رحيل «الرقم الفلسطيني الصعب»

TT

لم يكن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يدري عندما كان يتحدث الى «الشرق الاوسط» في اخر حوار له مع اي صحيفة او وسيلة اعلام عربية او اجنبية، ان الموت سيكون اسرع اليه منه الى تجسيد حلمه في الصلاة في المسجد الاقصى او في تبوؤ منصب رئيس دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، والتنحي عن هذا المنصب ليصبح نيلسون مانديلا الفلسطيني.

رحل الرئيس عرفات عن الدنيا وبرحيله يغيب «الرقم الصعب» في معادلة الشرق الأوسط. لكنه سيظل الجبل الذي عجزت عن زعزعته الرياح الاسرائيلية، لتطاله كف القدر.

وقضى الـ50 سنة الماضية منها ان يقود العمل الوطني الفلسطيني بدءا من رئاسة اتحاد طلبة فلسطين عام 1951 الذي كان محور العمل الوطني الفلسطيني المستقل مرورا بحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية وصولا الى رئاسة السلطة الوطنية في غزة عام 1994 .

وخلال هذه السنوات العجاف عاش عرفات لحظات عصيبة عديدة منها ميلاد حركة فتح العسير وانطلاقة جناحها العسكري «العاصفة» الاكثر عسرا. وذاق طعم السجون وعاش احداث سبتمبر (ايلول) في الاردن عام 1970 والحرب الاهلية في لبنان (1974ـ1982) وحصار بيروت والرحيل الى تونس وحصار طرابلس وغيرها.

لكن هذه السنوات لم تخل من لحظات النشوة والانتصار. فقد قاد اول انتصار لقوات الثورة الفلسطينية ضد القوات الاسرائيلية في معركة الكرامة في غور الاردن في 21 مارس (اذار) 1968 ودخل الامم المتحدة كاول زعيم حركة تحررية عام 1974 رافعا باحدى يديه غصن زيتون وفي اليد الاخرى البندقية مرددا مقولته الشهيرة «لا تتركوا غصن الزيتون يسقط من يدي» ورددها ثلاثا. ونجح في تحقيق اعتراف دولي بالقضية الفلسطينية ومنظمة التحرير فاق الاعتراف بدولة اسرائيل.

واقتحم البيت الابيض الاميركي كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993. وقاد اول عودة فلسطينية معاكسة الى الاراضي الفلسطينية عام 1994 وانتخب اول رئيس فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1996 وشهد انتخاب اول مجلس تشريعي في تاريخ فلسطين.

* اطلق عليه اسم ياسر لسماحة وجهه

* ياسر ليس هو الاسم الاول الحقيقي لعرفات بل اسم اطلق عليه في طفولته المبكرة لسماحة وجهه كما نقل من قول عن شقيقته الكبرى الراحلة، اما اسمه الحقيقي فهو محمد ووالده هو عبد الرؤوف عرفات القدوة حسب قول احد رفاقه في فتح اما وفق الموسوعة البريطانية فاسمه هو عبد الرحمن رؤوف القدوة. وابو عمار هو أسمه الحركي الذي اطلقه على نفسه تيمنا بالصحابي عمار بن ياسر. وخلافا لرفاقه في حركة «فتح» امثال فاروق قدومي (ابو اللطف) ومحمود عباس (ابو مازن) وغيرهم، فان ابو عمار ليس له ولد يحمل اسم عمار ولم يكن متزوجا أصلا عند تأسيس «فتح» عام 1963 وظل اعزب طوال هذه السنين رغم وقوعه في الحب اكثر من مرة، الى ان تزوج من سهى الطويل مطلع عام 1992 .

وقال عرفات في الثمانينات واصفا نفسه بانه «انسان طبيعي. واود ان يكون لي زوجة واطفال. لكن لا اعتقد ان في ذلك انصافا لاي امرأة ان اطلب منها ان تشاطرني المشاكل والمصاعب التي ستواجهني خلال نضالي الطويل».

لكن سهى الطويل لم تجد في الزواج من عرفات عدم انصاف لها. ونجحت في ما يبدو في خطف قلب عرفات وتزوجت منه عام 1992. وطلق عرفات حياة العزوبية لكنه لم يطلق القضية التي قبلت سهى بها ضرة لها. وحققت سهى الطويل لعرفات حلمه وانجبت له زهوة في 23 يوليو (تموز) 1995 .

* مولد عرفات

* ثمة خلاف حول مكان مولد عرفات. فموسوعة «بريتانيكا» البريطانية على سبيل المثال تقول ان غزة كانت مسقط رأسه. في حين قال احد اعضاء اللجنة المركزية في«فتح» لي انه ولد في القدس. لكن اكثر من مصدر يؤكد انه ولد في القاهرة في 24 اغسطس (آب) 1929 .

ولد عرفات لاب تاجر من خان يونس هو عبد الرؤوف عرفات القدوة وأم هي زهوة أبو السعود وهي من منطقة القدس وتربطها صلة قرابة بعيدة بمفتي القدس الراحل الحاج امين الحسيني (توفي عام 1974). ولهذا كان عرفات يردد ان الحاج امين الحسيني خاله. لا يعرف الكثير عن طفولة عرفات، منذ ولادته وحتى بلوغه سن العاشرة. ولكن ما كتب عنها يفيد بانها كانت طفولة غير سعيدة. كان عرفات واحد من 7 اشقاء وشقيقات هم بالترتيب انعام وجمال ويسرى ومصطفى وخديجة وفتحي. ويقع ترتيب عرفات السادس. انتقل والده للعيش في القاهرة عام 1927 اي قبل ولادة عرفات بعامين ولكن لا احد يعرف اسباب انتقاله وان كان هناك من يعتقد ان الانجليز نفوه اليها وهناك من يقول انه غادر غزة لاسباب تتعلق بتجارته. عام 1933 وافت المنية والدته زهوة بعد اصابتها بمرض كلوي ولم يكن عمر محمد (ياسر) يتجاوز السنوات الاربع. وبعد وفاة والدته التي كان متعلقا بها الى ابعد حدود، انتقل ولاسباب غير معروفة ايضا، للعيش في كنف خاله سليم ابو السعود قرب باب المغاربة حيث قضى هناك حوالي 4 سنوات برفقة شقيقه الاصغر فتحي الذي لم يكن قد بلغ من العمر عامين.

عاد عرفات الى القاهرة وعمره ثماني سنوات اي في عام 1937، وكان والده قد تزوج من امرأة ثانية. لكن علاقة عرفات واشقائه وشقيقاته مع زوجة الاب لم تكن على ما يرام بل اتسمت بالصراع المتواصل واصبح منزل العائلة كساحة حرب، الامر الذي دفع الاب الى تطليقها بعد بضعة اشهر من زواجه منها. وتركت المشاكل المنزلية اثرا كبيرا في نفس عرفات الطفل ونفورا من الجنس الاخر لفترة طويلة. ولهذا كان عرفات لا يحب ابدا الحديث عن طفولته.

ولم يمض وقت طويل قبل ان يتزوج الاب من امرأة ثالثة. وحرص في هذه المرة على اتخاذ اجراءات للحد من المشاكل وذلك بان فصل زوجته الجديدة عن عرفات واشقائه وشقيقاته رغم عيشهم جميعا في نفس المنزل. والقيت مسؤولية العناية بعرفات وبقية اشقائه، على عاتق شقيقته الكبرى انعام التي كانت بمثابة الام لهم. وثمة من يقول ان والد عرفات تزوج من امرأة رابعة.

* سن المراهقة

* يصعب القول ان عرفات عاش سن مراهقة كغيره من اترابه وزملائه. فقد كانت اهتماماته منصبة على اشياء اكبر من سنه. لم يكن عرفات منتظما في دراسته اذ كان مولعا بالسياسة والشؤون العسكرية. فقد كان كثيرا ما يجمع صبيان الحي الذي كان يعيش فيه في القاهرة لتدريبهم على المشي العسكري. وقبل بلوغه سن الـ 17 لعب عرفات دورا رئيسيا في تهريب اسلحة وذخيرة من مصر الى الثوار في فلسطين عام 1946 .

* فترة التحضير للثورة

* في عام 1950 عاد عرفات الى مزاولة دراسته في الجامعة واوصله تفكيره رغم صغر سنه في ذلك الحين الى ان فلسطين فقدت بسبب العجز والفساد العربي وانه لا مخرج من هذا المأزق الا بثورة تقضي على هذا الفاسد وان على الفلسطينيين ان يتولوا امور انفسهم بانفسهم.

وكان تربط عرفات وربما من خلال صلاته بالاخوان المسلمين، علاقة مع الضباط الاحرار في مصر. ونجح عرفات في اقامة معسكر تدريب في الجامعة لتدريب الطلبة الفلسطينيين على العمليات الفدائية وبقي المعسكر مفتوحا حتى 1954 .

وخلال هذه الفترة وتحديدا في عام 1951، تعرف عرفات على صلاح خلف (ابو اياد) الشاب الصغير الذي كان يسعى لاستقطابه الى جماعة الاخوان، واصبح في ما بعد رفيق دربه في حركة فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الى ان قتل عام 1991 في مقر اقامته في تونس، هو ورفيق آخر هو هايل عبدالحميد (ابو الهول).

* عرفات يتقلد اول منصب زعامي

* في عام 1952 تقلد عرفات اول مركز قيادي في العمل الوطني الفلسطيني بفوزه برئاسة اتحاد الطلبة الذي كان محور النضال الفلسطيني في ذلك الحين.

واثبت عرفات خلال قيادته لاتحاد الطلبة انه يمتلك جميع مقومات ومواهب القائد وقدرته على فرض هيمنته على الاخرين. ونجح عرفات من خلال اتصالاته بالوصول الى اللواء محمد نجيب قائد ثورة يوليو، على رأس وفد من طلبة فلسطين وقدم له عريضة مكتوبة بالدم باسم شهداء فلسطين ومصر الذين ضحوا بحياتهم من اجل فلسطين. في هذا اللقاء التقى عرفات مع جمال عبدالناصر لاول مرة.

* بداية حركة فتح

* رغم ان حركة فتح لم تر النور رسميا كحركة تحرر وطني فلسطيني الا عام 1963، غير ان بداياتها تعود الى عام 1954 وهو العام الذي التقى فيه عرفات مع خليل الوزير (ابو جهاد) الذي ظل رفيق سلاحه الى ان استشهد في عملية كوماندوز اسرائيلية في تونس عام 1988 .

ففي هذا العام بدأ عرفات بالتنسيق مع خليل الوزير في شن عمليات عسكرية عبر الحدود. وكان عرفات على قناعة بان العمليات العسكرية هذه ستثير غارات اسرائيلية على الجبهات العربية الامر الذي سيؤدي الى تحرك عسكري عربي.

وصدقت توقعاته ازاء رد فعل الجانب الاسرائيلي لكنها لم تصدق في رد الفعل العربي. فبعد تفجير خزان ماء في منطقة الفالوجة شنت اسرائيل غارات على غزة اسفرت عن مقتل العديد.

وتظاهر عرفات والطلبة الفلسطينيون في مقر الجامعة العربية وطالب بلقاء عبد الناصر الذي التقاه وسمح له بزيارة رسمية لقطاع غزة قضاها عرفات مع خليل الوزير. وعقب عودته قدم عرفات لعبد الناصر تقريرا عن زيارته.

في عام 1956 انهى عرفات دراسته وتخرج مهندسا مدنيا وفقد بذلك قيادته لاتحاد الطلبة الذي كان غطاء لعمله السياسي لكنه سرعان ما وجد غطاء جديدا اذ اسس نقابة اسماها اتحاد الخريجين الفلسطينيين وكانت وسيلة للاتصال بخريجين فلسطينيين خارج مصر.

عند اندلاع حرب السويس تطوع عرفات للقتال مع الجيش المصري في قناة السويس. وقاد كملازم ثان مجموعة ازالة الغام في بور فؤاد. لكنه رفض عرضا للانضمام الى الجيش المصري بعد انتهاء القتال.

رُحِّل عرفات من القاهرة بعدما اصبح شخصا غير مرغوب فيه واتخذت زيارة سرية قام بها الى بغداد ذريعة لذلك. ومن القاهرة توجه عرفات الى الكويت. اما ابو جهاد فقد ترك الدراسة الجامعية وتوجه للعمل في السعودية كمدرس. وعاد صلاح خلف فعاد الى غزة حيث عمل في مجال التدريس في المخيمات لبضع سنوات.

ومن السعودية انتقل ابو جهاد الى الكويت. وهناك شكل عرفات وابو جهاد اول خلية لحركة فتح مكونة من 5 اعضاء (عرفات وابو جهاد وعادل كريم ويوسف عميرة وشخص اخر باسم شديد). وتوسعت الخلية في ما بعد حتى اصبح عدد اعضائها 10 لتكون اول لجنة مركزية لحركة فتح واول قيادة جماعية لها. وكان العمل يتم تحت غطاء من السرية.

وفي الكويت اسس عرفات شركة مقاولات هندسية حيث جمع مالا كثيرا خلال الفترة من 1957 الى 1964 كما يشهد رفاق له بذلك. وكان يمكن ان يكون مليونيرا لو انه اختار طريقا آخر غير طريق النضال. وكان عرفات حسب احد اعضاء اللجنة المركزية في حينه ينفق على نشاطات التنظيم وتنقلات اعضائه.

كان عرفات وابو جهاد يمثلان الاقلية في اللجنة المركزية لفتح التي كانت تؤيد العمل المسلح. لكن سرعان ما اصبحت هذه الاقلية هي الاغلبية.

واضطر عرفات في اللجنة المركزية لفتح ان يقبل بقيادة جماعية رغم قناعته بان مثل هذا الاسلوب سيقف حجر عثرة في اتخاذ القرارات الحاسمة في الاوقات الصعبة كما انه يشكل اقصر الطرق الى الكارثة.

ورغم كل المحاولات لقتل هذا الجنين الذي يسمى فتح، من خلال تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة احمد الشقيري عام 1964، نجحت فتح بوضع حجر اساس العمل المسلح السري وذلك بتنفيذ اول عملية لها تحت اسم «العاصفة» في الاول من يناير (كانون الثاني) 1965 لتصبح بعد ذلك قوة يحسب حسابها.

* معركة الكرامة.. معركة عرفات

* وجاءت هزيمة الجيوش العربية عام 1967 لتعطي حركة فتح فرصة الخروج الى العلن. وكانت معركة الكرامة في غور الاردن في 21 مارس (اذار) 1968 بمثابة الانطلاقة العسكرية الحقيقة لحركة فتح بعد ان نجح بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين بقيادة عرفات على مواجهة الجيش الاسرائيلي وصده على اعقابه من دون تحقيق اهدافه الرامية الي القضاء على فتح ومن وراءها اي تحرك عسكري فلسطيني. وبعد »انتصار« الكرامة فتحت فتح ابوابها امام المتطوعين وانخرط الالاف من الفلسطينيين والعرب في صفوفها لتصبح اكبر تنظيم فلسطيني وفي عام 1969 قررت فتح خوض تجربة منظمة التحرير الفلسطينية لتغيير اوضاعها من الداخل. وانتخب عرفات الرئيس الثالث للمنظمة بعد احمد الشقيري ويحيى حمودة. وبذلك اصبح عرفات الزعيم الوطني الفلسطيني بلا منازع. فقد جمع بين زعامة فتح ورئاسة منظمة التحرير وقيادة قوات الثورة الفلسطينية.

وبعد احداث سبتمبر (ايلول) 1970 وكذلك احداث 1971 في الاردن، خرجت المقاومة الفلسطينية من الاراضي الاردنية وظن البعض ان الثورة الفلسطينية تلفظ انفاسها الاخيرة، لكنها سرعان ما اثبتت العكس وبدأ عرفات انطلاقته الثالثة من الاراضي اللبنانية التي شهدت انطلاقة اول عملية لفتح ضد اسرائيل.

* لبنان ومرحلة التحول السياسي عرفات يقتحم الامم المتحدة

* لكن التوازنات السياسية الحساسة في لبنان لم تتحمل وجود العمل الوطني الفلسطيني فانفجرت الحرب الاهلية عام 1974 لتستمر لسنوات ما بعد خروج المقاومة من لبنان، وليواجه عرفات مرحلة عصيبة اخرى في مسيرته. لكنه في تلك الفترة كان يقود قوة عسكرية ضخمة يحسب لها الف حساب وحقق اكبر انتصار سياسي للشعب الفلسطيني بدخول الامم المتحدة كأول زعيم لحركة تحرر وطنية يسمح له بالقاء خطاب في جمعيتها العمومية. وكان ذلك في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1974 .

وبدأ عرفات يتصرف تصرف رؤساء الدول ويستقبل سفراء الدول الكبرى ووزراء خارجيتها في مقره في بيروت.

* الرحيل عن بيروت ومرحلة العمل السياسي

* في اغسطس (اب) 1982 ارغم عرفات على مغادرة بيروت تحت ضغط الحصار الاسرائيلي للمدينة الذي دام اكثر من شهرين. وبعد مفاوضات استمرت اياما وافق عرفات على الخروج من المدينة مع مقاتليه بكامل اسلحتهم الخفيفة وتحت سمع وانظار القوات الاسرائيلية. واختار عرفات الرحيل الى تونس.

عرفات في البيت الابيض وبوصوله الى تونس فقد عرفات قاعدته العسكرية على حدود اسرائيل وفقد بذلك عامل الضغط العسكري. وظن الكثيرون ان مرحلة عرفات انتهت وان مرحلة جديدة ستبدأ. ليفاجئ عرفات العالم باسقاط الخيار العسكري كليا. ومن تونس شارك عرفات في مؤتمر مدريد للسلام ومفاوضات واشنطن. وفي نفس الوقت كان يقوم بمفاوضات سرية موازية في النرويج، انتهت بالاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير واسرائيل وباتفاق اوسلو الذي اوصل عرفات ولاول مرة الى البيت الابيض في 13 سبتمبر (ايلول) 1993 ليستقبل فيه استقبال رؤساء الدول وليفتح صفحة جديدة في تاريخ الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي بمصافحته التاريخية مع رئيس وزراء اسرائيل الراحل اسحق رابين.

وفي تونس نجا عرفات من عدة محاولات اغتيال كما نجا من الغارة التي شنتها الطائرات الاسرائيلية على مقار منظمة التحرير في حمام الشط التي راح ضحيتها عدد من مسؤولي المنظمة.

لكن الحظ لم يحالف عددا من رفاق عرفات الاوائل وعلى خليل الوزير (ابو جهاد) الذي اغتاله الاسرائيليون في منزله في تونس في ابريل (نيسان) 1988 وصلاح خلف (ابو اياد) وهايل عبد الحميد (ابو الهول) اللذين اغتيلا عام 1991 . كما لم يحالف الحظ العديد من اعضاء مركزية فتح وكبار قادتها امثال يوسف النجار (ابو يوسف) وكمال عدوان وكمال ناصر الذين اغتالتهم مجموعة كومنادوز اسرائيلية في منازلهم في شارع فردان في بيروت في ابريل (نيسان) 1973 ومن قبلهم ابو علي اياد الذي قتل في الاردن عام 1971 وماجد ابو شرار وغيرهم.

عرفات اول رئيس لاول سلطة فلسطينية في التاريخ وفي الاول من يوليو (تموز) 1994 عاد عرفات الى قطاع غزة واريحا واستقبل استقبال الفاتحين من الشعب الفلسطيني الذي اعتبر هذه العودة ثمار انتفاضة استمرت ست سنوات متواصلة ومقاومة ضد احتلال دام قرابة 27 عاما. وحاز عرفات عام 1994 مشاطرة مع شيمعون بيريس على جائزة نوبل للسلام، تقديرا للجهود التي بذلها من اجل تحقيق السلام عبر مفاوضات اوسلو السرية وتوقيع الاتفاق عام 1993 .

وفي 20 يناير (كانون الثاني) 1995 اي بعد 30 عاما على انطلاقة العاصفة وقيام اول عملية فدائية لفتح ضد اسرائيل، انتخب عرفات اول رئيس لسلطة وطنية فلسطينية في التاريخ كما انتخب اول مجلس تشريعي فلسطين في التاريخية. ولم يكن انتخابه نهاية معاناته او معاناة الشعب الفلسطيني باكمله، بل بداية مرحلة جديدة من الصراع مع اسرائيل. وتمكن عرفات والسطة الفلسطينية من بناء بنى تحتية قوية في مناطق السلطة، ورموز سيادة تمثلت ببناء مطار غزة، الذي دشنه الرئيس الاميركي بيل كلينتون في ديسمبر (كانون الاول) عام 1998 في اول زيارة لرئيس اميركي، اعتبرت انجازا كبيرا. والقى كلينتون خلال هذه الزيارة كلمة في اجتماع للمؤتمر الوطني الفلسطيني الذي وافق على تغيير الميثاق الوطني والغاء ما يتعلق بتدمير الكيان الصهيوني. وظلت المفاوضات تسير متأرجحة بسبب التعنت الاسرائيلي، حتى جاءت مفاوضات كامب ديفيد في يوليو (تموز) 2000 تحت رعاية كلينتون لبحث قضايا الحل النهائي مثل القدس والمستوطنات واللاجئين والحدود. وفشلت ضغوط كلينتون ورئيس الوزراء الاسرائيلي في ارغام عرفات على التنازل عن الثوابت الفلسطينية. وانتهت القمة بتحميل عرفات تبعات فشلها.

وكان فشل كامب ديفيد، «الذنب» الذي لم يصفح لعرفات وسيدفع ثمن غاليا... حياته. فجاءت زيارة ارييل شارون للمسجد الاقصى التي اشعلت انتفاضة الاقصى في سبتمبر (ايلول) 2000، لتقضي على أي امل في التوصل الى اتفاق.

وزاد من تدهور الاوضاع وصول شارون في مارس (اذار) 2001 الى السلطة ورفضه لاي تفاهمات توصل اليها الجانبان، وتوعده بالقضاء على الانتفاضة في غضون 100 يوم.

وزادت الانتفاضة اشتعال وتوالت العمليات الفدائية ردا على العدوان الاسرائيلي المتواصل الذي لجأت فيه إسرائيل الى استخدام، كل ما تجود به ترسانتها العسكرية حتى طائرات اف 16. وفي كل مرة كانت اسرائيل تحمل عرفات مسؤولياتها. ولم تكتف حكومة شارون بالقتل بل لجأت الى تدمير كل رموز السيادة من مطار وطائرات للسلطة. واخيرا اعادت احتلال الضفة الغربية وحاصرت عرفات في مقره في رام الله في مطلع ديسمبر (كانون الاول) عام 2001 . لكنه ظل صامدا رافضا لكل الضغوط، وظل قابضا على الجمر حتى داهمه المرض واعتلت صحته بل تدهورت على نحو متسارع، ليغادر مقره الذي سيظل رمزا للصمود الفلسطيني، على عجل لآخر مرة رافعا علامة النصر وهو ينثر القبلات يمينا وشمالا. لكن حسه الأمني لم يسعفه هذه المرة، ورغم ذلك سيظل رمز النضال والصمود الفلسطيني في حياته ومماته لان التاريخ لن يسجل عليه انه تنازل عن الثوابت الفلسطينية... القدس الشريف وحق اللاجئين بالعودة.