رحلة »أبو عمار».. من طفولة القدس إلى الشباب في القاهرة .. وحياة العزلة في «المقاطعة» (4)

«فتح» ولدت بلا اسم وأبو إياد كان يسخر :«كل الثورات التي تولد في فلسطين تجهض في العواصم العربية»

TT

وطني يعلمني حديد سلاسلي ـ عنف النسور، ورقة المتفائل ـ ما كنت أعرف أن تحت جلودنا ـ ميلاد عاصفة.. وعرس جداول ـ سدوا علي النور في زنزانة ـ فتوهجت في القلب شمس مشاعل ـ أغمدت في لحم الظلام هزيمتي ـ وغرزت في شعر الشموس أناملي.

* ببصيرة الشاعر المتقدة يعلن محمود درويش خبر اندلاع الثورة بسؤال خبري ملؤه اليقين حين يقول «ما كنت أعرف أن تحت جلودنا.. ميلاد عاصفة وعرس جداول». ولم يكن «درويش» وحده الذي يعلم أن تحت جلود ثوار الشعب الفلسطيني تكمن العاصفة. ورغم أن رجال فلسطين وشبابها محاصرين في الداخل والخارج وكأنهم في زنزانة محكمة لا ينفذ منها أي بصيص من الأمل، إلا أن شمس ثورتهم كانت قد اشتعلت في القلب وتوهجت بنار الثورة. ويصف ياسر عرفات تلك الفترة التي قرر فيها نفر قليل من القيادات الفلسطينية تأسيس حركة «فتح»، موضحا أنهم (وحدهم) الذين أدركوا في ذلك الوقت المبكر مدي حاجتهم لاستقلال الإرادة حتي تنطلق «العاصفة» الكامنة تحت جلودهم فيقول «وحدها (فتح) التي رأى مؤسسوها فشل الدول العربية بكل أحزابها واتجاهاتها في العمل من أجل فلسطين. فأعلنوا مبادئهم التي تقضي بأن علي الفلسطينيين أن يكونوا في طليعة النضال من أجل فلسطين. وأن وسيلتهم الوحيدة هي الكفاح المسلح لحرب تحرير شعبية طويلة».

ويعود أبو عمار ليؤكد لرشيدة مهران تواضع البداية وعدد المؤسسين فيقول «عدد أصابع اليد الواحدة. ولكن هؤلاء كانوا من التصميم والعزم والثورية بحيث استطاعوا أن يضعوا نواة سليمة لحركة التحرير الوطني. وكانوا من القوة والنقاء بحيث حملوا علي أكتافهم أصعب مهمة في التاريخ الحديث، وهي مهمة تكوين حركة مقاومة لثورة تعيش ظروفاً مختلفة تماماً عن ظروف كل الثورات. وعلي أرض المنفي ومن أماكن الشتات المتفرقة استطاعوا أن يجمعوا جموع الثورة التي انتصبت عملاقة طوال السنوات التالية وإلي الحين، فكانت أكبر ثورات التاريخ التي تعيش خارج أرضها».

أما صلاح خلف (أبو أياد) الذي يتمتع بروح ساخرة متمردة، فيصف تلك الفترة في المقابلة الصحافية المطولة التي أجراها معه الكاتب الفرنسي الكبير اريك رولو، فيقول «كل الثورات التي تولد في فلسطين تجهض في العواصم العربية، فقد أثبتت التجربة أن كافة أنظمة المنطقة - الرجعية منها والتقدمية - تعاملنا في نهاية الأمر بنفس الطريقة، مقدمة مصالحها علي مصالح الشعب الفلسطيني ».

ويعود أبو أياد ليؤكد إصرار المؤسسين علي عدم التبعية في نفس اللقاء «وعلي هذا فإن مؤسسي (فتح) أقسموا اليمين علي التصدي لكل محاولة لإخضاع الحركة الوطنية الفلسطينية لإشراف حكومة عربية كائناً ما كانت هذه الحكومة. وعلي السهر علي ألا يستعيدها أي بلد شقيق إلي حظيرته. فقد كان في تقديرنا أنه بهذا الثمن وحده نستطيع أن نضمن استمرار مشروعنا الثوري».

وعن دور أبو عمار في تأسيس حركة «فتح»، يذكر د. سمير غطاس تلك الوقائع التي رواها خليل الوزير (أبو جهاد) علي النحو التالي، تحدث أبو جهاد عن هذه المرحلة فقال « قبل عام 1957 كانت هناك لقاءات عديدة بيني وبين الأخ أبو عمار يجمعنا الهم المشترك والبحث عن الخلاص، وضرورة إيجاد الشكل التنظيمي الأنسب والمعبر عن مجموع حالتنا الفلسطينية ورسم خطوط التحرك المشترك. فدعونا عدداً من الإخوة الذين يشاركوننا الهم والفهم المحدد لبناء التنظيم. وكان مجموعنا خمسة أشخاص فقط هم الإخوة ياسر عرفات، وخليل الوزير، وعادل عبد الكريم، ويوسف عميرة، وتوفيق شديد. وكان هذا هو الاجتماع التأسيسي. وقد عقدنا اجتماعنا الأول في بيت أحد الإخوة في الكويت. ووضعنا في هذا الاجتماع الخطوط العريضة الأولي لعملنا التنظيمي. أما الاجتماع الثاني فقد تخلف أحد الخمسة عن الحضور ممتنعاً عن مواصلة الطريق. فبقينا أربعة إخوة. واتفقنا علي البدء في العمل فوراً من دون الالتفات إلي الاسم فالساحة الفلسطينية تعج بالأسماء. وبقينا نعمل طيلة ثمانية عشر شهراً من دون أن يحمل عملنا أي اسم لأنه لم يكن في اعتبارنا غير الهدف. وهو العمل من أجل فلسطين». ويقول أبو عمار «أنا الذي اقترحت الاسم وهو اختصار لـ «حركة تحرير وطني فلسطيني» وهي الأحرف الأولي (ح. ت. و. ف) فحذفنا (الواو) وقلبنا الأحرف لتكون «فتح».

* الرعيل الأول المؤسس لفتح

* وتحتشد قائمة المنضمين إلي تنظيم حركة «فتح» بالكويت بالعديد من الأسماء والقيادات والكوادر التي التحقت بفتح في بدايتها وشكلت فيما بعد عماد الثورة الفلسطينية. وانضم معظمهم لعضوية اللجنة المركزية لحركة فتح. ومن أبرز القيادات التي عاصرت البدايات بعد المؤسسين الأربعة الذين أشرنا إليهم من قبل تأتي أسماء الإخوة محمود عباس (أبو مازن) الذي بدأ حياته العملية مدرساً في قطر ثم مديراً لشؤون الموظفين بوزارة التربية والتعليم القطرية قبل أن ينتقل للعمل في قطاع البترول، وأصبح بعد ذلك عضو اللجنة المركزية وأول رئيس وزراء في حكومة السلطة الفلسطينية. وقد استقال لخلافات نشبت بينه وبين الرئيس عرفات حول الاختصاصات، وهو حالياً يعد أعلي سلطة بعد أبو عمار لأنه يشغل منصب أمين سر اللجنة المركزية. ومن أعمدة فتح الأوائل يأتي الشهيد عبد الفتاح حمود، والشهيد كمال عدوان الذي قال عنه أبو عمار «كمال عدوان رجل المهمات الدقيقة الحاد بذهنية ذات رؤية واضحة تدرك أبعاد العنف ومدلولاته ونتائجه».

وقد تفرغ كمال عدوان للعمل الثوري وتسلم قيادة مكتب الإعلام وأشرف علي اصدارات جريدة »فتح« وشارك في تأسيس وكالة أنباء »وفا» ثم اسند إليه الإشراف علي العمل الفدائي داخل الأراضي المحتلة، فاقترب أكثر من دائرة الخطر فاستهدفته العملية الاغتيالية التي نفذتها أجهزة الموساد الاسرائيلي فاستشهد مع الأبطال يوسف النجار وكمال ناصر في بيروت في العاشر من شهر ابريل (نيسان) عام 1973. ويعد كل من النجار وناصر أيضاً من الأعمدة المؤسسين لحركة فتح. وكان يوسف النجار قد شارك في حرب 1948 وكان أحد المعالم النضالية البارزة في مدينة رفح ومخيماتها. وشارك في انتفاضة مارس (آذار) 1955 في قطاع غزة واعتقل في أعقابها لمدة 15 شهراً في السجون المصرية. بعدها انتقل للعمل في قطر. وكانت معظم قيادات فتح التي انضمت لقائمة المؤسسين من العاملين في دول الخليج أو السعودية ومنهم علي سبيل المثال لا الحصر فاروق قدومي (أبو اللطف) الذي أصبح عضواً في اللجنة المركزية ثم رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الوحيد الذي لم يدخل أراضي السلطة الفلسطينية ويعيش في تونس حتي الآن مختلفاً مع أبو عمار حول «مقررات أسلو» وغيرها من نقاط الخلاف، وخالد الحسن (أبو السعيد)، وسليم الزعنون ود. فتحي عرفات شقيق أبو عمار الذي كان يعمل طبيباً للأسنان بالكويت وانضم لفتح وأصبح بعد ذلك رئيس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. ومحمود الوزير وهاني قدومي، ومختار بعباع، وعرفات أبو سكرانة، ورفيق النتشة (أبو شاكر)، ومعاذ عابد (أبو سامي)، ورياض الزعنون، وأحمد الإفرنجي، وغالب الوزير، وفتحي البلعاوي، ود. محمود المغربي الذي أصبح فيما بعد أول رئيس وزراء لليبيا بعد ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) سنة 1969م.

أما القيادي الفذ صلاح خلف (أبو أياد) فيحكي قصة انضمامه لحركة فتح لإريك رولو فيقول «في مطلع عام 1959 طلب مني ياسر عرفات أن أبحث لنفسي عن وظيفة مجزية في بلد عربي نفطي. فراتبي كأستاذ للفلسفة لا يكفي لتلبية حاجاتي المعيشية إلا بجهد جهيد. في حين أن الحركة بحاجة ماسة وملحة إلي مال. ومن جهة أخري فإن في وسعنا أن نناضل بحرية أعظم في دول الخليج (حيث كانت مؤسسات الأمن أقل تطورا)، وحيث قادة البلاد هناك أكثر تهيؤاً لتقبلنا بالقياس لما هو حادث لنا في البلدان المتاخمة لإسرائيل. وقد تم ترشيحي لشغل وظيفة في دائرة التعليم في قطر. وبعد أن تلقيت موافقة، أبلغونني بأن الوظيفة لم تعد شاغرة. وبعدها بلغتني معلومات من أحد رفاقنا وهو «أبو مازن» الذي كان يشغل وظيفة إدارية داخل هذه الدوائر بأن مصلحة الأمن المصرية حذرت سلطات قطر من أني كنت (شيوعياً خطراً). لم يمض زمن طويل حتي جاء عبد العزيز حسين مدير التعليم في الكويت إلي غزة لاستقدام معلمين. وبعد مقابلتي قبل بتشغيلي من دون أن يعتد بتقرير الشرطة الذي تلقاه عني والشبيه بالتقرير الذي أبلغ لقطر من قبل. وعشية سفرنا أنا وزوجتي من غزة، جاءني ضابط إلي منزلي ووضع أصفاده في يدي من دون أن يقدم أي تفسيرات. ورغم احتجاجاتي وثورتي فإنه رافقني حتي مطار القاهرة ولم يوافق علي نزع الأصفاد إلا علي سلم الطائرة التي أخذتني إلي الكويت».

وفي الكويت التقي أبو عمار بأبو أياد وتم ضمه لحركة فتح التي كان قد أبلغ بتفاصيل إنشائها وهو مازال بعد في قطاع غزة. وبعدها أصبح عضو اللجنة المركزية ومن أهم وأقوى قياداتها. وأصبح بعد ذلك المسؤول عن قيادة الأجهزة الأمنية الخاصة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. ويتهمه الموساد والاستخبارات الأميركية المركزية بأنه زعيم منظمة «أيلول الأسود» التي دبرت أعمال عنف دامية أشهرها «عملية ميونيخ». وقد اغتيل أبو أياد ومعه هايل عبد الحميد (أبو الهول) وهما يجلسان معاً في منزل أبو الهول بتونس على يدي حارس خاص لأبو الهول بتحريض من (أبو نضال) الذي له علاقات مشبوهة مع الموساد الإسرائيلي.

* الإعداد للثورة.. وانطلاقة البداية

* بعد أن تكونت الهياكل الأساسية لحركة فتح بدأ أبو عمار ومعه أبو جهاد في الإعداد للثورة. وقد تطلب هذا جهداً رهيباً. فيقول أبو عمار عن تلك المرحلة «بعد ذلك بدأنا في تجميع الأسلحة والتدرب عليها والإعداد للثورة التي انطلقت ليلة 31 ديسمبر (كانون الأول) 1964». وكان هذا الإعداد يتم بطرق سرية. وبدأ عمل تنظيم حركة فتح مستتراً تحت الأرض. وبدأت تهيئة الرأي العام العربي لقبول هذا التنظيم الذي اتخذ الكفاح المسلح وسيلته الأساسية لتحرير فلسطين ومقاومة الاحتلال. وابتكرت فتح جهازين أحدهما عسكري، والآخر سياسي علي النمط الهرمي، فكانت هناك خلايا القاعدة ولجان وفروع ومناطق ومجلس ثوري يعمل تحت الرقابة العليا للجنة المركزية التي تستمد سلطتها من مؤتمر وطني بمثابة البرلمان الذي يضم ممثلي كافة فئات الشعب الفلسطيني. وامتدت مرحلة الإعداد أكثر من سبع سنوات (1957 - 1964) بذل خلالها قائد التنظيم ياسر عرفات، ومهندس التنظيم خليل الوزير جهوداً مضنية ومعهم القيادات التاريخية لحركة فتح والتي ذكرنا بعضاً منهم من قبل. وخلال فترة الإعداد تم التركيز علي إيجاد مئات الخلايا علي أطراف حدود إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي مخيمات اللاجئين في سورية ولبنان. وكذلك داخل التجمعات الفلسطينية في البلدان العربية الأخري وفي أفريقيا وأوروبا حتي في الأميركيتين الشمالية والجنوبية. وكان أبو عمار يتواصل مع هؤلاء المناضلين. وكان من يمتلك منهم كفاءات خاصة. كما كان أبو عمار يتخذ قرارات بعد موافقة رفاقه المؤسسين بتعيين هؤلاء المتميزين في وظائف هامة في هذا البلد العربي أو ذاك. فمن ضمن القيادات التي لعبت دوراً هاماً في أوروبا هايل عبد الحميد (أبو الهول) وحمدان وهاني الحسن حيث ساعد المناخ السياسي السائد هناك علي أن تقوم هذه المجموعة بعمل واسع علي صعيد بناء التنظيم وإمداد مركز التنظيم بالطاقات ذات الكفاءات الخاصة والكوادر المثقفة.

ومن المعادلات الصعبة التي صادفتها حركة فتح في سنوات الإعداد هي تعارض شروط السرية المطلقة التي فرضتها حركة فتح علي كل تحركاتها لأمن وحماية أعضاء التنظيم الوليد، مع ضرورة نشر الفكرة وتعميمها والاعلان عنها (علي نحو ما) لدعوة آلاف الشباب المؤمنون بأهداف فتح للانضمام لصفوفها. وكانت المشكلة تكمن في التوفيق بين السرية التامة وضرورة الإعلان عن الحركة. وعثر أبو عمار ورفيق عمره أبو جهاد علي طريقة مبتكرة تمكنهم من نشر أفكارهم بطريقة علنية من دون الكشف عن أسمائهم. إذ جاءت فكرة اصدار مجلة علنية تقوم بمهام الاعلان والتعريف والتعبئة والتحريض. وأوكل أبو عمار وخليل الوزير هذه المهمة إلي المناضلين الأوائل مثل توفيق خوري وهاني فاخوري والفنان اسماعيل شموط. ومع بعض الزملاء الآخرين صدر العدد الأول من مجلة »نداء الحياة - فلسطينياً« وكانت تصدر من بيروت وخرج إلي النور أول عدد من هذه المجلة في أكتوبر (تشرين الأول) 1959 وتوالي صدورها بشكل دوري كل شهر حتي عام 1964 وما أن توقف صدورها في بيروت حتي عاد أبو جهاد وأصدرها في الجزائر تحت اسم (صرخة فلسطينياً) و(أخبار فلسطينيا). وقد أثارت هذه المجلة حفيظة الأنظمة العربية التي حاولت عبثاً أن تعرف من هم الذين وراء هذه المجلة. وبدأت الأنظمة العربية تفتش عن ذلك التنظيم الذي يصدر هذه المجلات من دون أن يظهر علي سطح الأحداث حتي الآن. فقد كانت السرية مطلقة. ولم يصبح أمام الأنظمة العربية سوي خيار وحيد وهو تشكيل منظمات تابعة لها تحمل لافتة فلسطينية ثورية لتكون عيناً لها لاختراق هذا التنظيم المحكم. ومن الطريف أن كثيرين من هؤلاء المكلفين باختراق تنظيم فتح كانوا يأتون لأبو عمار ويخبروه بالمهمة المكلفين بها من قبل الأنظمة العربية. وظلت حركة فتح تعمل في سرية تامة إلي أن أعلنت عن نفسها واحتلت أخبارها العناوين الرئيسية في أهم صحف العالم وانضم إليها العديد من التنظيمات الفلسطينية الأخري. حتي صارت هي البدن الرئيسي في منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا ماسنعرفه في الحلقة المقبلة.