أبو عمار نجا من القصف ومحاولات الاغتيال وحاصره المرض في رام الله

TT

تتفق المصادر المعلوماتية على وجود خلافات في البديهيات حول الرئيس الفلسطيني. هو ياسر عرفات القدوة! لا، فهو عبد الرؤوف عرفات القدوة، بل الحسيني ايضاً. ولد في القدس يوم 27/8/1929، ولكن نسب ميلاده للقاهرة يوم 24/8/1927.

كان ابو عمار هو مصدر هذه المعلومات المتناقضة، قالها لمحدثيه في فترات زمنية متباعدة وظروف مختلفة، فسجلت في المراجع بأشكالها المتعددة. ويعكس ذلك عملياً تقلبات الوضع الفلسطيني وطبيعة الرئيس المسايرة للتقلبات والتي مكنته من قيادة حركة النضال الفلسطيني رسمياً منذ عام 1969. توليه للقيادة عكس ايضاً الظروف الفلسطينية، فحسب رفاقه من مؤسسي حركة فتح، زج بياسر عرفات لاشهار ذاته وتنصيبه لقيادة فتح ثم منظمة التحرير لقناعتهم آنذاك ان الوضع العربي سيقضي على من يظهر من القيادات، وبالتالي كان اختياره كبش فداء ظناً من رفاقه ان البقاء سيكون من نصيب المستورين في ظروف عمل كانت لا تزال تتسم بالسرية والخوف من المجهول.

لقد شارك عرفات شاباً في الحرب الاولى ضد اسرائيل وتأثر بالنكبة وساهم لاحقاً في تكوين اتحاد الطلاب الفلسطيني في القاهرة وقدم مع رفاقه في 12 يناير (كانون الثاني) 1953 وثيقة مكتوبة بالدم الى الرئيس اللواء محمد نجيب.

آنذاك كان عرفات يدرس الهندسة ويحرص على الهندام الجميل، ولكنه كان ايضاً يعتمر الكوفية البيضاء والعقال لاظهار الخصوصية وللتمويه ايضاً، اذ كان قد انخرط في اقامة الخلايا الاولى للحركة الفدائية سراً في كل من قطاع غزة والاردن وسورية ولبنان ومصر، وكان العمل في اتحاد الطلاب كغطاء للنشاطات وأسلوب للتجنيد.

في اغسطس (آب) 1956 كان عرفات وصلاح خلف في طريقهما بحراً للمشاركة في المؤتمر الدولي للطلاب في براغ... وهناك اعتمر عرفات كوفيته البيضاء خلف اسم فلسطين. بعد شهرين كانت اسرائيل قد احتلت قطاع غزة في العدوان الثلاثي وبدأت في ملاحقة مؤسسي فتح غير المعلنة هناك، بينما تجند عرفات في القوات المصرية لمقاومة العدوان.

عام 1957 غادر عرفات القاهرة للكويت، وذهب صلاح خلف الى غزة لتوسيع التنظيم. اتخذ الاول الاسم الحركي "ابو عمار" والثاني "ابو اياد" تمهيداً لاشهار فتح. كان الاسم الحقيقي الذي اتفق عليه بين المؤسسين في دول الخليج وقطاع غزة هو "حركة التحرير الوطني الفلسطيني" ومختصراً كالعادة سيكون "حتف"، ولكنهم قلبوه الى "فتح" تيمناً بالاسم والمعنى وتخفياً اضافيا.

كانت القناعات الاولى التي كونت فكرة عرفات هي استقلالية القرار والعمل الفلسطيني وعدم الارتباط بالانظمة العربية سياسياً او عسكرياً او مالياً. ايديولوجيا كان عرفات ورفاقه قريبين من الاخوان المسلمين ولكنهم اعجبوا بماو تسي تونج وجيفارا، وتأثروا كثيراً بحركة التحرير الجزائرية. ورغم النزعة الاستقلالية عن العرب انطلاقاً من اثار النكبة 1948 الا ان عرفات كان يعرف ان الحرب الفدائية هي اداة تكتيكية لتحقيق الهدف الاستراتيجي، وان العدو اقوى من ان تهزمه حرب العصابات التي اريد لها ازعاج اسرائيل والحفاظ على شرارة التوتر في المنطقة... وقبل كل شيء الحفاظ على اسم فلسطين وحقوق شعبها في الساحة الدولية.

اسباب التزام منظمة التحرير، التي اسسها الزعماء العرب في اول قمة عام 1964، في عدم المطالبة بالضفة والقطاع ومنطقة الحمة، كانت معروفة، فالضفة تحت سيطرة الاردن، والقطاع تحت اشراف مصر، والحمة اصبحت سورية، ولن تقبل هذه الدول تسليم هذه المناطق الفلسطينية لمنظمة اقاموها ونصبوا احمد الشقيري على رأسها لتهدئة الوضع الفلسطيني وسحب البساط من تحت اقدام الحركات الفدائية المستقلة. لكن حركة فتح من طرفها لم تجرؤ قبل عام 1967 على المطالبة بتلك المناطق لينطلق منها العمل الفلسطيني او لتقام عليها الدولة الفلسطينية حسب قرار التقسيم، حتى بعد نكسة 1967 واحتلال سيناء والجولان والضفة والقطاع، وجد عرفات نفسه مضطرا لرفض مشاريع الحل السياسي التي قبلتها القيادة المصرية بداية من مشروع روجرز حتى كامب ديفيد. كان يعرف ان الحل السياسي لا مهرب منه ولكنه كان يعرف ان قبوله بذلك سيؤدي لتفسخ الحركة الفلسطينية وانفكاك الشارع الفلسطيني عن قيادته.

في الجلسات الضيقة كان عرفات يمهد لقبول الحل، ولكن خطبه العلنية كانت تماشي رغبة الجمهور. هذه الجدلية ادت الى انتقادات مبكرة لقيادته بل لاتهامات ان ممارساته كانت تهدف اصلا لتطويع الرأي العام الفلسطيني لتقبل الحل السلمي في النهاية. بعد حرب اكتوبر (تشرين الاول) 1973 واستعادة الانظمة العربية المجاورة لفلسطين هيبتها عسكرياً تخوف عرفات من الحل السياسي بدون المنظمة فشجع اليسار الفلسطيني وتحديداً الجبهة الديمقراطية لطرح برنامج النقاط العشر في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974 ومفادها اقامة الدولة الفلسطينية على اي جزء يتم تحريره من فلسطين دون التعريف بالتحرير ان كان عسكرياً او سياسياً.

في اكتوبر 1974 اقر القادة العرب في قمة الرباط بحق منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) كان رئيس المنظمة ياسر عرفات يخطب في الامم المتحدة حاملاً غصن الزيتون.

مياه كثيرة جرت في انهار العرب بين 1/1/65 والاعتراف العربي بقيادة المنظمة وعرفات كممثل شرعي ووحيد. بعد الاعلان الرسمي الاول عن عملية عسكرية لـ"العاصفة" ضد المحولات الاسرائيلية لنهر الاردن، لم يكن احد يعرف ما هي العاصفة.

بعد هزيمة 1967 انحاز الشارع العربي للفدائيين ووسعت صفوفهم وكثرت تنظيماتهم في الاردن تحديداً. ولكن في الاردن تحولت الامور بالنسبة للنظام الى مسألة حياة او موت. هنا بالذات عجز عرفات عن تقريع المنظمات. كان يريد المهادنة مع الاردن، وكانت المنظمات تجره للصدام ولم يكن امامه سوى المسايرة مفضلاً في النهاية الاقتتال الاردني ـ الفلسطيني على الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني. وانصب النقد الفلسطيني اليساري لاحقاً على عرفات متهماً اياه بالتقصير في حسم الصراع مع النظام الاردني والاستيلاء على السلطة هناك واتخاذ الاردن قاعدة للتحرير.

لقد انجدت القيادات العربية عرفات في الاردن وخرج منه سالماً الى سورية ولبنان ليعيد ترتيب الامور بدعم مالي عربي. وبعد حرب اكتوبر كان تأثير الثورة الفلسطينية وزعيمها قد قل عملياً في الساحة العربية وتقيد سياسياً برؤية الحل السلمي لاستعادة الاراضي المحتلة عام 1967. كان ذلك يناسب افكار عرفات منذ البداية ولكنه مع ذلك اصبح اسيرا للمواقف العربية ولم يستطع الاشتراك مع الرئيس السادات في كامب ديفيد وانحاز للصف العربي المجتمع على الطرف الآخر ضد الكامب.

كلما تقدمت اتفاقيات كامب ديفيد كانت الضربات الاسرائيلية تشتد ضد الثورة الفلسطينية في لبنان. وبعد اسابيع من نهاية الانسحاب الاسرائيلي من سيناء تماماً حصل الغزو الاسرائيلي في لبنان وحصار بيروت عام 1982. كان عرفات هو القائد الفعلي في بيروت طوال 88 يوما من الحصار والقصف والمعارك. رفع اصبعيه دوماً بعلامة النصر، ولكنه على الارجح فقد كل الثقة بالموقف العربي الرسمي آنذاك وخرج مع قواته في سفينة متجهاً الى اليونان بعيداً عن كل العرب وتصالح مع النظام المصري وانشقت حركة فتح بعد ان كانت عصية على الخلافات.

في تونس بدأت السنوات العجاف لرئيس منظمة التحرير التي توزعت قواتها في الصحارى العربية. وكانت واشنطن قد رتبت خروجه من لبنان رداً لحمايته سابقاً للسفارة الاميركية، ولكن واشنطن شولتز وريجان سعت لاحقاً لاستبعاد المنظمة من مشاريع الحل ضمن المؤتمر الدولي، وطاردت الطائرات الاسرائيلية وفرق الاغتيالات القيادة الفلسطينية في تونس، واستشهد رفيق درب الرئيس أبو جهاد ثم ابو اياد بعد كوكبة شهداء قتلوا في بيروت وبقاع العالم.

جاءت الانتفاضة الفلسطينية في اواخر عام 1987 كهدية بل كفرصة اخيرة لياسر عرفات، الذي قرر الا تقوده الاحداث وعواطف الشارع مجدداً. اطر الانتفاضة لطريق الحل السلمي وبعد عام على انطلاقها انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر واقنع عرفات غالبية الحضور بقبول القرار 242 الذي يعترف باسرائيل، وغطى هذا التحول باعلان الدولة في ذلك المجلس (15/11/1988) الذي انتخبه رئيساً لدولة فلسطين. بعد شهر واحد رفضت واشنطن حضور الرئيس الى الامم المتحدة في نيويورك، فانتقلت الامم المتحدة الى جنيف لتستمع للختيار يعترف مباشرة باسرائيل وينبذ الارهاب لتبدأ صفحة علاقات اميركية ـ فلسطينية جديدة قادت الى مؤتمر مدريد للسلام بمشاركة عربية شاملة وبوفد من فلسطينيي الداخل اختاره الرئيس شخصياً.

وبعد الانتفاضة لم يتقبل الرئيس قيادة الداخل الفلسطيني وساعده التعنت الاسرائيلي في مفاوضات مدريد وواشنطن اثناء حكم الليكود فتوصل مع رابين الى اتفاقيات اوسلو التي ادت للاعتراف المتبادل بين اسرائيل والمنظمة وعودة عرفات الى غزة.

بمقتل رابين تعطل تنفيذ بقية الاتفاقيات لكن عرفات تقرب الى واشنطن في فترة حكم الليكود اكثر من اقتراب نتنياهو للحليف الاول لاسرائيل.

ومع وصول ارييل شارون الى السلطة بدأت عملية منظمة لمحاصرة عرفات دوليا ومن ثم حصاره داخل مقره في رام الله حيث يحاصره المرض الآن.