مقهى البدر في البصرة.. مواقد لا تنطفئ وشاي لا يبرد

TT

تتوهج على شط العرب في البصرة مقهى البدر كما هو حالها منذ افتتاحها عام 1945 يتعطر روادها بأريج الماضي ويتبادلون أطراف الحديث عن أخبار الحرب والأدب وهموم الناس الذين لا تختلف كينونة المقهى عنهم في الترحيل والهجرة عن مكان المولد وانغراس شظايا الحروب بين الضلوع. هي مقهى خالدة تقوم بعد كل قتل متعمد لتحتضن روادها من جديد. وليست كغيرها من المقاهي التي غادرت الشاطئ عند أول اطلاقة مدفع.

لم تغير اسمها على الرغم من تغير مسميات الشارع الواقعة فيه من شارع الأمير عبد الإله الى الحرية ثم الكورنيش وبعدها شارع الشهداء ثم الكورنيش مرة أخرى. هي مقهى بدر شاكر السياب وسعدي يوسف وزكي الجابر ومحمود البريكان وفيصل لعيبي وعادل كاظم وغيرهم كثير غادروها. ويتماسى فيها محمد خضير ومحمود عبد الوهاب وغيرهم من أدباء ومثقفين وأساتذة الجامعة وفنانين وأطباء ومتقاعدين وطلبة الجامعة من المحافظات. لها تقاليد عمل وعلاقات اجتماعية وثقافية مع روادها. وهي توأم مقاهي عرب وحسن عجمي والبرازيلية والزهاوي والرصافي في بغداد، وهي من جيل مقاهي توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومحمود العالم ونجيب سرور في مصر.

لصاحب المقهى مهدي سليم البدر، 80 سنة، علاقات حميمة مع رواده يلتقط معهم الصور ويتبادل الذكريات ويوزع الرسائل الواصلة على عنوان المقهى بفرح طفولي ولم يصدف ان جاء الى البصرة واحد من طلاب المحافظات بعد تخرجه ولم يزر المقهى وصاحبه، وذكرها كثير من الأدباء في قصصهم. واستوحى منها الرسامون إلهاما للوحاتهم.

وللمقهى مكتبة صوتية نادرة لاغاني ام كلثوم ومحمد عبد الوهاب وناظم الغزالي والقبنجي ويوسف عمر وغيرهم من موروث قمم الغناء العربي. ويقضي فيها أهالي البصرة اجمل أوقاتهم وخاصة في ليالي الصيف غير مبالين بما يمزق سكون الليل الذي بات مألوفا في المدينة منذ سنوات طويلة.

بقيت المقهى شاهدا ومؤرخا لهذا الشارع الذي ظهر تدريجيا، اذ لم يكن قبل عام 1939 كورنيشا للمدينة بل بستانا عامرا بالنخيل واشجار الفاكهة المثمرة ونباتات الزينه بين نهري العشار والخورة المتفرعين من شط العرب تتقاسمها أبنية شركة النقل البحري الاجنبية والقنصليتين الأميركية والبريطانية وبعض البيوتات التي كان لكل بيت منها مرساته على الساحل وزورقة البخاري قبل ان يزدحم بالأبنية بعد افتتاح الشارع.

ويقول صاحب المقهى ان من الذكريات الجميلة ذلك اليوم الذي ازحمت به المقهي والشارع والشط بالزوارق ابتهاجا بعودة الملا مصطفى البرزاني من منفاة الى الوطن عن طريق البحر بعد ثورة (تموز) عام 1958، اذ استقبلة البصريون بالزهور والابتهاج وهو في طريقه الى بغداد، موضحا ان المقهى كانت تزدحم ايام الخميس والاعياد وخاصة اعياد نوروز وخاصة بالاشقاء من الكويت ومن بينهم رجال الاعمال محمد الثاقب خال الشاعرة الكويتية سعاد الصباح وعبد الوهاب الصكر وعبد اللطيف الحمد، كما كنت ملتقى لابرز الرياضيين منهم حمزة قاسم وشاكر اسماعيل والبطل الاولمبي عبد الواحد عزيز ومن اشهر من استقبلتهم المقهى في ذلك الوقت المرحوم كامل الجادرجي خلال زيارته للبصرة.

ولكل المقاهي المشهورة تقاليد يحترمها الجميع ومنها مقهى البدر التي تحولت من دون قصد الى منتدى أدبي وملتقى ثقافي تتداخل فيها الريادة بالحداثة ومكان لتبادل الكتب والروايات المستنسخة وصدى أخبار مبدعي المحافظة في المهجر.