... ورحل عرفات تاركا الأسئلة والتكهنات

TT

في اليوم الرابع عشر من مغادرته مقر المقاطعة في رام الله استراح. وتوفي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات فجر امس في مستشفى بيرسي العسكري القريب من باريس الذي نقل إليه في 29 اكتوبر )تشرين الأول( الماضي. وجاء الإعلان عن الوفاة شديد الاقتضاب وبجملة واحدة قالها الجنرال كريستيان أستريبو، الناطق باسم قسم الصحة في الجيش الفرنسي الذي تحول منذ أسبوعين الى شخصية مركزية لأنها وحدها المخولة الحديث عن صحة الرئيس الفلسطيني المتوفى. قال الجنرال أستريبو للصحافيين الذين يحاصرون المستشفى منذ اسبوعين وكانوا ينتظرون خبر إعلان الوفاة بين لحظة وأخرى، «إن السيد ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية توفي في مستشفى بيرسي العسكري في كلامار، الساعة الثالثة والنصف من هذا الصباح، 11 نوفمبر (تشرين الثاني)». ورفض الجنرال الطبيب إضافة أي شيء آخر حول ظروف الوفاة، متحاشيا الخوض في الجدل الذي أثير بشأن وقف العمل بالأجهزة التي ساعدت عرفات على البقاء حيا بعد دخوله حالة من الغيبوبة العميقة قبل أسبوع وتدهور وظائف جسده الأساسية. وبإعلان وفاته، يكون قد رحل من دون أن يعرف بالتحديد السبب الذي كان وراء موته مما يترك الباب مفتوحا في المستقبل حول العديد من التكهنات.

وبعد إعلان نبأ الوفاة، بدأ أنصار عرفات من العرب والفلسطينيين والفرنسيين وغيرهم بالتوافد الى مدخل مستشفى بيرسي. وفي ساعات قليلة، تضخمت أعدادهم فيما عززت قوات الأمن الفرنسية المولجة حماية المكان حضورها ووسعت رقعة انتشارها بحيث شملت الطرقات المؤدية الى المستشفى الكائن على بعد عدة كيلومترات جنوب غربي باريس. وقبيل رفع الجثمان من المستشفى، كانت الطرق المفضية الى المستشفى قد غصت بالمتعاطفين مع الراحل والفلسطينيين ورفعت صور أبو عمار على مدخل المستشفى بينما تعالت الاصوات بهتافات مثل «أبو عمار ارتاح ارتاح، بدنا نواصل الكفاح» أو «أبو عمار صرح تصريح، يا جبل ما يهزك ريح».

فيما بدا التأثر واضحا على وجوه الحضور أمام المستشفى على رغم أن الجميع كان ينتظر نبأ الوفاة منذ عدة أيام، وكان الصحافيون يسعون من غير طائل للإستفهام عن ظروف الوفاة وعن اللحظات الأخيرة من حياة الرئيس الفلسطيني. غير أن هذه التساؤلات بقيت من غير أجوبة مقنعة.

ودبت الحركة في محيط المستشفى وتكاثرت السيارات الرسمية دخولا وخروجا وأعلن ان جثمان عرفات سينقل بطوافة من المستشفى الى قاعدة فيلاكوبليه العسكرية حيث ستجرى مراسم تكريم رسمية بحضور رئيس الوزراء الفرنسي جان بيار رافاران وعدة وزراء فرنسيين قبل أن يوضع في طائرة ايرباص حكومية لنقله الى القاهرة ومنها الى رام الله. وأفادت السلطات الفرنسية أن ميشال بارنييه، وزير الخارجية سيمثل فرنسا في تشييع عرفات في القاهرة. وكانت رئاسة الجمهورية الفرنسية الأسرع في إرسال رسالة تعزية وتضامن الى عائلة ابو عمار والى السلطة الفلسطينية. وكرت سبحة البرقيات التي تستخدم العبارات نفسها والتي تدور كلها حول الدور التاريخي الذي لعبه الراحل في مرحلة مصيرية من تاريخ الشعب الفلسطيني. ووصف الرئيس الفرنسي جاك شيراك عرفات بأنه «رجل الشجاعة والقناعات» وأنه «جسد خلال 40 عاما نضال الفلسطينيين من أجل الاعتراف بحقوقهم الوطنية». واضاف «أريد أن أعبر للشعب الفلسطيني في لحظة الحزن التي يعيشها، عن صداقة فرنسا والشعب الفرنسي له». ولم يكتف شيراك ببرقية التعزية والتضامن فقام بزيارة المستشفى العسكري لإلقاء نظرة أخيرة على جثمان الزعيم الفلسطيني. وبقي شيراك في الغرفة التي سجي فيها الجثمان حوالي النصف ساعة قدم تعازيه لسهى عرفات وليلى شهيد والمسؤولين الفلسطينيين الذي كانوا ما زالوا في المستشفى.

وأدلى الرئيس الفرنسي بتصريح مقتضب على باب المستشفى أعلن فيه أنه جاء الى بيرسي «للإنحناء أمام جثمان الرئيس ياسر عرفات ولتقديم التحية له مرة أخيرة». ووجه عبارات المواساة والتعزية الصداقة للشعب الفلسطيني وممثليه مؤكدا أن بلاده «ستستمر في العمل من الأجل الأمن والسلام في الشرق الأوسط وفي إطار احترام حقوق الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي».

وعبرت غالبية الشخصيات الفرنسية الرئيسية عن مواساتها للفلسطينيين وتوالت التصريحات والبرقيات من الرئيس الأسبق فاليري جيسكار ديستان الذي كان أول زعيم غربي يفتح عاصمته أمام ممثلية لمنظمة التحرير. ووصف ديستان عرفات بأنه «أحد الرجال القلائل في التاريخ المعاصر الذين جسدوا تطلعات شعبهم الى هوية».

وتدفقت طيلة نهار أمس الشخصيات والوفود على المستشفى العسكري لتقديم التعزية والتعبير عن التضامن. وحطت بداية بعد الظهر، في حرم المستشفى طوافتان عسكريتان فرنسيتان نقلت إحداهما جثمان عرفات الى مطار فيلاكوبليه. وعندما أقلعت الطوافة، رفع الحضور الذين يتجمهرون على مدخل المستشفى وفي الشوارع المحاذية أياديهم الى السماء حاملين باقات الزهور كتحية أخيرة للقائد الفلسطيني. وفي الساعة الرابعة والنصف تماما، حطت على مدرج القاعدة الجوية العسكرية طوافة بوما تابعة للقوات الأرضية الفرنسية حاملة نعش الرئيس عرفات وبرفقته ارملته سهى. واتجهت سهى فور وصولها الى الرسميين الذين اصطفوا مقابل الطائرة لتتخذ مكانها بين جان بيار رافاران ووزير الخارجية الفلسطيني نبيل شعث. وأنزل النعش الذي لف بالعلم الفلسطيني من الطوافة وحمله على الأكتاف ثمانية من الحرس الجمهوري الفرنسي فيما كانت موسيقى الجيش تعزف لحن الموت.

حضر الاحتفال العسكري الرسميون الفرنسيون والعرب وبعض الشخصيات السياسية الفرنسية والعربية والإسلامية الموجودة في فرنسا. وحضر، الى جانب رافاران كبريات شخصيات الجمهورية الفرنسية مثل رئيس البرلمان جان لوي دوبريه ووزير الخارجية ميشال بارنييه. كذلك حضر رئيس الحكومة السابق الإشتراكي ليونيل جوسبان ولوران فابيوس، وهو رئيس حكومة سابق ووزير الخارجية الأسبق رولان دوما والعشرات من الشخصيات السياسية الفرنسية والسلك الدبلوماسي العربي يتقدمه عميده سفير الجزائر محمد غوالمي.

وفيما نقل النعش من الطوافة، شهرت مفرزة الحرس الجمهوري التي كانت تؤدي التحية العسكرية سيوفها وعزف النشيد الوطني الفلسطيني ثم النشيد الوطني الفرنسي. وبعد ذلك، حمل النعش مجددا وبعد طواف قصير أدخل الى طائرة ايرباص الحكومية التي تحمل على مقدمها عبارة «الجمهورية الفرنسية». وقدم المسؤولون الفرنسيون تعازيهم لسهى عرفات والمسؤولين الفلسطينيين قبل أن تقلع الطائرة الحكومية ليلا الى القاهرة حاملة النعش. وفي هذه الاثناء، تجمهر على مدخل القاعدة الجوية، عدة مئات من المتظاهرين الذين قدموا لحضور المراسم. غير أنهم أبقوا على المدخل. فاكتفوا بإطلاق بعض الشعارات.

وهذه المرة الأولى التي تعرف فيها فرنسا مثل حالة عرفات أي أن يتوفى على أراضيها رئيس دولة. وتعاطت باريس باستمرار مع عرفات على أنه رئيس دولة وهو ما يفسر المراسم التكريمية التي قدمت له وحضور هذا العدد من المسؤولين وترحيله الى مصر على متن طائرة حكومية فرنسية.