الصحافي والجنرال... قلت «أنا خائف منك» فقال اطمئن لسنا مثل جنرالاتكم

نيباليون يحرسون المنطقة الخضراء لقاء واحد في المائة مما يتقاضاه حارس ديانا السابق

TT

(1) حين قالوا قبل ايام «عليك ان تكون في السابعة بمكان معين في غرب لندن، وحبذا لو وصلت قبل ذلك»، لتناول كوب قهوة مع بقية اعضاء الوفد العسكري والاعلامي المرافق للجنرال مايكل جاكسون، قائد القوات البرية البريطانية الى العراق، اعتقدت أن ذلك كان عنوان مكتب تابع لوزارة الدفاع. لكن ما أن دخلت البيت التقليدي، حتى اطلت سيدة مرحبة بشدة معتذرة عن التأخر في استقبالي. قادتني الى غرفة جلوس رحبة فيها بورتريه للامير تشارلز ولي العهد البريطاني بارز، وعلقت على جدرانها لوحات فنية وصور للجنرال مع عائلته بمناسبات خاصة. وكأن زوجته لاحظت تقاسيم وجهي تحت وقع المفاجأة، فقالت مازحة «هذه حجرة عادية للجلوس، وقصتها ليست للنشر». اطل رب المنزل ليلقي على ضيوفه تحية الصباح، وغاب ليعود مجدداً مع القهوة وصحف الاحد.

في الطريق الى المطار العسكري، كان من الصعب ان تنفض عنك الاحساس بالغربة. أنت مع ضابط كبير وثلاثة من المحللين البارزين الذين عرفوه منذ سنوات حتى باتوا ينادونه باسمه المجرد، فيما لا تزال جديداً عليه وعليهم. بعد الاقلاع بوقت قصير جاء وليام شوكروس الكاتب والصحافي الذي اختارته الملكة اخيراً لكتابة سيرة حياة والدتها، محيياً. فاجأني بدفئه وأنا كنت اعتقد اننا كالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان سياسياً لأني اعتبرته دائماً يمينياً. ربما لا نزال مختلفين في مواقفنا، لكن أينبغي أن يمنعنا هذا من التواصل على الصعيد الشخصي باحترام متبادل، وهل يجب ان نحكم على الاشخاص الذين لا نعرفهم سلباً لمجرد اننا سياسياً على طرفي نقيض؟ (2) عندما دعاني الجنرال بحفاوته «العربية» للجلوس قبالته في الطائرة، قلت له: هل آمن على نفسي إذا نطقت بالحقيقة في حضرة ضابط مثلك يستطيع تحريك مئات الالوف من الجنود المدججين باسلحة بعضها نووي؟ قال، وهو في حيرة من أمر هذا الصحافي الذي لم يره من قبل سوى مرة واحدة لدقيقتين او ثلاث: عليك الامان. قلت: انا خائف منك يا سيدي. عاد الى الوراء قليلاً بظهره الذي كان قد انحنى صوبي وبدا رسمياً لهنيهة. ثم تساءل: لماذا؟ انت ضيفي واريدك ان تشعر انك موضع ترحيب. اجبت: المشكلة يا سيدي هي انني من عالم يتحكم جنرالاته، ولو كانوا أقل منك مهارة بكثير في القتال، بالارض ومن عليها. انفرجت أسارير الضابط الذي ظن اول الامر ان السبب مختلف، واخذ يقهقه بصوته الجهوري ذي البحة المميزة التي اورثه اياها سيجار يدخنه باعتدال. وقال: نحن لا نفعل شيئاً من هذا، لاننا كما تعلم نعيش في ظل نظام ديمقراطي. وأضاف جاكسون بعد لحظات صمت، اين ولدت؟ قلت: في عالم قريب من عراق صدام حسين ينصرف عسكريوه لبناء القصور وجمع الثروات واحاطة انفسهم بحراس يسهرون على حمايتهم من أعداء الامة وقضاياها القومية! وقبل أن أنهي جملتي الاخيرة تثاءب فأدركت ان عليّ أن الزم الصمت. لا بد ان الضابط، الذي ترصع صدره أوسمة نالها على أدائه بحروب الفولكلاند وايرلندا الشمالية والبوسنة وكوسوفو حيث كان ابنه ضابطاً صغيراً في قوة كبيرة قادها، قد سمع الكثير عن جنرالات العالم الثالث. وانصرفت وإياه للتمتع بفطورنا المتأخر، بصمت. (3) بدا الجنرال وهو يتحدث بتواضع للجنود العاديين في مواقعهم بجنوب العراق، وكأنه عاد عسكرياً صغيراً مبتدئاً رغم قامته الممشوقة. وهو متواضع بالقدر ذاته مع المدنيين. حين اقترب مني في مقهى القاعدة الجوية بالبصرة محيياً، اشار مازحاً الى مدني بريطاني كان يقف الى جانبي. أبلغته انني احاول اجراء مقابلة مع ممثل مقتدى الصدر في البصرة، فتلفت يمنة ويسرة كأنه يبحث بدون جدوى عن ضابط لتكليفه مساعدتي. عندها سارع المدني الى التطوع بالسعي لترتيب المقابلة، فعقب الجنرال بحماس «سيكون من الجيد أن تفعل لو استطعت». غير ان المحاولة لنيل نصف ساعة من وقت السياسي الثمين، لم تُجدِ. وفي المقهى اياه، وجدت الضباط البريطانيين مستعدين لفتح قلوبهم والحديث بجرأة لم اتوقعها، في السياسة والحرب. تحفظهم، أو قل انتقادهم الرزين لغزو العراق لا يخفي نفسه. أحدهم وهو برتبة صغيرة نسبياً كان اشد صراحة من الكولونيلات. أسرّ لي عندما انفردنا للحظات بأنه كان منذ البداية معارضاً للحرب ولا يزال، مع أنه ضابط عامل. أحدهم، وهو خريج واحدة من ارفع الجامعات العالمية، همس مرة في أذني خلال نقاش عن الأزمة قائلاً: انت تعرف أكثر منا جميعاً عن الشأن العراقي. مرد هذا الإطناب اللطيف الذي يشي بتواضع جم هو اني كنت العربي الوحيد بينهم. ولو استطعت ان ارد لقلت له: ليتك تدرك يا صاحبي اننا نحن العرب لا نلم أحياناً بشؤون بلداننا الاصلية ناهيك من أخرى مجاورة. (4) الليفتنانت جنرال الاميركي توماس ميتس، الذي يعتبر من قياديي الصف الاول في بالعراق، شدّ على ايدينا واحداً واحداً حين قدمنا اليه الجنرال جاكسون. وقادنا قائد فيلق القوات المتعددة الجنسيات الى منضدة بعيدة في مكتبه الذي يكاد يكون ملعباً للتنس كي لا نقول لكرة القدم، ليرينا مسدساً ـ تحفة عثر عليه في احد قصور صدام. والقطعة المزخرفة بطريقة لافتة كانت ستسطو على الإعجاب بسرعة لولا انها أداة للقتل. كان التلفزيون صامتاً مع ان شاشته مفعمة بالحياة، ولا تخطئ بملاحظة أن القناة كانت «فوكس» الاميركية المتهمة بالتحيز لصالح البيت الابيض وسياساته في العراق وخارجه. والى اليسار بدت عشر صور لضربات الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) وقد انتظمت على نحو فني فوق الجدار. وعلى جدران البوابة الرخامية لقصر الفاو الذي يحتل الجنرال ميتس وفريقه قسماً كبيراً منه، أبيات شعرية بحروف من معدن أصفر له بريق الذهب. بعض الحروف سقطت، وبقي كثير منها يعبر عن الاشادة بالفاو. وما يلفتك في القصر ليس فخامته ورونقه الرخامي الباهر، بل التشويه الذي لحق بجمال العاج بسبب قطع وكتابات وتشكيلات ملونة جعلت المشهد العام طافحاً بالسوقية. ولا شك انه كان في عهد صدام يغص بالشعارات والتماثيل التي يحرص كل دكتاتور على زرعها في أرجاء «اقطاعيته».

(5) في احد شوراع المنطقة الخضراء، كان الشاب العراقي يغذ الخطى بعد خروجه من العمل برفقة زميلات له. حييته بالعربية، فاجاب بإنجليزية جيدة جداً طغت عليها اللكنة الاميركية. قال أنا عشت في بريطانيا لأربع سنوات وأعجبتني كثيراً. ولما سألته من اين اتته هذه اللهجة الاميركية إذن، أجاب بأن العمل مع الاميركيين طوع لسانه في الفترة الاخيرة فاكتسب لهجتهم. وأضاف، في ملاحظة اشك في دقتها، ان الاميركيين لا يفهمونه اذا تحدث الانجليزية البريطانية! على كل باب ومنعطف في المنطقة الخضراء ببغداد، جنود من النيبال يعملون على حراستها بقبعاتهم المميزة وبزاتهم الكاكي التي حملت عبارة «غلوبال سيكيورتي». قال الكولونيل البريطاني الزائر عندما مررنا بمجموعة منهم ذات صباح: انا سعيد لاجل هؤلاء القوم اللطفاء فلا بد انهم يتقاضون اجراً لا بأس به لإعالة عائلاتهم. وعندما تبين أن كل واحد من النيباليين لا ينال سوى 9 دولارات في اليوم الواحد، فغر الكولونيل ومن حوله افواههم. والمفارقة اني قرأت قبل ايام ان حارساً شخصياً للاميرة الراحلة ديانا يعمل حارساً امنياً في العاصمة العراقية لقاء الف دولار يومياً!