدريش شتراسا الذي كان عاطلا قبلها. ويقوم الباعة الأتراك ببيع الخوذات الألمانية الشرقية القديمة واقنعة الغاز تحت لوحة كبيرة لجندي أميركي. وقالت إريكا ثيل، وهي تقف مع ابنها يورغن، وتذكر وقع الأقدام الأميركية على تلك الشوارع: «ليس بوسع الولايات المتحدة أن تصبح شرطيا عالميا. فالمسلمون لا يريدون من يراقبهم، كما أن الدول ذات السيادة تريد أن تخرج من تحت العباءة الأميركية».

وقال كرستيان شولتز، قبل أن يعبر الشارع ويبتعد عن كوخ الحراس: «قبل 11 سبتمبر، لم يكن ينظر إلى الولايات المتحدة كدولة معتدية. لكن منذ هجمات 11 سبتمبر وتدني الاقتصاد الأميركي، لم يعد الناس ينظرون إلى أميركا باعتبارها ذلك الرجل الذي يصلح كل الأشياء. أنظر إلى العراق، فالناس يموتون كل يوم. أعتقد أنه أصبح خطرا هذه الأيام الارتباط بالولايات المتحدة».

* خدمة «لوس انجليس تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»