الحريري يقدم استقالة حكومته ويعتذر عن عدم تشكيل غيرها مشيرا إلى «اصطدام» أهدافه بـ«وقائع سياسية معروفة»

الرئيس اللبناني يبدأ اليوم استشارات تكليف خلف له واتجاه لتسمية كرامي

TT

وضع رئيس مجلس الوزراء اللبناني رفيق الحريري حداً للغموض الذي اكتنف مسألة الوضع الحكومي منذ اعلانه الشهر الماضي عن عزم الحكومة التي يرأسها على الاستقالة، بعد اقرار مجلس النواب تمديد ولاية رئيس الجمهورية اميل لحود ثلاث سنوات. فقد قدم الرئيس الحريري استقالة حكومته الى الرئيس لحود عصر امس معتذراً في الوقت نفسه عن عدم ترشحه لرئاسة الحكومة المقبلة، ومبرراً ذلك بما سماه «اصطدام الاهداف» التي سعى لتحقيقها «بوقائع ساسية معروفة». وكانت «الشرق الاوسط» في عددها الصادر صباح اول من امس قد نشرت على صفحتها الاولى خبراً بعنوان «استقالة حكومة الحريري خلال 48 ساعة».

وقد قبل لحود استقالة الحريري، معرباً عن شكره له وللوزراء في حكومته المستقيلة، طالباً من الحكومة الاستمرار في تصريف الاعمال ريثما تشكل حكومة جديدة. واعلنت رئاسة الجمهورية عن بدء رئيس الجمهورية اليوم اجراء الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلف. وعلمت «الشرق الاوسط» ان تفاهماً على اعلى المستويات قد جرى لتولي رئيس الحكومة السابق عمر كرامي هذه المهمة.

واثر مغادرته القصر الجمهوري اصدر الحريري بياناً شرح فيه الاسباب التي حملته على الاستقالة وعلى الاعتذار عن عدم القبول بتكليفه تشكيل الحكومة الجديدة. وجاء في البيان: «لا يختلف اثنان على حجم التحديات الداخلية والخارجية التي تحيق بلبنان وبأمتنا العربية. غير ان التحدي الرئيسي الماثل امامنا جميعاً يتعلق بكيفية مواجهة تلك التحديات، وبالمقومات الوطنية والقومية المطلوبة لدفع المخاطر الماثلة عن لبنان والامة العربية».

واضاف: «ان مواجهة التحديات اي تحديات، لا يمكن ان تستقيم الا من خلال جبهة داخلية متراصة تحاكي طموحات اللبنانيين وارادتهم وثقتهم بدولتهم وحكومتهم. وهي الاهداف التي ما زلت ارى انها تشكل المنطلق السليم لحكومة تتولى مسؤولية الشأن العام وتؤكد على التزام الثوابت الوطنية والقومية للبنان ولا تخل بعوامل الثقة مع المواطنين».

وقال الحريري في بيانه: «لما كانت هذه الاهداف قد اصطدمت بوقائع سياسية معروفة، وبعد المناقشات التي اجريتها مع فخامة رئيس الجمهورية ومع دولة رئيس مجلس النواب، وجدت من المناسب ان اتقدم باستقالة الحكومة، مقرونة باعلان الاعتذار عن عدم ترشيح نفسي لرئاسة الحكومة، متمنياً ان تسفر الاستشارات النيابية الملزمة لفخامة الرئيس مع السادة النواب عن تكليف رئيس جديد لتشكيل حكومة تعمل لمصلحة لبنان وتعبر عن طموحات شعبه».

ولفت في البيان ما ورد في فقرته الاخيرة حيث قال الحريري: «انني استودع الله سبحانه وتعالى، هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب. واعبر من كل جوارحي عن شكري وامتناني لكل الذين تعاونوا معي خلال الفترة الماضية».

وقد اثارت هذه الفقرة تساؤلات حول ما قصده الحريري منها، وما هي خططه للمرحلة المقبلة.

وفيما اعتبرت اوساط سياسية متابعة للملف الحكومي استقالة الحريري «مفاجأة» اكدت اوساط مطلعة على اجواء الاجتماعات الاربعة التي عقدها الحريري مع رئيس الجمهورية في الاسبوعين الماضيين ان هذه الاستقالة جاءت نتيجة طبيعية لما اسفرت عنه الاجتماعات المذكورة التي كانت توحي عبر الصور الملتقطة للرئيسين بأنهما قطعا اشواطاً في العزم على «فتح صفحة جديدة» وفي رغبة كل منهما بالتعاون والتفاهم مع الآخر، فيما ان حقيقة الامور كانت تشير الى عكس ذلك، والى استمرار التباعد بين الاثنين في النظرة الى سبل معالجة الامور والتعامل مع المرحلة المقبلة. وهذا ما ظهر جلياً في الامتحان الاول عبر البحث في تشكيل الحكومة الجديدة، حيث بدت الخلافات شاسعة بين لحود والحريري، لا على الاسماء المرشحة لدخولها فحسب، بل حتى على الشكل والشعار الذي ستسير على هديه، ففيما يرى الاول ان الحكومة المنوي تشكيلها لا بد ان تكون حكومة مواجهة وجامعة وسياسية بامتياز بعد صدور القرار 1559، يميل الثاني الى ابعاد السياسيين عنها وجعلها حكومة تكنوقراط من منطلق انها ستكون بذلك اكثر قدرة على الانتاج والتعامل مع المستجدات.

وتلفت هذه الاوساط الى ان الحريري الذي لم يوفق في الاتيان بحكومة وحدة وطنية بعد معارضة رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط و«لقاء قرنة شهوان» المسيحي المعارض الانضمام اليها، وازاء الاخفاق في التوصل الى قواسم مشتركة بينه وبين رئيس الجمهورية مع استمرار الاخير في توجيه «الرسائل» الانتقادية له من دون ان يسميه، تطلع الى مساعدة دمشق للخروج من الوضع الراهن. الا ان جواب العاصمة السورية كان يحث المسؤولين اللبنانيين على حل مشاكلهم بأيديهم من دون انتظار تدخل سوري لطالما اتخذته المعارضة ذريعة للهجوم على الوجود السوري في لبنان حتى بلغت اصداؤه اروقة الامم المتحدة ومجلس الامن. وهذا ما عبر عنه صراحة رئيس مجلس النواب نبيه بري في لقائه الاسبوعي مع النواب امس وبعد اجتماعه مع الحريري صباح امس حيث قال: «يحاول الكثيرون الآن وبينهم الرئيس الحريري الطلب ان تتدخل سورية لحلحلة العقد التي تعترض التفاهم على الشأن الحكومي. غير ان سورية اكدت لي ولغيري انها لن تتدخل على الاطلاق».

وقال بري الذي التقى ايضاً رئيس الجمهورية انه صارح الرئيس وصارح الحريري بضرورة الخروج من المأزق الحكومي، وكذلك صارح النواب بأنه «عندما جرى تأليف الحكومة الحالية هذه (المستقيلة) بمؤازرة سورية تنكر لها الجميع عند اللزوم، بينما اليوم ايضاً وبدعم سوري طلب ان يكون الرئيس الحريري رئيس حكومة العهد الجديد (الممدد له). وهذا الامر تم بناء لرغبة سورية منذ حوالي الشهر، غير انه، مع الاسف، حتى الآن ورغم تردي الاوضاع لم يصر الى الاستقالة، والى تأليف حكومة جديدة».

واعتبر وزير الدولة عبد الرحيم مراد، تعليقاً على استقالة الحكومة انه «كان من المفترض ان تستقيل قبل اليوم (امس) خصوصاً انه لم يكن هناك مبرر لبقائها»، متمنياً تشكيل حكومة «تعمل ضمن اطار خطة واضحة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية». ولفت الى «ان لدى كل طائفة غنى بالاشخاص المؤهلين لتسلم المناصب كرئاسة الحكومة وغيرها».

وحول امكانية عودة الرئيس الحريري عن قراره بالاعتذار عن عدم تشكيل الحكومة، اجاب مراد: «لا اعتقد ان الاعتذار كان تكتيكياً. واعتقد ان الرئيس الحريري قرر عدم اكمال المسيرة في ما يتعلق برئاسة الحكومة».

وطالب المجلس السياسي للحزب الديمقراطي اللبناني عقب اجتماعه الدوري الذي عقده امس برئاسة الوزير طلال ارسلان، بتشكيل حكومة جديدة «قادرة على احداث صدمة ايجابية في بحيرة الشلل الآسنة، وقادرة في وجوهها وتوجهاتها على اعادة الثقة بين المواطن والدولة عبر رعاية الشؤون العامة الملحة بعين الخدمة والمصلحة العامة».

وتناول الحزب موضوع تمثيل الطائفة الدرزية في الحكومة المنوي تشكيلها، فقال: «ان الحزب الذي يرى نفسه شريكاً في الخيارات الوطنية الاستراتيجية الكبرى، لا يطالب الا بنوعية وحجم الحقوق في الحكومة، التي تحتمها ملاءمة عطاءاته بتمثيله، وما يمكن ان يقدمه من اضافة الى الاداء السياسي والاجرائي في البلاد، فضلاً عن كونه من القوى الاساسية خصوصاً في منطقة الجبل واحقيته في تمثيله بمختلف اطيافه».

وفي أول رد فعل للمعارضة على استقالة الحكومة، قال وليد جنبلاط في أعقاب اجتماع عقده نواب «اللقاء الديمقراطي» البرلماني عصر أمس في منزله في بيروت: «إن اللقاء الديمقراطي، الذي عارض أساسا التمديد وقدم مع المعارضة وثيقة طعن بشرعية هذا التمديد ولم تقدمها الى المجلس الدستوري لأن الدستوري ممدد له وهو تقريباً شبه غير شرعي، لا يستطيع (اللقاء) إلا أن ينسجم مع نفسه ويستمر في عدم الدخول في مسرحية الاستشارات النيابية، آخذين في الاعتبار أننا نعلم أن الوزارة شكلت في اليوم الثاني أو الأول من التمديد وهي كانت جاهزة كما كانت وزارة 1998 جاهزة. وآنذاك قمنا بمسرحية الاستشارات».

وأضاف جنبلاط معلقاً على ما قاله وزير الخارجية السوري فاروق الشرع حول القرار 1559 خلال وجوده في لندن الاثنين الماضي: «قال الوزير الشرع إن تدخل مجلس الأمن في الشؤون اللبنانية أمر تافه. هذا صحيح ونحن لم نراهن سابقاً ولن نراهن اليوم ولا مستقبلاً على تدخل مجلس الأمن ونعلم لعبة الأمم. ولكن أسمح لنفسي بأن أقول إن قرار التمديد هو أيضا أمر تافه ولكنه تافه سيدخل البلاد في دوامة عنف إذا صح التعبير السياسي. وهذه المرة سيخرج النظام الحالي في لبنان كل المخالب الأمنية والسياسية. وقد ابتدأوا عندما أرسلوا سيارة مفخخة لمحاولة اغتيال مروان حمادة».

وأعلن النائبان أنطوان غانم وبيار أمين الجميل، ممثلا حركة الإصلاح الكتائبية في البرلمان اللبناني، مقاطعتهما الاستشارات التي سيجريها رئيس الجمهورية اليوم مع الكتل البرلمانية والنواب لتسمية الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة الجديدة. كما عقدت الكتل البرلمانية مساء أمس اجتماعات لهذه الغاية، وبينها كتلة «التحرير والتنمية» التي يرأسها بري، وكتلة «قرار بيروت» التي يرأسها الحريري.

الى ذلك استقبل الرئيس الحريري مساء امس كلا من السفير الاميركي جيفري فيلتمان والسفير الفرنسي فيليب لوكورتيه.

واعرب الاول عن رغبة بلاده وشركائها الدوليين برؤية لبنان مزدهر، متمنيا تشكيل حكومة من اعضاء اقوياء ذوي صدقية ونزاهة، وان تكون هذه الحكومة قادرة على اتخاذ قرارات بعيدة عن اي تدخل خارجي. فيما اكد السفير الفرنسي ان البيان الصادر عن مجلس الامن اول من امس والمتعلق بالقرار 1559 يعتبر واضحا لانه يعبر عما يريد قوله في ما يتعلق بالوضع في لبنان، مشيرا الى ان لفرنسا هدفا واضحا جدا، وهو خير لبنان، وان يكون هذا البلد مزدهرا وحرا في خياراته، مشددا على ان فرنسا كانت دائما الى جانب لبنان من دون أي مصلحة شخصية.

واعرب الوزير نجيب ميقاتي الذي يعد وحليفه الوزير سليمان فرنجية من خصوم كرامي عن استعداده للتعاون مع الاخير، قائلا لـ«الشرق الأوسط» ان ما يجمعنا مع الرئيس كرامي هو انتماؤنا الى الخط الوطني الواحد.